أمير العمري
يأتي الفيلم البريطاني “عين في السماء” للمخرج غافين هود (من جنوب أفريقيا) الذي حقق شهرة عالمية بعد حصول فيلمه السابق “تسوتسي” (2005) على جائزة أحسن فيلم أجنبي في مسابقة الأوسكار، متحدثا عن موضوع استخدام الطائرات دون طيار من زاوية أكثر اتساعا من فيلم “قتل جيد” لأندرو نيكول. ويضم “عين في السماء” عددا من النجوم مثل البريطانية هيلين مرين وزميلها آلان ريكمان في آخر أدواره قبل وفاته مؤخرا، والأميركي أرون بول، والممثل الأميركي من أصل صومالي بركات عبدي الذي تألق في دور زعيم القراصنة الصوماليين في فيلم “القبطان فيلبس” (2013).
ونحن أمام عملية عسكرية مشتركة بين البريطانيين والأميركيين، بقيادة كولونيل في الجيش البريطاني هو كاثرين باول والتي تجسد دورها فيه هيلين مرين في نطاق “الحرب ضد الإرهاب”، ولكن هذه العملية نفسها التي يتم تعليقها حتى آخر لحظة ليست هي أساس الدراما المثيرة في هذا الفيلم المصمم بحيث يثير أكبر شحنة عاطفية لدى المشاهدين، بل ملابسات العملية وما يحيط بها ويطرح من خلاله الفيلم سؤالا أخلاقيا حول مشروعية الضربة العسكرية التي يُقصد منها منع وقوع عملية إرهابية كبيرة، إذا كان يمكن أن تؤدي هذه العملية إلى مقتل طفلة كينية بريئة تدخل إلى الصورة في اللحظة الأخيرة.
تعدد الخطوط
يتخذ السرد في الفيلم، بحسب سيناريو غاي هيبرت، مسارات عدة من أماكن مختلفة تصب كلها في بؤرة واحدة. هناك أولا القاعدة العسكرية في جنوب إنكلترا، حيث تقود الكولونيل كاثرين العملية، وتكون على اتصال مباشر بالصوت والصورة مع طريق محطة سرية للمراقبة موجودة على الأرض في العاصمة الكينية نيروبي، تراقب منزلا في ضواحي المدينة يجتمع بداخله عدد من الإرهابيين يستعدون لشن عملية انتحارية كبيرة، وبينهم فتاة بريطانية اعتنقت قبل فترة الإسلام وتزوجت من بريطاني مسلم والتحق الاثنان بحركة “الشباب” الصومالية التي لديها عملاء في كينيا، كما يوجد بين المجموعة أيضا شاب يحمل الجنسية الأميركية.
ومن داخل شاحنة صغيرة، يقوم عملاء مكتب المخابرات في كينيا الذي يقوده الجنرال موسى، بمراقبة المنزل بالاستعانة بالعميل الأرضي المحلي (يقوم بالدور ببراعة وإقناع بركات عبدي) مستخدما أداة تكنولوجية متقدمة على شكل خنفساء صغيرة يقوم بتحريكها بواسطة جهاز صغير يشبه جهاز الهاتف المحمول، إلى أن تستقر فوق نافذة أو تتسلل إلى داخل المنزل لتنقل بالصورة ما يحدث.
المحور الثاني من داخل القاعدة العسكرية الأميركية في صحراء نيفادا، حيث يوجد الضابط أرون بول وزميلة مستجدة معه، وهما المسؤولان عن قيادة وتوجيه الطائرة دون طيار التي تطير فوق نيروبي.
أما المحور الثالث فتدور أحداثه داخل مبنى لوزارة الدفاع في لندن، حيث يوجد الجنرال فرانك بنسون (آلان ريكمان) منسق العمليات الخاصة مع الجانب السياسي، ويتابع الوزير والنائب العام وبعض المستشارين تطورات الموقف.
والمحور الرابع القاعدة العسكرية الأميركية في بيرل هاربور بالمحيط الهادئ، حيث تقوم رتبة عسكرية (امرأة) بتحليل الصور وتأكيد شخصيات الموجودين داخل المنزل، ثم الضحايا في ما بعد بواسطة قاعدة البيانات الرقمية المتوفرة لديها.
الكولونيل كاثرين ترى أن الفرصة قد لاحت أمامها أخيرا لتوجيه ضربتها ضد الإرهابية سوزان التي ظلت تبحث عنها وتتعقبها منذ ست سنوات مع غيرها من العناصر الإرهابية، لكن المشكلة أن لديها فقط أمرا باعتقال العناصر المشتبه بها وليس قتلهم.
ومن خلال الصور التي ترصد ما يحدث داخل المنزل، يتم التأكد من اعتزام المجموعة شن هجمات انتحارية يمكن أن تؤدي إلى مقتل عدد كبير من المدنيين الأبرياء، فتطلب كاثرين الإذن بتوجيه ضربة عسكرية مباشرة بواسطة الطائرة دون طيار التي تطلق عليها “عيني في السماء”.
وبينما يتداول المسؤولون البريطانيون الأمر تنشأ مشكلة جديدة عندما تقترب فتاة كينية في العاشرة من عمرها (هي عائشة) من موقع المنزل، وهي ترص بعض أرغفة الخبز لبيعها إلى المارة، ولكن سرعان ما يتم توجيه ضربة للمنزل القريب ستؤدي غالبا إلى مقتل عائشة.
تزداد الحبكة تعقيدا مع بروز الخلافات بين الأطراف المتصارعة، فالجنرال البريطاني فرانك بنسون يتفق مع الكولونيل كاثرين على ضرورة توجيه الضربة فورا، ولكن الوزير المسؤول يرفض بدعوى أنه لا يمكنه اتخاذ قرار يكمن أن يتسبب في قتل طفلة بريئة، خاصة بعد أن تلفت مستشارة الوزارة نظره إلى أن بريطانيا لم يسبق لها أن وجهت ضربة في بلد ليس في حالة حرب معها بواسطة طائرات دون طيار. ويجسد الفيلم الفرق بين العقليتين البريطانية والأميركية من خلال تصوير كيف لا يمانع الأميركيون في توجيه الضربة على الفور، ومع ذلك يعترض المسؤول البريطاني ويطلب الحصول على إذن من وزير خارجية بلاده، لكن الوزير موجود في سنغافورة، وعندما يتمكنون من الاتصال به يكون في دورة المياه يعاني من تسمم غذائي، لكنه يطلب استشارة وزير الخارجية الأميركية بسبب وجود مواطن أميركي بين المستهدف قتلهم.
وفي المقابل، الوزير الأميركي موجود في الصين في زيارة رسمية، وعندما يتصلون به يكون منهمكا في لعب مباراة في البينغ بونغ مع الوفد الصيني المفاوض، ولكنه يمنح الموافقة بتوجيه الضربة دون مناقشة، وهذه المشاهد “الخفيفة” مقصودة لإضفاء بعض الفكاهة على الفيلم.
ولتصعيد الإثارة وتأجيجها، تأمر كاثرين بالاتصال بالعميل الموجود على الأرض (بركات) ليذهب ويشتري كل الأرغفة من الفتاة ويطلب منها الابتعاد فورا، وفي هذه اللحظة تحديدا تفاجئه قوة تابعة لتنظيم الشباب الإرهابي يتعرّف أحدهم عليه، ويبدأ في مطاردته مما يجعله يلقي بالأرغفة على الأرض فتلتقطها الفتاة وتعود إلى عرضها للبيع مجددا.
وهكذا من خلال هذا التداخل والتفاعل بين الشخصيات المختلفة، يصل الفيلم إلى ذروة من السخرية الهزلية قبل أن يصعد إلى ذروة الميلودراما عندما تتمكن الكولونيل كاثرين أخيرا من إقناع المسؤولين على الجانبين بضرورة توجيه الضربة الآن، وهنا يمتنع الضابط المكلف بتوجيه الضربة في القاعدة الأميركية عن تنفيذ الأمر خشية من تعريض حياة الفتاة الكينية للخطر. وسيقتضي الأمر من كاثرين بذل المزيد من الجهود وممارسة الضغوط للحصول من الضابط المكلف بدراسة التقديرات على تقرير (مزيّف) يقلل كثيرا من حجم الخسائر المحتملة، ومن خلال هذه الحبكة يطرح الفيلم بعض التساؤلات الأخلاقية مثل، هل الغاية تبرر الوسيلة؟ هل يساوي إنقاذ أرواح العشرات من الأبرياء التضحية ولو بفتاة واحدة بريئة؟
السياسيون في الفيلم، لا يريدون تحمل المسؤولية خشية من استغلال الطرف المستهدف ما يقع من الضحايا من الأطفال في الدعاية المضادة، وهنا يبرز سؤال آخر: هل خسارة الحرب الدعائية في المعركة أهم أم إجهاض العملية الإرهابية؟ وهل من المبرر اللجوء إلى الكذب وتزييف الحقيقة من أجل تحقيق الهدف؟ وهنا يحاول الفيلم أن يكون محايدا في طرح هذه التساؤلات.
استعراض التكنولوجيا
تقوم فكرة الفيلم على تصوير التناقض بين العسكريين والسياسيين، وبين القانونيين والمسؤولين الحكوميين، وبين العقلية البريطانية والعقلية الأميركية، وبين العاملين في القواعد العسكرية البعيدة، والعاملين على الأرض في مواجهة مباشرة مع المخاطر.
ويقول الجنرال فرانك بنسون، إن السياسيين يصدرون لهم الأوامر بشن الحرب وعندما يستجيبون يبحث السياسيون عن وسيلة للتنصّل من المسؤولية من ناحية، ومن ناحية أخرى يضفي الفيلم نزعة إنسانية واضحة على من يقومون بتنفيذ الهجمات بواسطة الطائرات التي تعمل دون طيار، ويجعل الضابط (بول) يتردد في إصدار الأمر لزميلته بالضغط على الزناد، بل ويتمرد على رؤسائه ويعطل تنفيذ العملية إلى اللحظة الأخيرة، وبعد أن يرغم على تنفيذ الأمر، تمتلئ عيناه بالدموع. إمعانا في إضفاء بعد واقعي مقنع على الفيلم يتم التواصل بين الأطراف المختلفة عبر شاشات كبيرة داخل الغرف والقواعد العسكرية، ومن خلال الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر، ويتم نقل الصور من نيروبي إلى تلك الأماكن من خلال كاميرات سرية مركبة داخل أجهزة دقيقة للغاية.
وينجح المخرج في التحكم في الانتقالات بين مختلف الأطراف، حيث لا يقع أي خلل في الإيقاع اللاهث، إلى أن نصل إلى الجزء الأخير من الفيلم، حيث تطغى المبالغات وتمتد اللقطات والمشاهد طويلا، ويبدو التأثر الشديد على وجوه الجميع، وتفقد المستشارة القانونية للوزير البريطاني القدرة على التحكم في دموعها، وتنفعل على الجنرال آلان ريكمان، فتتهمه بممارسة القتل بينما هو جالس يحتسي القهوة في مكتبه.ورغم براعة المخرج في استغلال الديكورات وأماكن التصوير الخارجي (في جنوب أفريقيا) ومهارته في إبراز الملامح المتباينة بين مختلف الشخصيات مع التحكم في أداء الممثلين، إلاّ أن الفيلم يعاني من الإفراط في الحوار ويميل إلى الشرح والتكرار.
“عين في السماء” فيلم جيد الصنع، هدفه الأساسي تجميل العسكرية الأميركية والبريطانية، والعثور على مبررات لاستخدام الطائرات دون طيار، فيما يسمى “الحرب على الإرهاب”، وإن كان يشي من الظاهر
بالتوازن بين وجهة النظر الإنسانية والرؤية العسكرية التي لا يهمها في نهاية الأمر سوى تحقيق نتائج مباشرة على الأرض مهما كان الثمن.
____
*العرب