عن الراهنيّة السياسيّة لغسّان كنفاني: أسئلة ومواقفُ مستعادة


*أحمد مصطفى جابر


ما معنى اليسار؟ كيف نشرّح معسكرَ الأعداء؟ كيف نتعامل مع قضايا التطبيع مع العدوّ؟ هذه الأسئلة، وغيرُها من الأسئلة الراهنة والملحّة، تعامل معها غسّان كنفاني، وسعى إلى إصدار موقفٍ متماسكٍ منها، وذلك من موقعه كمثقفٍ كبيرٍ وكقائدٍ بارزٍ في صلب حركة تحرّر وطنيٍّ مقاتلة. والهدف من هذا النصّ هو الإضاءةُ على الراهنيّة السياسيّة والفكريّة لهذا الروائيّ والقصّاص والرسّام والكاتب المسرحيّ والقائد السياسيّ والمنظّر الإيديولوجيّ في ذكرى استشهاده الرابعة والأربعين.
لم يكتفِ غسان، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، بالتشديد على الوحدة العربيّة والعروبة، بل كان سؤالُ اليسار ومعناه وضرورتُه وانجدالُه مع العروبة في صلب أطروحاته ونقاشاته كذلك. وعلى سبيل المثال كتب يناقش موضوعًا ما زال راهنًا إلى اليوم لأنّه يمسّ نقاطَ الالتقاء والانفصال بين أخلاقيّة اليسار وبراغماتيّته، وبين الغاية والوسيلة:
“إنّ يساريّة أيّ فكرةٍ تحتّم اختيارَ وسائلَ تتواءمُ مع هذه الفكرة. اليسار هو الغايةُ والوسيلةُ معًا. وحينما تضع الاشتراكيّةُ لنفسها غايةً كبيرةً ولمصلحةِ الشعب، فيجب أن تنتهجَ أساليبَ كبيرةً لا تُضِرّ به. وحينما تُذَلُّ الغايةُ بإذلال الوسيلة، يَفقد اليسارُ أهمَّ صفاته: أخلاقيّتَه واستقامتَه. وحين يهادِنُ اليسارُ اليمينَ، فمعنى ذلك أنّه فقد صفةَ اليسار. وحينما تصبح غايةُ اليسار مكاسبَ حزبيّةً ضيّقةً، [فإنّه] يصبح غيرَ جديرٍ بهذه الصفة.”(1)
من هذا المنطلق لم يتردّدْ غسان في تفكيك موقف بعض الشيوعيين “الرسميّين” من قضيّة الوحدة العربيّة مثلًا. فهم حين رفعوا في العراق شعارَ “الاتحاد في وجه الوحدة” سنة 1958، لم يكن موقفُهم منسجمًا مع جوهر التفكير اليساريّ، وإنّما لجأوا إلى شعارٍ مفرغٍ من المضمون (هو “الاتحاد”) خشية انفضاض الجماهير عنهم إنْ هم عارضوا الوحدة.(2)
***
أمّا في قضيّة التطبيع والعلاقات مع العدوّ، وهي من أخطرِ القضايا وأكثرِها راهنيّةً وإلحاحًا اليوم، فيؤكّد غسّان أنّ المسألة لا تخضعُ للاجتهادات الشخصيّة: “إنّنا في حالةِ حربٍ مع إسرائيل؛ حربٍ يَسْقط فيها شهداءُ كلَّ يوم؛ حربٍ يخوضها شعبٌ نصفُه في المنفى، ونصفُه الآخرُ تحت قمع الاحتلال، وآلافُ الشباب يقبعون في السجون.”(3) وعليه، كما يتابع، فإنّ “مقاطعتَنا [للعدوّ] نابعةٌ من طبيعة المواجهة. والمقاطعة، بحدّ ذاتها، وجهة نظر وموقف.”(4)
كما لاحظ هزالَ النتائج التي أسْفرتْ عنها اللقاءاتُ التطبيعيّة، بل ضررَها الفادح، ولو كانت “برعاية” طرفٍ ثالث أو “توسّطه.”(5) ومن حقّ القارئ هنا أن يتساءل: إذا كان ذلك رأيَ غسّان كنفاني قبل أن يصنِّف العدوُّ المقاطعةَ “خطرًا إستراتيجيًّا” على كيانه، وقبل أن يخصِّصَ لمواجهتها قبل أيّام محورًا في مؤتمر هرتزليا الإستراتيجيّ، (6) فكيف سيكون رأيُه اليوم؟!
يقول غسان “إنّ الجلوس مع العدوّ، حتى في أستوديو تلفزيونيّ، هو خطأٌ أساسيٌّ في المعركة. وكذلك فإنّه من الخطأ اعتبارُ هذه المسألة مسألةً شكليّة. إنّنا في حالة حربٍ، وهي بالنسبة إلى الفلسطينيين، على الأقلّ، مسألةُ حياةٍ أو موت. ولا بدّ من التزام جمهرة الشعب الفلسطينيّ بالشروط التي تستوجبها حالةُ حربٍ من هذا الطراز.”(7) وإذا كان غسان، الناطقُ الرسميّ باسم الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، وأحدُ أبرز الإعلاميين السياسيين الفلسطينيين، وصاحبُ الخبرة الكبرى في مجال العلاقات الإعلاميّة الدوليّة آنذاك، يقول إنّ صرفَ مئات الساعات مع الصحفيين والإذاعيين الأجانب خلال سنوات قد أدّى إلى نتائجَ تكاد لا تُذكر،(8) فكيف يُقْنعنا مثقفٌ أقلُّ شهرةً وخبرةً ومعرفةً بأنّ لقاءه مع صحيفة صهيونيّة أو قناةٍ تلفزيونيّةٍ ليكوديّة سيُعَدّ “اختراقًا للعقل الإسرائيليّ”؟! ألا يمكن اعتبارُ فعلتِه انشقاقًا أخلاقيًّا عن الموقف الوطنيّ والقوميّ المفترض؟!
إنّ المناظرات واللقاءات الإعلاميّة مع ممثّلي العدو عبر الفضائيّات اليوم، حتى حين تظهر وكأنّها “انتصارٌ مؤقتٌ” للفلسطينيين وأنصارِهم، إنّما هي في جوهرها تروِّج لـ”ديمقراطية” العدوّ، وتسمح له ببثّ دعاياته الكاذبة الأخرى، وتمنحه دخولًا مجّانيًّا إلى منازلنا. ولعلّنا نضيف أنّ وسائل الإعلام التطبيعيّة، العربيّةَ وغيرَ العربيّة، ولو سمحتْ بتمرير جزءٍ من الحقيقة الفلسطينيّة في سياق كذبةٍ كبيرة، فستَرسِّخ في عقل الجمهور هذه الكذبة، بحيث تصبحُ شذراتُ الحقيقة الممرّرة محضَ بضاعةٍ زائدةٍ يطَّرحُها المتلقّي مباشرةً.
لا يقترح غسان بطبيعة الحال الانغلاقَ على الذات، والعيشَ في قمقمٍ نجهل فيه عدوَّنا ونتركُ له الساحة. ولكنّه يرى أنّ أمرَ المعركة الإعلاميّة يجب أن يستندَ إلى استراتيجيّاتٍ واضحة، وأن نتشاورَ في ذلك مع أصدقائنا الغربيين الذين بوسعهم أن يقدّموا في ضوء الواقع شكلَ المعركة الإعلاميّة وأدواتِها. لكنّ استراتيجيتنا الفلسطينيّة العربيّة، في النهاية، هي التي تنفّذ، بتكتيكاتٍ يتمّ التعاون معهم على إنتاجها.
***
القضيّة الأخرى التي يناقشها غسان هي مسألة التعرّف على العدوّ ومتابعةِ إنتاجه العلميّ والمعرفيّ والثقافيّ. مراقبة العدو جزءٌ أساسٌ من استراتيجيّة المعركة في رأي غسّان، فلماذا نخشاها ونتهيّبها؟ “لا أستطيع أن أفهمَ كيف نتردّد، حتى الآن، في الاطّلاع، وفي السماح بالاطّلاع، على مصادرِ وأشكالِ فكرِ العدوّ، “يقول غسّان.(9) ولا يخفى، للأسف، أنّ مناهجنا في حالةٍ بائسةٍ من التردّي المعرفيّ والمنهجيّ، ولا تستطيع استيفاءَ المهمة. وفي هذا الصدد ربط غسان، محقًّا، بين الثورة والتربية. وهنا نتعرّف على غسان التربويّ الذي أكّد ضرورة أن نوفّر لطلّابنا في دراستهم العليا كلَّ ما يُنتج في “إسرائيل” من صحافةٍ وكتبٍ وإنجازات، داعيًا إلى “برنامجٍ للتنشئة الوطنيّة، قائمٍ على البحوث العلميّة والحقائق التاريخيّة والتحليلات السليمة، ما يضع طلّابَنا، وهم في صفوفهم جميعِها، في صلب معارك أمّتهم ومصالحها.”(10)
(1) من دراسته: “القضيّة العربيّة في عهد الجمهوريّة العربيّة المتحدة،” في: المؤلَّفات الكاملة: الدراسات السياسيّة، هامش رقم 6، صفحة 167.
(2) المصدر السابق، وخصوصًا الصفحات 155-157.
(3) من دراسته: “قضيّة أبو حميدو وقضايا ‘التعامل’ الإعلاميّ والثقافيّ مع العدوّ،” في: المؤلَّفات الكاملة: الدراسات السياسيّة، ص 503-504.
(4) المصدر السابق، ص 505.
(5) المصدر السابق، في نقاشه لمناظرة طالبيْن فلسطينيين مع طالبيْن إسرائيلييْن برعاية BBC، ص. 504-507.
(6) http://www.herzliyaconference.org/eng/_Uploads/dbsAttachedFiles/ProgramE…
(7) المصدر السابق، ص507.
(8) المصدر السابق، ص 506.
(9) المصدر نفسه، ص 508.
(10) المصدر نفسه ص509.
___
*مجلة الآداب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *