رواية أصوات متعددة عن مريض نفسي وراو غير جدير بالثقة


*سيد ضيف الله


يمكن الزعم أن رواية “ابن القبطية” للشاعر والكاتب المسرحي المصري وليد علاء الدين، تتفرد بتناولها لوضعية الهوية الهجينة الناتجة عن زواج المسلم بغير مسلمة/ قبطية، ذلك الزواج الذي تقره الديانة الإسلامية ، وهي ديانة الأغلبية في العالم العربي، ومن المهم أن نميز هنا بين هذه الوضعية الهجينة المعترف بها دينيا وبين أعمال أدبية أخرى انشغلت بغير المسموح به دينيا، إذ طرحت زواج المسلمة بغير المسلم، مثلما فعل على سبيل المثال إحسان عبدالقدوس.
تكشف معالجة وليد علاء الدين للهوية الهجينة المعترف بها دينيا عن فجوتين: الأولى فجوة بين المسموح به دينيا وحياة هؤلاء المتدينين، والثانية الفجوة بين ماض شبه تعددي وحاضر أصولي إقصائي بامتياز! وذلك بوضع “يوسف حسين” الذي يطلق عليه الناس “ابن القبطية” منذ الصفحة الأولى في الرواية، الصادرة عن “الكتب خان” (2016)، في حالة المريض النفسي، المُصاب بالفصام، حيث كانت أعراضه، بحسب التقرير الطبي الذي يفتتح به الكاتب الرواية، توهمات اضطهادية وهلوسات سمعية وبصرية، ونظرا إلى حب يوسف للكتابة فإن الطبيب يستفيد من ذلك بأن يجعله يكتب كل ما يشعر به في كراسته الزرقاء ليساعده على العلاج. وفي هذا السياق يتحدد بناء الرواية من الصفحة الأولى بأنها ستكون رواية تفتتح بتقرير طبي، وتكون كتابة المريض المصاب بالهلوسات السمعية والبصرية هي الرواية ذاتها، وأن هذا البناء يتماشى مع توقعات القارئ بأن الرواية رواية بوح من شخصية مضطهدة في وضع الهوية الهجينة، بسبب تعصب المجتمع المحيط بها، مما أفضى إلى إصابتها بأزمات نفسية! هذا حقيقي إلى حد ما.
رواية مونولوجية
إن الرواية إلى جانب تقرير الطبيب وشهادة يوسف حسين على نفسه وعلى عالمه، امتدت على واحد وعشرين فصلا، أي من ص9 إلى ص 154، وهي كل فصول الرواية، كما اشتملت على ملحق ثان يحمل عنوان “من كراسة يوسف الزرقاء”.
ثمة أمور تدحض التلقي المبدئي للرواية باعتبارها مجرد رواية مونولوجية، حسب تعبير ميخائيل باختين، ليبوح فيها ويشكو مضطهدا أسباب هويته الهجينة، من هذه الأمور أننا أمام ملحقين وليس ملحقا واحدا، مثلما وعد الطبيب المعالج في تقريره الذي تصدر الرواية، ونسبة الملحقين ليوسف يعني أن ثمة تدليسا فنيا متعمدا في بناء الرواية. والأمر الثاني أن الراوي يوسف حسين المصاب بالهلوسات السمعية والبصرية بنى المؤلف عليه روايته، وهو يريده أن يكون راويا غير جدير بالثقة.
الراوي غير الجدير بالثقة مصطلح نقدي وضعه واين بوث في السبعينات من القرن الماضي، ليقول لنا من خلاله إن الخصال الثقافية والأخلاقية للراوي تهمنا أكثر من تلك التصنيفات التي تنشغل بما إذا كانت الإشارة إلى الراوي بضمير المتكلم أم الغائب. وإذا كان لا يمكن لرواية أن تقوم لها قائمة دون راو، فإن “ابن القبطية” اختار لها مؤلفها أن يقيمها على راو غير جدير بالثقة على أكثر من مستوى: الأول أنه راو ابن هوية هجينة لا يثق به عموم الناس من حوله، ربما بسبب أنه ينتمي إلى كل منهم على حد ما، إنه ليس منهم بمعنى الكلمة. أما المستوى الثاني أنه راو غير جدير بالثقة لأنه مصاب بالهلوسات السمعية والبصرية مما يفقد القارئ الثقة في مروياته عن نفسه وعن الآخرين، وهو ما يؤكده يوسف بنفسه.
“لم أخف عنكم أنني كذاب، لم أخدعكم، قلت لكم إنني أكتب بتحريض من طبيبي النفسي (…) فقط عندما عرف أنني أحب الكتابة طلب مني أن أكتب كل ما أشعر به، لكنه أبدا لن يحظى مني بذلك، ما أشعر به أخطر من أن أكتبه في كلمات، لقد زيفت الحقائق وقلبت الأفكار ونسبت لنفسي ما فعله آخرون”.
هويات غائبة
إن هدف الراوي غير الجدير بالثقة دحض الإيهام بصدق ما يكتب، بل وتأكيد كذبه، لإبعاده عن مجال الشهادة التي يكتبها مريض لطبيب بقدر ما يقربه من مجال الأدب قرين الهلوسات أو الخيال المريض. إن عدم الانتباه لاعتماد المؤلف على تقنية الراوي غير الجدير بالثقة قد يفضي بالقارئ إلى الإحساس بالارتباك الناتج عن عدم القدرة على التمييز بين الأصوات داخل الرواية، فالتمييز بين الأصوات ليس غاية المخطط السردي لهذه الرواية بقدر ما أن الغاية -فيما أظن- هي تأكيد حالة الالتباس والهجنة والزيف المتعمد على مستوى الصوت السردي وعلى مستوى الهوية التي يحملها هذا الصوت، بل إن الرواية تعتمد على ظلال تتراءى للراوي المريض نفسيا فيستنطقها مرة بضمير المتكلم وأخرى بضمير الغائب مثلما فعل مع حكاية أمل حبيبته، وحكاية أمه وحلمها بعد أن كان هو الراوي الوحيد الذي يستخدم ضمير المتكلم.
وهنا يكون التمييز الطباعي في الملحق الأول بين سرد الراوي يوسف وكلام الشخصيات (أمل- الأم- راحيل، إلخ.) حيلة فنية للإيهام بالتمييز بين الأصوات، لكنها تؤطرها حيلة فنية أشمل وهي تقنية الراوي غير الجدير بالثقة. إن اعتراف الراوي بكذبه وعدم جدارته بالثقة لا يعني أنه بنى عالما روائيا بلا حقائق، وإنما يعني بحسب إشارته كذلك أن “الحقائق منثورة بين أكاذيبه باعتبارها موحى إليه بها”.
ومن ثم لا حقائق يتمّ بناؤها إلا بنسج محكم بين أكاذيب! وهو ما فعله الراوي ابن الهوية الهجينة حين نسج بين مجموعة أكاذيب وهلوسات سمعية وبصرية ليكشف عن عدد من الحقائق السردية التي يمكن لمن يهوى استخلاص الحقائق وتمجيدها أن يجدها عند الربط بين الملحقين المنسوبين للراوي يوسف حسين غير الجدير بالثقة.
ربما نكتشف مع الراوي أن أجسادنا هي ثمن هوياتنا الغائبة التي نسعى إليها، مثلما كان جسدا كل من يوسف وراحيل -تلك الفتاة اليهودية التي سعت إلى أن تنجب من يوسف فتاة ذات رحم اشتركت فيه الأديان الإبراهيمية الثلاث حتى لا يرث ابن لها كراهية العالم له لكونه يهوديا- قربانين لهوية غائبة، بينما راحيل نفسها كانت تهرب الآثار المصرية، أو قد نكتشف أن هوياتنا ليست سوى صفقة، مثلما بادل الراوي شيئا في ضلوعه بحقيبة بينما هو يشكو مجتمعا رفض زواجه من “أمل” المسلمة، أو قد نكتشف أننا نحتاج لنصعد إلى هوياتنا الغائبة أو أنه “لا يفنى في الله من لم يعرف قوة الرقص” كما كان يردد يوسف المريد لمولانا جلال الدين الرومي.
____
*العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *