الفيلسوف والواقع.. معركة من أجل الحرية وإثبات الذات


*عبد القادر لعميمي


خاص ( ثقافات )



اســتـــهــــلال 
الحرية، … ولادتها، … أزماتها، … رهاناتها، … نتائجها : لحظات مكتوبة بدماء الإنسان، لحظات تشي برغبة هذا الكائن في الانعتاق من وهم ذاته، والسباحة في مياه الفكر والمعرفة، لحظات يتجسد عبرها تاريخ البشر، بدء من لحظة الميلاد العظيم مع اليونان، حيث الانتكاسة مع سقراط، مرورا بلحظة التعلق بالمتعالي ومفارقة الزّمكان الأرضي، وصولا إلى لحظة النّكبة المسيحية والمحنة الرّشدية (محنة بن رشد) مع النقل.. شاء للحرية أن تولد من رحم المأساة، فانبثقت الأنا الحرة العاقلة من فضاء التوترات والمعاناة، فظهر الكوجيطو (أنا أفكر إذن أنا موجود) كتأكيد على أن الحرية لا تموت وإن مات حاملها، فهي بمثابة طائر الرّخ الذي ينبعث من رماده. وهكذا وجدت الذات الإنسانية قيمتها في حريتها، وفي رؤيتها الجديدة والحرة في العالم، فأن تكون حرا معناه أن تكون لك القدرة على خلق رؤية ذاتية وجديدة للوجود، فالحرية هي المبدأ والأصل، أصل سيترسّخ أكثر مع الفلسفة الوجودية التي أكدت على أن الحرية ليست عبارة جوفاء تؤدي إلى الفوضى، ولكنها مقولة حاملة لقيم الفعل الخلاَّق والمسؤولية الذاتية والاجتماعية، والانفتاح على الغير واستضافته في العالم، بعيدا عن القيم اللاإنسانية، كالعنف والنبذ والتهميش والإقصاء..
فخذ بنا لنفصل القول في ذلك تفصيلا..
ما معنى الحرية في دلالتها الفلسفية والسياسية، والاجتماعية والأخلاقية والنفسية ؟؟
1- معنى الحرية 
للحرية معان عدّة، تختلف من حقل معرفي إلى آخر، وذلك، نظرا لطابعها الدلالي المركّب، فهي من أغنى المفهومات الفلسفية عن التعريف. لكنها في العادة تدل على تلك الملكة التي تميز الكائن العاقل الناطق، من حيث هو موجود واع يمارس الفعل بإرادته هو، لا بإرادة كائن آخر غريب عنه. 
ومن هنا، فقد اصطلح التقليد الفلسفي على تحديد الحرية بأنها اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره أو القدرة على اختيار ضده. غير أننا لو رجعنا إلى المعاجم الفلسفية لوجدنا أن كلمة “الحرية” تحتمل من المعاني ما لا حصر له، بحيث قد يكون من غير الممكن أن نتقبّل تعريفا واحدا باعتباره تعريفا عاما يصدق على سائر حدود الحرية. 
فمعجم صليبا الفلسفي (مثلا) ينسب للحرية ثلاث معان، معنى عام ومعنى سياسي واجتماعي ثم معنى نفسي وخلقي. فالمعنى العام لمفهوم الحرية يشير إلى “خاصية الموجود الخالص من القيود، العامل بإرادته أو طبيعته” ، بمعنى آخر انعدام القسر الخارجي، والإنسان الحر بهذا المعنى هو من لم يكن عبدا أو أسيرا، فليس للسجين حرية لأنه لا يستطيع أن يفعل ما يريد. أما معنى الحرية سياسيا واجتماعيا فهو على قسمين : الحرية النسبية والحرية المطلقة. فالأولى هي الخلوص من القسر، والإكراه الاجتماعي. حيث إن الحر هو الذي يأتمر بما أمر به القانون ويمتنع عما نهى عنه. فحرية الإعراب عن الفكر والرأي أثمن حقوق الإنسان، ولكل مواطن الحق في حرية الكلام والكتابة والنشر، على أن يكون مسؤولا عن عمله في الحدود التي يعينها القانون(المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في فرنسا لسنة 1789). وممارسة الفرد لحقوقه وحرياته خاضع أيضا للقيود التي يعينها القانون والغرض من ذلك الاعتراف بحقوق الغير واحترام حرياته وتحقيق ما يقتضيه النظام العام من شروط عادلة.
أما الثانية فهي حق الفرد في الاستقلال عن الجماعة التي انخرط في سلكها، وليس المقصود بهذه الحرية حصول الاستقلال بالفعل، بل المراد منها الإقرار بهذا الاستقلال واستحسانه، وتقديره، واعتباره قيمة خلقية مطلقة. وفرقوا بين الحرية المدنية والحرية السياسية، فقالوا: الحرية المدنية هي استمتاع الأفراد بحقوقهم المدنية في ظل القانون. أما الحرية السياسية فهي استمتاع الأفراد بحقوقهم السياسية وإشراكهم في إدارة شؤون بلادهم مباشرة أو بواسطة ممثليهم. وإطلاق الحرية على الدولة يدل على سيادتها واستقلالها. في حين أن معناها النفسي والخلقي فهو حالة الشخص الذي لا يقدم على الفعل إلا بعد التفكير فيه، سواء كان ذلك الفعل خيرا أو شرا، فهو يعرف ما يريد ولم يريد. ولا يفعل أمرا إلّا وهو عالم بأسبابه. لذلك قيل إن الحرية هي الحد الأقصى لاستقلال الإرادة العالمة بذاتها المدركة لغايتها. و”الحرية الذاتية من الناحية الأخلاقية هي العمل بمقتضى الواجب الأخلاقي عبر السير وفقا لمبادئ أخلاقية يقرّها العقل وتتقبلها الإرادة وليس العمل بمقتضى الدوافع الغريزية أو التصرف كموجود غير مسؤول” . أما في علم النفس فتدل الحرية على تحقيق الفعل دون خضوع لتأثير قوى باطنة سواء أكانت ذات طابع عقلي (بواعث motifs)، أم ذات طابع وجداني (دوافع mobiles)” ، فنحن هنا بإزاء حرية سيكولوجية تعبر عن انعدام كل ضرورة باطنة وامتناع كل قسر سيكولوجي، سواء كان مبعثه العواطف أم التصورات أم الإدراك…الخ. “فالحرية السيكولوجية هي المقدرة على الاختيار حينما نكون بإزاء فعلين مختلفين، أو حينما يكون في وسعنا أن نفعل أو أن نمتنع عن الفعل” . والاختيار كما عرفه بعض مفكري الإسلام هو “إرادة تقدمتها رؤية مع تمييز” ، وأما الفعل فهو على حد تعبير الغزالي “ما يصدر عن الإرادة حقيقة” ، بينما الفاعل هو “من يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الإختيار، ومع العلم بالمراد” . وإذا كانت الحرية مضادة للحتمية، دلت على حرية الاختيار(libre arbitre)، وهي القول أن فعل الإنسان متولد من إرادته.
وتطلق الحرية أيضا على القوة التي تُظهر ما في صميم الذات الإنسانية من صفات مفردة أو على الطاقة التي بها يحقق الإنسان ذاته في كل فعل من أفعاله، فيشعر بحريته مباشرة، ويدرك أنها ميزة نظام فريد من الحوادث، تَفقد فيه مفاهيم العقل كل دلالة من دلالاتها” .
من خلال التحديدات الدلالية السابقة، لمفهوم الحرية، يمكن طرح الإشكال التالي: هل الحرية هي جوهر الإنسان أم أنها مجرد عرض من أعراض وجوده ؟ وهل يمكن للذات أن تعبر عن ذاتها في غياب الحرية أم بوجودها ؟
2- علاقة الإنسان بالحرية 
لا شك في أن الحرية كانت ولا تزال جوهر الإنسان وماهيته، فهي الأصل الذي تنبثق منه كل الأشياء، والدّم الذي يجري في كينونة كل بشري بصخب وعذوبة، لمنحه الحياة والإنوجاد. إن أفضالها كثيرة لا يمكن إنكارها، وخير هذه الأفضال، اختيارها للإنسان دون غيره من الكائنات، وطنا لها، تسكن إليه لتبث فيه من رَوحها.
“إن الإنسان ليس إنسانا إلا بحريته، فالحرية يصح اعتبارها تعريفا للإنسان” ، إذ لا معنى للذات الإنسانية في غياب الحرية، فحيثما يوجد الإنسان فثمة توجد الحرية. وإذا كان الأمر كذلك، فإن العلاقة بينهما عبارة عن وجود مشترك مشدود برباط جذّاب يؤلّف بينهما. فوجود الذات ليس مجرد قدرة على الوجود، أي مجرد قدرة بمقتضاها يكتسب وجودنا ماهية، بل إنه الحرية عينها، لأن “الحرية هي التي تحدد وجودي وتحدد إمكانياتي”.
وكل من يحاول أن ينكر الحرية وينفي قيمتها في حياتنا، فإنه بهذا الفعل إنما ينكر ذاته ويسحب عن نفسه سموّ المقام وعليائه، لأن الشرط الإنساني (إنسانية الإنسان) يتحدد من خلال الحرية كخاصية تميز الكائن الواعي العاقل. ولما كانت الحرية عين وجودنا لا مجرد شيء باطني فينا، فإنه لا يصح النظر إليها كحالة يوجد عليها الإنسان، بل ينبغي اعتبارها روحا تسكن الأفعال وتتجسد من خلالها. وهي لهذا تصاحب كل انتقال من الإمكان إلى الوجود، إن لم تكن هي وجودنا بأسره من حيث إن هذا الوجود متوقف علينا.
لكن هل يمكن العيش من دون الحرية ؟؟
لما فكرت في الحرية أدركت أنها جوهر وروح الكائن العاقل، مادام الإنسان عاقلا. فالحرية هي البوصلة التي توجّه الذات الإنسانية نحو الموضوعات، سواء كانت هذه الموضوعات سياسية أو معرفية أو اجتماعية أو أخلاقية …الخ، ففي المجال السياسي مثلا، هل يمكن للمرء أن يعبّر عن رأيه في غياب الحرية؟؟ طبعا لا، لأن شرط القول الحر هو الإحساس بوجود “فضاء عمومي” تكون الحرية هي التي تؤطره. نفس الأمر ينسحب على باقي مجالات الفعل الإنساني (السلوك، المعرفة، الشغل، الإبداع، التغيير …).
فهل حقا أن الحرية هي جوهر الإنسان؟ وهل الإنسان محتاج إلى الحرية ليعبر عن ذاته ورؤيته للعالم والأشياء أم أنه يمكن أن يستغني عنها، فيلجأ إلى القوة ؟ وهل الحرية غاية في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لتحقيق منافع اجتماعية وسياسية وأهداف إيديولوجية ؟
بعدما كان الإنسان غارقا في متاهات الأساطير والخرافات، حيث لا صوت إلا صوت الآلهة التي كانت تملأ الدنيا بضجيجها، _فعلاقة الإنسان بالأشياء هنا كانت موشومة بالقلق الوجودي، والانفعالات النفسية، ولعل الأساطير اليونانية خير مثال على ذلك، لكن دوام الحال من المحال، وأنه كما قال هيراقليطس: “إننا لا نستحم في النهر مرتين”_، فإن الإنسان استرد ذاته المفقودة والضائعة، فأحس لأول مرة في التاريخ بذاته، وبعقله وبأنه موجود، وأنه مركز الكون وليس مجرد ذرّة هامشية تذروها رياح الآلهة أو أمواج العدم. إن عبارة بروتاغوراس ” الإنسان مقياس الأشياء كلها” دليل على وصول الإنسان إلى نضج تم عن طريقه التحرر من القوى المفارقة، وكأن الإنسان هنا ولد من جديد وولد معه نور العقل، إضافة إلى ذلك، فقد اعتبر جورجياس أن “العقل محرك التاريخ”، لاحظ جمال العبارة، وتأمّل مضمونها ومكانة العقل فيها، فبعد أن كانت الآلهة هي مركز العالم، أصبح العقل هنا هو سيد العالم، بل محركه، فالعقل إستأسد على الأشياء. فما طبيعة هذا العقل وهذا الإنسان الذي أصبح هو بوصلة العالم ؟ هل هو الإنسان الحر العاقل أم الإنسان الفاقد للحرية؟ بمعنى آخر هل الحرية هي محركة العقل والعالم؟ إن بين العقل والعالم مقولة ثاوية مضمرة، أعني الحرية، فإن لم تكن موجودة تصريحا فهي موجودة بجانب العقل تلميحا.
لا ريب عندي أن محمول عبارتي : العقل محرك العالم والإنسان مقياس الأشياء كلها، يتضمن معنيين إثنين :
• الأول يفيد أن الإنسان هو الكائن الوحيد في الوجود الذي يعي ذاته، ويدرك ما يجري في العالم من تقلبات وتغيرات، فوجوده كذات في العالم مكّنه من كشف أسرار الأشياء، بل وتفسير العوامل والأسباب والقوى الخفية المتحكمة في الوجود، فالوعي هنا وعي بأن الإنسان حر وأن الحرية هي مبدأ كل تفكير فلسفي، بل هي أساس كل نظرة جوهرية ماهوية للأشياء، فالإنسان هنا صار كائنا متعدد الأبعاد، فهو يعي ذاته وطبيعة فكره ويعي العالم بتغيراته. فعلا إن الإنسان تحول إلى مقياس، ليس لفهم الأشياء فقط ولكن للتحكم فيها وتحويلها إلى موضوعات يمكن الإستفاذة منها.
• أما الثاني، فارتبط بالقدرة الهائلة التي أصبح الإنسان يتمتع بها. فإذا كانت الموجودات التي ألقي بها إلى هذا العالم لازالت تتحرك وفق غريزتها وقوانينها الطبيعية، فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي استطاع أن ينفلت من قبضة القوانين الطبيعية والغريزية، فسما بنفسه درجات في سلم التطور الفكري. وإذا كانت علاقة الإنسان الأول بالطبيعة تحددت بالقلق والتوجس والارتياب، فإن الإنسان الحر والعاقل، قال للطبيعة وداعا أيتها الطبيعة، معنى ذلك أن الطبيعة لم تعد تتباهى بجمالها، بل أصبحت عجوزا شمطاء بفعل تدخلاته فيها.
هذان المعنيان، ينتج عنهما معنى موحّد، مضمونه أن الإنسان بما أنه مقياس للأشياء، فإنه لا يمكن أن يتمتع بهذه القدرة لولا الحرية، فهذه الأخيرة هي كيمياء الحياة وأوكسجين الوجود، إنها الأرض التي نمشي عليها (حنا أرندت)، أما غيابها فينتج عنه لا محالة ضياع للإنسان وذهاب لهويته، وانعدام لتفكيره العقلي.
وبناء عليه، فتقرير الإنسان لحريته مرتبط بوعيه بذاته، فقوله “إنني حر” يكافئ قوله “إنني موجود”، لأن الحرية هي ماهية الوجود الإنساني، أو هي على حد تعبير جابرييل مارسيل : «la liberté est en quelque sorte l’ime de notre âme »”روح روحنا” ، وأصل كل ما لدينا من قُدَرٍ وإبداعات.
لكن هل إحساس الإنسان بحريته، وتعبيره عن ملكاته العقلية، أدى إلى البناء والتشييد أم إلى الهدم وممارسة العنف؟ بمعنى أخر، هل الفرد عبّر عن نزعته الفردانية الحرة في عالمه المعيش أم أن الواقع بترسباته السلبية عمل على تقويض وهدم أسس الحرية ؟؟
3- سقراط بين محنة الحرية ومنحة ولادتها بعد موته 
إن التاريخ شاهد على ميلاد العقل وحرية الإنسان، وخير مثال على ذلك تجربة الفيلسوف سقراط في المجتمع اليوناني القديم. فإذا كان سقراط هو الذي أنزل فعل التفلسف من السماء إلى الأرض” ، وجعل الفلسفة محرك المجتمع، حيث الإهتمام بالقضايا الأكسيولوجية (مبحث القيم الأخلاقية) والسياسية والاجتماعية ..، فإن ذلك لم يؤدي به إلى نعيم إجتماعي، بل خلق لديه أزمة فكرية أودت بحياته. إنه ذهب ضحية التعبير عن حريته وممارسته لفعل التفكير، فمتى كان فعل التفكير جريمة يعاقب عليها القانون، ومتى كان استخدام العقل وصمة عار تعرّض صاحبها لأبشع العقوبات !؟ إن الحرية كمقولة سياسية واجتماعية دفعت سقراط إلى محاورة الناس مطبقا حواره التوليدي، مستفزا عقول النفوس الآدمية الغارقة في بحر التيه، جعله يحضى بمكانة معتبرة داخل أثينا. لكن للحرية أعداء وللعقل متربصون، فبقدر ما جسّد سقراط حريته، فإنه بالمقابل كان يمهد للحظة موته.
إذا كانت الفلسفة في نظر هيجل هي “وعي الذات بذاتها”، وكان حدث الحرية هو الحدث الجلل والعظيم الذي ميز اليونانيين، لكونه السبب الرئيسي وراء انبثاق الفلسفة وتشكل مبادئها ومنطقها، وكانت الديمقراطية هي التنظيم الأفضل واللائق لإستضافة الحرية واحتضانها، باعتبارها النظام الفعال الذي يفسح المجال في وجه الأفراد للتعبير عن آرائهم وأفكارهم وهواجسهم دون خوف أو تردد، فإن هذا هو الذي يجعل التنظيم الديمقراطي بمثابة الموطن الأصلي للفلسفة. غير أن هذا يبدو ممكنا على المستوى النظري والعقلي فقط، لأن الحقيقة الواقعية هي أن الديمقراطية كنظام سياسي واجتماعي قد يلفظ الحرية الفردية ويبتلع العقلي الإنساني ويحول الإنسان إلى عدم، ومثال ذلك “سقراط”، فتجربة هذا الفيلسوف تدل على محنة عقلية، فقد معها جزء كبيرا من حريته على المستوى السياسي، وأعدم بعدها كليا. فهل يمكن القول أن الحرية هي التي أعدمت سقراط أم أن الديمقراطية هي التي فعلت ذلك ؟
إن الناظر الممعن في مضمون محاكمة سقراط يدرك أن الفلسفة والحرية والديمقراطية هي التي كانت سببا وراء إعدامه، وليس شيئا آخر، لكن كيف ذلك ؟؟ إن الفلسفة تسعى إلى قول الحقيقة، شريطة الإحساس بالحرية، وهو إحساس ينبني نظريا على وجود الديمقراطية، غير أن هذه الديمقراطية المزعومة في واقعها الملموس لم تجعل الحرية تتحقق فعلا، بل حدّت منها، ومن تم انعكس الأمر سلبا على الفلسفة، لأن الديمقراطية الأثينية لم تكن تتغيّى قول الحقيقة وكشف زيف وخداع الأشياء، بل إنها كانت تنهل من الكذب والنفاق الإجتماعي والسياسي، حيث السلطة والجاه والثروة.. لكن الفلسفة ليست كذلك، فسقراط أراد إحقاق الحق في زمن اللا-حق (سيادة الباطل)، أراد ترسيخ المعاني الحقيقية للأشياء في زمن يعترف بتزييف الأمور، والإبتعاد عن الحقيقة.
إن ما يَهُمُّنا من محاكمة سقراط ليس موته كشخص، ولكن الذي يهمُّنا هو المقولات الفلسفية التي أعدمته، أعني الفلسفة والحرية والعقل، وهي المفاهيم التي يتأسس عليها كل قول حر. فالتّهم الموجّهة إلى سقراط (إنكار آلهة المدينة، إفساد عقول الشباب، إبتداع آلهة جديدة ..)، هي تُهَمٌ كان الهدف من ورائها النيل من الحرية وإقصاء العقل وجعل سقراط مثله مثل بقية الناس حيث الانغماس في اليومي إلى درجة الذوبان، وهو الشيء الذي كان ينكره سقراط ويتصدى له. معنى ذلك أن جوهر المحاكمة فكري عقلي ليس إلا. إنها محاكمة للفيلسوف والفلسفة، لكن الملاحظ أن الحرية لا تجعل الشخص فاشلا منهارا وخائفا، بل إنها تجعله صامدا ثابتا على المبادئ والمواقف التي رسخها في كينونته، فأصبحت هي هويته التي تحركه. ولنتأمل من جديد المحاكمة، فسقراط أثناء أطوارها (المحاكمة) من بدايتها إلى لحظة إعدامه نجده شامخا كالجبل لا تهزه التّهم الموجّهة إليه، فما سبب ذلك ؟
إنها الحرية، فهذه الأخيرة جعلته يدافع عن نفسه، مفنّذا لكل تلك التهم، ناقضا لها الواحدة تلو الأخرى، بل ومتهكّما على المحاكمة التي هي في نظره مسرحية هزلية. فهل يعقل أن يفسد عقول الشباب النّبلاء وهم الذين كانوا حاضرين معه لحظة المحاكمة؟ إضافة إلى ذلك، فاللحظة المركزية في المحاكمة وهي النطق بحكم الإعدام لم تُحدِث عنده أي قلق، بل جعلته يقول : “ابتسموا إذن للموت أيها القضاة، واعلموا علم اليقين أنه يستحيل على الرجل الصالح أن يصاب بسوء لا في حياته ولا بعد مماته، فلن تهمله الآلهة.” 
إنها عبارة التوبيخ والسخرية لمن أصدر الحكم. بل إلى جانب ذلك كان سقراط يقول لهم أنا لست خائفا من الإعدام، ومن لحظة قدوم الموت، فالموت هو قدري ومصيري، فإعدامكم لي لا يهمني في شيء، لأن الموت هو خلاصي وأرقى أشكال تحرري. لقد سخر سقراط من الموت حتى الموت، لأنه كان يرى في إعدامه ولادته الحقيقية ، فموت سقراط لم يُمِتْ فلسفته بل جعلها تنبعث بقوة وشموخ. وهنا يمكن القول أن الحرية لا تتحقق ولا يعبر عنها الإنسان إلا بالمعاناة والآلام وعذابات الروح، فتاريخ الحرية مكتوب بدماء الحكماء والفلاسفة والمفكرين، لأنهم يبتعدون عن الملهاة العبثية، متطلعون إلى مملكة العقل، باعتباره ملكة سامية سامقة، والناس (الحشود) لا تقبل العيش تبعا، لأنهم غارقون في المبتذل والمنحط من الأشياء. وأنا مومن أشد الإيمان بأن موت سقراط يعد اغتيالا للعقل (ومعه الحرية) في مهبط العقل، وانكشافا للنور في بلد النور” ، لدرجة جعلت فلسفته تغدو وتروح في ميادين البشر حتى هذا الحين، بل ستبقى إلى قيام الساعة.” 
فهل موت سقراط إعلان عن موت العقل والحرية حقا أم ولادتهما من جديد وبشكل جديد، وتبعا لفكر جديد ؟؟
4- أزمة الحرية في القرون الوسطى المسيحية 
إذا كانت البدايات الأولى للإنسان قد بدأت مع فلاسفة اليونان، رغم الانتكاسة التي حدثت (محنة العقل وأزمة الحرية بسبب مفارقات الديمقراطية بالمدينة اليونانية)، فإن البداية الحقيقية لمفهوم الإنسان ولوازمه (الحرية، الإرادة، العقل ..) تجد قاعدتها في مبدأ التمركز حول الإنسان بشكل حقيقي. وهنا تجب العودة إلى الحد الفاصل بين نطاقين أو فضاءين إثنين : فضاء سيطر فيه المتعالي والقوى المفارقة (القرون الوسطى) وفضاء محكوم بالحرية الإنسانية كشرط أولي وأساسي لتحقق الذاتية والوجود (العصر الحديث).
ومادام سياق كلامنا متعلقا بالعصور الوسطى المسيحية وانتكاسة الحرية الفردية فيها، فمن اللازم علينا عرض مظاهر هذه الانتكاسة أو الأزمة، وبعد ذلك بيان انعكاساتها على التاريخ الإنساني (الأوربي).
لقد شاءت الظروف أن تظهر في القرون الوسطى نزعة جديدة على غرار النزعة الإنسانية التي جسّدها فلاسفة اليونان (جورجياس، بروتاغوراس، سقراط …)، نزعة سحبت البساط من تحت الإنسان، وانقادت خلف المتعالي المفارق لعالم الهنا (عالم الإنسان) والمتوطن في سماء الهناك، إنه الخضوع لإرادة اللاهوت المسيحي والإقطاعي.
يُعدُّ هذا الحدث فاجعة كبيرة، لأنه تعبير عن ضياع الإنسان وضياع لحقيقته الباطنية التي تميزه. فبعدما كان الإنسان حيوانا عاقلا ناطقا وكائنا سياسيا فاعلا في حياة الجماعة، أصبح عبارة عن لا شيء، انتقل من وضعية الكل إلى وضعية الجزء، لكنه مجرد جزء منفعل لا فاعل، لأن إرادة السماء ترمز إلى كل شيء وتحدد أي شيء بعيدا عن تدخل الإنسان. ويظهر ذلك جليّا من خلال الشعارات التي رُفعت آنذاك، ومنها : “لا تفكر وإنما اتبع فقط” ، “لا تبحث عن الحقيقة، بل توجه إلى رجال الدين” ، ” الويل لكل من يقول أنا ” … ، إنه الضّياع في المقدس، حيث إن إرادة الله (الكنيسة) تعلو على الأفراد، وما على هؤلاء إلا أن يخضعوا كرها لها. لذلك فكل محاولة عقلية للتمرد عليها يعرض الإنسان للنفي أو الإحراق والموت، ودليل هذا ما حصل مع العلماء. فعالم الفلك ‘نيكولاس كوبرنيكوس’ لما أنصت إلى نداء عقله وإرادته المعرفية الحرة، توصل إلى حقيقة واضحة برهن عليها من خلال العلم والمعرفة العقلية، لكن إرادة اللاهوت المتعالية أبت إلا أن تحرقه. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن “العقيدة اللاهوتية المسيحية مارست هيمنة شديدة على العقول والحريات الفردية.” 
إذا كان هناك نمط إنساني لا يمكن تخيله في تلك العصور، فهو المفكر الخارج عليها أو الإنسان المتحرر من الشعائر والطقوس.. كان الخروج من القفص والتفكير في الهواء الحر الطلق أمرا مستحيلا، كانت حرية الفرد مجرد خيال ويوتوبيا، لأن الإنسان لم يكن منظورا إليه بوصفه شخصا ذي مقومات خاصة ، بل كان منظورا إليه باعتباره مجرد بشر قَدَرُهُ أن يخضع لحتميات الطبيعة والإرث اللاهوتي والإقطاعي، يقول بابوف ” إن الشعب قد بلغ سن الرشد غير أن الأغنياء من رجال الدين يسعون دائما لإبقائه في حالة قصور.” و في السياق نفسه، يقول فولتير : ” إن حياة أخرى غير الحياة الإنسانية الحرة الطبيعية لا تعدو أن تكون مجرد خدعة حقيرة، ملهاة رديئة، يؤدي فيها أحدهم شخصية المعلم والأخر دور العبد.” 
هذه العلاقة المتوترة بين الإنسان والنور الخارق للطبيعة (إرادة المتعالي)، تَبَدَّتْ صورتها في إلحاق الخطاب العقلي (اللوغوس) بالخطاب الديني المسيحي ، وجَعْله خاضعا لقوته، ومن ثمة رفع شعار: “الفلسفة خادمة للاّهوت” ، وتبرير هذا الشعار هو أنه ما كان للعقل البشري أن يصل إلى الحقائق التي أوحى بها الله، ولكن لما كانت قوة السماء (المتعالي) لا تقول غير الحقيقة نظرا لكونها مطلقة ومقدسة وكاملة، فإن العقل البشري يستطيع في أحسن الأحوال أن يصل إلى بعض تلك الحقائق، وإذا وصل إلى أمر آخر، فمعنى ذلك أن إرادته قد ضَلَّتْ وتاهت عن سَوَاءِ السبيل، ومن ثمة تبقى مهمة العقل، أن يثبت ذلك على وجه التحديد وأن يُراكم الأدلة في صالح اللاهوت المتعالي.
وفي سياق حديثه عن وضعية العلم في العصور الوسطى وأزمة الحرية الذاتية والإبداع والتفكير الحر، يقول إنجلز: ” لم يكن العلم حتى عصر النهضة، سوى الخادم الوضيع للكنيسة، وما كان يباح له أن يتخطى الحدود التي يقررها الإيمان، ولهذا لم يكن هناك علم إطلاقا.” إن غياب الإنسان عن ساحة الحدث العلمي في هذه الفترة أو الحقبة من الزمن، راجع إلى إنتفاء الحرية عنها، ذلك أن الحرية هي مفتاح الوجود الذي يمكّن الفكر الفردي من سبر خبايا الأشياء واكتشاف أعماقها وأسرارها. لكن غياب الحرية جعل الإنسان عاجزا عن تحقيق ذلك.
” لقد ظل الإنسان في تصور العصور الوسطى قاصرا عن تحقيق الخير نظرا لفساد طبيعته وميله (نزوع) إلى الشر، لولا لطف السماء وعنايتها.” 
بناء على هذا القانون اللاهوتي المقدس ظل إنسان العصور الوسطى مستلبا في إرادته وراكنا إلى ظواهر الأشياء يصدقها ويتوهم أنه عرفها بمجرد أن رآها، ولم تكن لديه حرية ذاتية تدفعه إلى التفكير في تفكيكها أو تشريحها لكي يتوصل إلى حقيقتها. كان يعتقد إمكانية التوصل إلى الحقيقة الكاملة والمعرفة المليئة عن العالم بمجرد قراءة النصوص المقدسة الموحى بها من السماء.
يلخّص ‘روجيه بيكون’ هذا الموقف بقول فحواه : ” لا يوجد إلا علم واحد، كامل وتام أعطاه الله للإنسان من أجل التوصل إلى غاية واحدة هي النجاة في الدار الآخرة، دار النعيم والخلود، وهذا العلم متضمن كله في الإنجيل. ولكن ينبغي شرحه وتفسيره عن طريق القانون الكنسي والفلسفة المسايرة له. وكل ماهو مضاد لهذا العلم المقدس أو غريب عنه فهو خاطئ ولا معنى له.” هذه العقلية سيطرت وهيمنت على كل عقلية القرون الوسطى وباسمها “أدانت المحكمة الكهنوتية “غاليليو غاليلي” بعد ثلاثة قرون من ذلك التاريخ.” 
فهل أزمة الحرية اقتصرت على أوربا المسيحية أم أنها شملت العالم العربي والإسلامي ؟؟
5- نكبة ابن رشد وغربة الفلسفة 
لا ريب في أن ابن رشد أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربية الإسلامية على مدى تاريخها الطويل، لأنه أثَّر بأفكاره في العالم الإسلامي والمسيحي (الرُّشدية اللاتينية)، فهو المترجم والشارح الأكبر لفلسفة أرسطو الطبيعية منها والمنطقية، وهو أبرز المنتقدين لزعيم المتكلّمين الإمام أبو حامد الغزالي الذي كفّر فلاسفة الإسلام في كتابه “تهافت الفلاسفة”، حين بيَّن تهافت أقوالهم وتناقض منهجهم، مؤكدا على حق العقل في الإختلاف، فمن أين تأتّت لإبن رشد تلك الخصائص ؟
ابن رشد لم يستسغ منهج الفقهاء القائم على التمسك بظاهر النصوص النقلية دون النفاذ إلى أعماقها، والسبب مردّه من وجهة نظرنا إلى أن ابن رشد آمن بالحرية أشدّ الإيمان، بحيث لم تعد الحرية مقولة نظرية، بل إنه جسّدها عمليا وذلك بقراءته للنصوص الدينية، بينما الفقهاء لم يبرحوا مكان التكرار الذي تحول إلى سقوط في نزعة تقليدية تقليدانية، فإما أن تحس الذات بحريّتها وتندفع بجرأتها وشجاعتها متسلحة بالعلم والمعرفة، وإما أن تنفي ذلك وتنغمس في التقليد حيث التخلي عن حرية الإبداع والابتكار والإتيان بالجديد. فمحنة ابن رشد هي في الحقيقة محنة الحرية مع التقليد ومحنة العقل مع النقل، ولكي لا يبقى تأويلنا لنكبة ابن رشد ومحنته نظريا، فإننا سنورد بعض الأمثلة عن ذلك، لنؤكد على محنة الحرية في العالم العربي والإسلامي.
إن الغزالي اتهم الفلاسفة بالمروق في الدين والوقوع في الشرك الموجب للكفر، فهو الذي كفّر الفلاسفة لأنهم أخطأوا في عشرين مسألة وجب تكفيرهم في ثلاث وتفسيقهم وتبديعهم في سبعة عشر، فالقضايا الموجبة للكفر حسب الغزالي، هي القول “بقدم العالم” ، وأن “الله يعلم بالجزئيات لا الكليات” ، وأن “البعث يكون للأرواح لا الأجساد” ، فالقراءة السطحية لرؤية ابن رشد، لم تأخذ بعين الإعتبار مضمونها الفكري ورؤيتها التأويلية العميقة للنصوص، بل إنها تراهن على المطلوب، وهذا الأخير هو أن الله على كل شيء قدير وأنه خالق العالم، لكن ابن رشد يتساءل : هل العالم قديم أم حديث؟ يجيب الفقهاء الظاهريون : العالم حديث، فالله بديع السماوات والأرض، يجيب ابن رشد: جميل، ولكن هل المادة التي صنع منها العالم قديمة أم حديثة ؟ يجيب الفقهاء : إنها حديثة، فيرد ابن رشد : فإذا كان الله يقول : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون” (سورة يس: الآية 82) ، فهل كن هنا من العدم أم من المادة؟ فإن قلتم كن من مادة فإنكم أقررتم بقدم المادة، وإن قلتم كن من عدم فإنكم وقعتم في تناقض، لأن الله يقول : “ثم استوى إلى السماء وهي دخان” (سورة فصلت، الآية 11) ، معنى ذلك أنه قبل خلق السماوات والأرض لم يكن العدم بل كان الدخان، والدخان مادة، وهنا يلاحظ عمق الرؤية العقلية، حيث الإحساس بلذة التفكير، ومتعة الإحساس بالحرية، فما أجمل الثقافة العربية لو كانت تتحرك بحرية وتترك للعقل هامش الإبداع والخلق، لا اللجوء إلى القمع والتهميش والنبذ والإقصاء وإصدار فتاوى التفكير التي أدت إلى قتل الإبداع الفكري والفلسفي والإجتهاد العقلي المنطقي. وأما القضايا التي لم يكفر فيها الغزالي الفلاسفة ولكنه فسقهم فيها وبدّعهم، فهي القضايا المرتبطة بوجود صانع العالم، وأن الله واحد، مع نفي الكثرة في ذاته، ومسألة الصفات هل هي عين الذات وغيرها..، والوحدانية، وإشكالية الذات الإلهية بين الوجود والماهية، ومسألة التنزيه والتجسيم، والعلم الإلهي، وما يتعلق باللوح المحفوظ ونفوس السماوات ومفهوم السببية، وروحانية النفس، ومسألة فناء النفوس البشرية، … الخ”. (اقتبسنا هذه القضايا من كتاب تهافت التهافت لإبن رشد، وخاصة المقدمة التحليلية للراحل محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، طبعة 1998، بيروت، لبنان، الفهرس من ص6 إلى ص 16.).
ورغم محنته فقد ظل بن رشد مكتشف مذهب الفكر الحر كما قيل عنه، وينطبق عليه قول نيتشه: امتياز امتلاك المرء لنفسه لا يقدر بثمن. ولذلك قال بن رشد كلمته المأثورة في ذات السياق : “تموت روحي بموت الفلسفة”. إن محنة بن رشد مع الحرية لم تكن نتيجتها الخضوع أو الإتباع وإنما التميز والإبداع الفكري، وإن كانت ضريبة هذا الإبداع غير خالية من الشقاء والألم. فالحرية كإبداع كانت محنة بالنسبة للفيلسوف ابن رشد، لأن تحقيق الذات وإثبات الوجود يقتضي المواجهة وتحمُّل هجمات الحشود وأهل القدامة، بالإرادة الحرة والفكر العقلي. ومن نتائج هذه الحرية: النفي والابتعاد والاغتراب، فابن رشد لُفِظَ من موطنه وأرضه الثقافية واستقبل من لدن مجتمع غريب عنه، فصار بذلك واحدا منهم باسم جديد. ولعل حدث ترحيل بن رشد من القبر المراكشي إلى قرطبة مسقط رأسه، لخير دليل على ارتباط المجتمع العربي والإسلامي بالقدامة، ورفضهم للحرية والفكر العقلي المستنير. يروي لنا الصوفي ابن عربي ‘ذكرى ترحيل بن رشد’ في “الفتوحات المكية” (ترحيل جثمانه وكتبه في موكب جنائزي من مراكش في اتجاه قرطبة)، حيث يصف المشهد بأسلوب يصور مأساة الحدث ومرارته، “فترحيل بن رشد سيكون له بالنسبة لنا نحن مدلول دقيق: رفض أرسطو وترحيل الفلسفة إلى اللاتينيين” . بل وموت العقل العربي الإسلامي وإعدام الحرية داخل الفضاء الاجتماعي. وفاة ابن رشد تختم بالنسبة للعرب نهاية حقبة، ونهاية تاريخ لم يكتمل بناؤه بسبب أعداء الفكر الحر المقدِّسين لعبوديتهم كما لو أنها هي قمة الحرية.. 
ولازالت آثار المحنة إلى يومنا هذا، فكلما تراجع العقل، حل محله التقليد، وهذا الأخير أدى إلى ولادة كائنات عجيبة غريبة إسمها “الدواعش” كظاهرة دينية لا تؤمن بالدين في سماحته ونقائه وصفائه، ولا تؤمن بالفكر الحر القائم على العقل والتأويل والفهم المنطقي للنصوص الموحى بها من الله. إنها تؤمن بمنطق قطع الرؤوس تطبيقا حرفيا مشوّها لآيات القرآن. 
إن قراءة النصوص الدينية قراءة سطحية وتقطيعية، يؤدي إلى إفراغها من مضمونها وجعلها تتماشى مع الرؤية السياسوية الضيقة، فتتحول النصوص الدينية إلى إيديولوجية للقتل لا البناء، إلى التدمير والإقصاء لا إلى الحوار والاحترام وترسيخ ثقافة التسامح واحترام حق الإنسان في الحياة. فهل تحقيق التغيير وبناء الحضارة، حضارتنا، يكون بالقتل والإرهاب ؟ متى كان الدين خطابا للترهيب والعدوان وسفك الدماء؟ إن ديننا اليوم يُسْتَغَلُّ أيما استغلال من لدن أعداء الدين المحسوبين على الدين، كائنات لا تستكين للسلم ولا تدعو إليه، بل تنزع إلى الشر وزرع الخوف في نفوس الناس، وكأن ما يقومون به هو تطبيق لأمر الله وتحقيق لندائه المقدس، فتفجيرهم للمعالم التاريخية والأماكن العمومية، ونسفهم لأرواح وأجساد الأبرياء .. ليس سلوكا سويا ولا عملا أخلاقيا، بل هو تعبير عن حالة من الانغلاق والاضطراب النفسي الناتج عن الاستلاب الذي تمارسه المكبوتات النفسية. “هذه المكبوتات هي في الحقيقة الوجه الآخر للقهر السياسي والاجتماعي والثقافي، وهي تعززه من خلال تسلط الاستبداد النفسي على الإنسان وتبنيه لهذا الاستبداد على شخصه، وفي علاقاته وتفاعلاته.” إن مطلب الحرية ليس هيِّنا، لأن الحياة تتقدم من خلال تجاوز ذاتها، كما أن أجيال الأبناء لا تتقدم إلا من خلال تجاوز الآباء ومرجعياتهم ويقينياتهم الثابتة. “أما في مجتمعاتنا فما زال الآباء يقتلون الأبناء رمزيا من خلال إتباعهم وإخضاعهم والحرب على تجليات طاقاتهم الحية، ومحاولة تشكيلهم على غرار ذاتهم، بهدف استمرار هذه الذوات في أبنائهم..” ، وهذا بلا شك من أسباب عدم تحررنا ومن أخطر أنواع الإرهاب النفسي والفكري والديني والاجتماعي التي تكرس ثقافة الخضوع والصمت وتلتهم حق الأجيال الجديدة في التعبير عن نفوسها بحرية. فإن لم تكن “مع”، فإن مصيرك سيكون هو النفي والإقصاء والعزلة..
وقبل وبعد، فإذا كان بن رشد (وغيره من مفكرينا ومثقفينا الأفاضل) قد تعرض لمحنة فكرية فلسفية من لدن كائنات الظلام التي لا تهوى السباحة في بحار المعرفة، فإن هذا لم يمنع أفكاره ومفاهيمه ومواقفه من الانتشار في العالم الغربي، ولا شك في ذلك، لأن المعرفة الأصيلة والفكر الحر الخلاق منفلت من حجب الزمان والمكان، فعندما ينقل إلى مكان آخر فإنه يتوطن هناك بسهولة وهو ما حصل بالفعل لفكر بن رشد، طرد من هنا لكنه استقبل هناك، مات هنا، فأحيي هناك، وما اللاتينية الرشدية إلا خير دليل على ذلك، بل أكثر من ذلك، لا أجازف إن قلت إن الإرهاصات الأولى للفلسفة الحديثة والبدايات الأصيلة لها تجد أسسها ومبادئها في فلسفة ابن رشد، فأوربا التي كانت غارقة في ظلمات الكنيسة، وجدت في رؤية ابن رشد وتأويله للقضايا الدينية (قضية الخلق، القدم، ..) المنفذ الذي عبره تم التمرد العقلي على الكنيسة، بمعنى أعمق أن حرية ابن رشد وجدت متنفسا لها في التربة الغربية، فإذا كان ابن رشد يعتبر أن الفلسفة لا تناقض الشريعة لأن كلاهما يفضيان إلى هدف واحد وهو الوصول إلى الحقيقة رغم اختلاف الطرق، فإن هذا القول وغيره هو الذي دفع ديكارت إلى الإعلان عن بداية التحرر من ترسبات الطفولة وزمن الصبا، لذا فالحرية وفسحة الأمل التي منحت للذات الديكارتية، جعلته يعيد النظر في حقيقة الله والنفس والعالم، فما هي تجليات الحرية في فلسفة ديكارت؟ وهل يشكل فكر ديكارت الحر قطيعة مع ثقافة العصور الوسطى أم أنه استوعب فتجاوز ما يمكن تجاوزه؟؟
6- الحرية وميلاد الأنا في العصر الحديث 
بعد التغييب التعسفي الذي طال الإنسان في الحقبة الزمنية الوسطى على مستوى ذاتيته، وبعد النكبة التي أرّقت العقل بسبب انعدام الحرية في تلك الحقبة (المسيحية والإسلامية)، بزغ عهد جديد تبددت فيه ظلمة ليالي القرون الوسطى الحالكة. في العصر الحديث لم تعد حرية الإنسان وإرادته امتدادا للمتعالي أو تجسيدا له، بمعنى أن الإنسان لم يعد خاضعا لعبودية المفارق لوجوده وكأنها هي الحرية، بل عكف بقرار إرادي تأويلي واع وفريد على إعادة النظر في هويته وحريته بعيدا عن كل تقليد فكري موروث، وبعيدا عن كل تعريف شائع بحقيقته، مقبول من طرف الكل وكأنه أمر بديهي ويقيني.
و ترجع إعادة النظر هذه إلى الخلخلة التي تعرض لها اليقين الإنساني الغربي في القرن 15 عندما اكتشف أمريكا، فوجد أنه ليس و حيدا في العالم، وأن ثقافته ليست هي المرجع النهائي، مادامت أمريكا مأهولة بثقافات منظمة ومنسجمة و متحضرة، دون أن تكون بالضرورة مسيحية و غربية. من هنا ارتبك معيار الإنسانية لديه فتزعزعت مركزيته المصطنعة والموهومة، فحاول بحرية أناه المفكرة، مواجهة العالم المتعدد والنسبي للإنسانية إعادة النظر في مسلمة الإنسان بشكل عام.
كما أدى العلم في ق (16 ) عبر تطوير المنظار إلى اكتشاف المتناهي في الصغر و المتناهي في الكبر، وتحصل منه أن تفاجأ الإنسان بأن عالمه الذي ألفه ليس إلا جزءا ضئيلا جدا من عوالم متوارية خلف عينه المجردة، فوجد نفسه أمام أسئلة ملحة مثل: من أين يبدأ العالم؟ و أين ينتهي ؟ و هو ما ساهمت فيه الثورة الكوبرنيكية التي ألقت بعتمات وبشكوك على ما ظن الإنسان الغربي أنه على يقين منه. وإذا كانت الأرض مركز الكون حسب ما أقرت به الإرادة المسيحية فإن الإرادة الكوبرنيكية إرادة العلم قد عصفت باليقين المتعالي اللاهوتي الذي بات سائدا والقائل بأن الإنسان مركز الكون .
هكذا نضع أقدامنا على الأرض الفكرية للحداثة الغربية كمجال للنظر والتأمل الفلسفيين في قضية حرية الأنا، التي هي إعلان عن فقدان جذري للسلطة التقليدية التي كانت تتحكم في مصير البشر وحياتهم، وتأسيس جديد لها على معايير أخرى، انطبعت بطابع إنساني يميزه التناهي ولا يتجاوز الشروط الإنسانية.
وتكمن إعادة التأسيس هاته، في رجوع الإنسان إلى ذاته و إيمانه بحريته وإراداته، محاولا أن يكتشف في أعماقه ما يجعل منه كائنا متميزا وفريدا من نوعه، بعيدا عن كل أنواع الذاكرة ( الموروث الثقافي التقليدي )، التي لا تسمح بإمكانية إنشاء معنى كوني للإنسان، لا يتيه داخل تعدد الثقافات، ولا يبقى وفيّا لذاكرة جامدة تأسره وتعيق انفتاحه على الممكن، ومن ثم تفقده حريته.
هذه العودة إلى الذات هي إيمان حقيقي بقدرة الحرية الإنسانية، على جعل الذات المفكرة تكتشف الحقيقة بنفسها، وإقرار أبدي بالتحرر من كل الصرح النظري القروسطي. وقد كان للفيلسوف العقلاني الفرنسي رونيه ديكارت ( 1596– 1650م) الفضل الأكبر في صناعة هذا الحدث: حدث الحرية الذاتية، هذه الحرية التي لولاها ما كانت لتكون هناك نهضة أوربية، ولا انقلاب على المفاهيم والمناهج، التي كانت سائدة في الفلسفات السكولائية المسيحية.
إن واقعة الحرية عند فيلسوف العقلانية ديكارت ليست منحة، بل هي فعل أو حدث تحقق بالتحدي والإصرار والجرأة على مواجهة القدامة عبر التفكير النقدي الحر. فالحرية هنا مفهوم له دلالة ثورية (ليس بالمعنى الجهادي الحربي وإنما بالمعنى الإبداعي الرمزي والفكري للكلمة)، لأنه دعوة إلى تحطيم الأغلال والقيود، وإزالة العوائق المعطّلة لنموّ الإنسان وتقدمه، وصياغة الواقع بما يحقق للإنسان كرامته الشخصية ومكانته الحقيقية في العالم. والحرية بوصفها مفهوما ثوريا، تتخذ من المفاهيم والقيم العقلية منطلقاتها أثناء سعيها نحو التعين والتحقق والإنوجاد.
لكن كيف يمكن فهم العلاقة ما بين الفكر كفعالية عقلية لدى الإنسان وفكرة الوجود الأنطولوجي له؟ أليس الكوجيطو الديكارتي(” أنا اشك فأنا أفكر و من ثم فأنا موجود .) حاملا للحرية كمبدأ يرتكز عليه الفكر وينطلق منه في بناء الحقيقة وإثبات الوجود؟ وإذا كانت عملية التفكير المنهجي الصادرة عن العقل هي ماهية الذات العاقلة، فهل يمكن لهذه الذات أن تمارس هذا الفعل وأن تلحق الوجود في غياب الحرية؟ أليس حري بنا أن نقول لديكارت ومعه على أن الحرية هي أساس الوجود مادام أن هذا الوجود كنتيجة وكحقيقة لا يمكنه أن يتحقق بالفكر في غياب الفضاء الحر الذي يسمح بذلك ؟
يبدو لي أن الكوجيطو الديكارتي كفكرة بديهية تحتاج إلى مزيد من التأمل، للكشف عن مضمونها الفكري ومحتواها المعرفي، فلفظة “أنا” التي تحيل إلى مبدأ كل تفكير فلسفي لا تتحقق بشكل تلقائي، بل تحتاج إلى الحرية، فعندما أقول “أنا” ، فبيني وبين-ذاتي خيط رفيع يتجسد في مفهوم الحرية، فهذه الأخيرة هي التي تجعلني أعود إلى ذاتي، لأكتشف حقيقة “أناي” ، فلاحظ معي أن لفظ “أنا” تبدو في الظاهر عادية، لكنها في الحقيقة تشي بانغماس الذات في ذاتها، بهدف أن تنقذ الذات من ترسبات ماضيها، بعبارة أوضح : عندما أقول “أنا” فإنني في الحقيقة أود أن أقول: إنني أصبحت واعيا بذاتي وعيا يجعلني أعرف نفسي بنفسي، وذلك عن طريق الغوص في أعماقها. ولفظة أنا عندما تتحقق، يحصل شيء ثان وهو بداية التفكير، وهنا يحضر أيضا مفهوم الحرية، لأنه لا تفكير بدون حرية. فالطفل الصغير يقول “أنا” ولكنه لا يعي دلالتها ولا يعي أنها الدرب المفضي إلى التفكير باعتباره جملة من العمليات العقلية كالشك والتحليل والتركيب والمراجعة والتأمل والتساؤل،… وهكذا فلفظة “أنا” تحتاج إلى لوازم أو بالأحرى مبادئ، تشكّل الحرية أولاها والوعي الذاتي ثانيها والتفكير ثالثها وصولا إلى رابعها وهو الشعور بالوجود. وفي كل لحظة تكون الحرية هي المفتاح الأساسي. لذلك ومن وجهة نظري الخاصة، أعتبر أن عبارة “أنا أفكر إذن أنا موجود” تحتاج إلى تغيير لتصبح: أنا حر إذن أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود.
الحرية أيضا تجلّت في القواعد التي وضعها ديكارت، وأكيد أن تلك القواعد هي عمدة المنهج الديكارتي، فخذ بنا إلى تلك القواعد قاعدة قاعدة، لنعرف دور الحرية الذاتية في ذلك: 
o قاعدة البداهة و الوضوح ؟ و هي قاعدة تنبني على ضرورة عدم قبول أي شيء حتى يتصف بصفة أنه بديهي بمعنى أنه يحمل معناه في ذاته، والحرية تفتح أمام الذات أفق التخلص من كل الآراء والأوهام والخرافات التي علقت بذهنها. يقول ديكارت و كأن إراداته الحرة هي التي تتحدث: “قررت أن أحرر نفسي جديا من جميع الآراء التي آمنت بها من قبل وأن أبتدئ الأشياء من أسس جديدة .” فهل هذا التقرير تقرير اختيار وقناعة أم اختيار اضطراري؟ إذا كان التقرير اختياري، فإن هذا معناه أن الحرية هي التي جعلت مسألة التقرير أمرا ممكنا بالنسبة للذات الديكارتية. ذلك أن الإنسان العادي المقيد بمتاهات لا يقرر،لأنه جزء ذائب في النمط الاجتماعي. أما الذات الحرة الواعية فتتسم بالقدرة والجرأة على اتخاذ القرارات. ألم يقل الفيلسوف الألماني كانط عندما أحس بالحرية : “لتكن لك الشجاعة والجرأة على استخدام عقلك وفهمك الخاص، فذلك هو شعار التنوير.” 
o قاعدة التحليل : هي قاعدة تنبني على تفكيك و تجزيء الأشياء إلى جزئيات بهدف فهمها بشكل أعمق، لكن ما الذي يجعلنا نفكك الشيء بمعنى نبسطه؟ إنه العقل في ارتباط بالإرادة الحرة، أي أن حرية الإرادة هي الدافع الفعلي للعقل كي يكتشف جزئيات الموضوع، حيث لا قدرة للعقل على ممارسة فعل التحليل في غياب الحرية، حرية العقل والإرادة. أما إنسان العصر الوسيط، فلم تكن له القدرة على التبسيط والفهم والتحليل والنقد والتأمل، لأنه كان إنسانا تأمليا لا حرية له ولا إرادة، غير أنه لما تمركز حول ذاته، تغيرت الأشياء، حيث أصبحت له إرادة حرة بإمكانها أن تفعل العجب العجاب.
o قاعدة التركيب: و هي آية أخرى دالة على القدرة التي تتميز بها الذات الحرة على مستوى البناء، ذلك أن حرية الإرادة الإنسانية واستقلالها عن كل الموانع الموضوعية الكابحة للإبداع والتأليف، يدفع العقل إلى تجميع العناصر وتركيبها و خلق انسجام وتناغم فيما بينها. فالحرية هنا جعلت الإنسان كائنا تركيبيا يركب الأشياء و يؤلف فيما بينها، ويتجلى ذلك في المنتوج الفكري العقلي، كالتأملات الميتافيزيقية، التي هي تأملات عقلية حرة وإرادية، عالجت مواضيع شتى كالله ، النفس، و العالم…الخ.
o قاعدة المراجعة و الإحصاء: و هي قاعدة تنبني على ضرورة استحضار ما تم التفكير فيه، بهدف التأكد من عدم نسيان أية جزئية من الجزئيات، فالإنسان هنا كائن إحصائي والذي منحه هذا الوصف هو القدرة الجديدة للعقل، المرتبطة بالفعل الحر الملازم للإرادة الذاتية، إرادة الأنا المفكرة.
وبناء عليه، يتبين لنا أن الحرية كمقولة فلسفية، حاضرة في عمق التفكير الفلسفي الديكارتي، إنها ملكة تجعل الإنسان قادرا على الاختيار والفعل، بعيدا عن الإكراهات أنّى كانت طبيعتها. وهو الأمر الذي يجعلنا نؤكد أن التحرر من الأوهام و الخرافات و تبني فكر عقلاني يؤمن بالاختلاف و التعدد، يتطلب الوعي بالحرية، فغياب هذا الوعي، يؤدي لا محالة إلى ضياع الذات والحرية وكذا القيم الإنسانية السَّمحاء. لأن الحرية اللاواعية سرعان ما تقتل نفسها والإنسان. 
لكن، هل استطاعت الحرية حقا أن تحقق معنى الإنسان أم أنها أدت إلى تهميشه وإقصاءه من دائرة صنع حدث نفسه والوجود ؟؟
7- سارتر بين الحرية واختيار المصير 
إن الإنسان ليس مجرد واقعة تجريبية هنا، مرمي بين الأشياء، بعد أن قذف به إلى هذا العالم ليلاقي مصيره، ولكنه في الحقيقة ومن منظور الفلسفة الوجودية وجود شخصي لا ينفصل عن فعل الحرية التي عن طريقها يختار نفسه ويحدد مستقبله، وهي القضية التي عبّر عنها ‘سارتر’ بقوله : “الوجود سابق عن الماهية”، صحيح ، الإنسان يوجد أولا لكنه عن طريق الفعل الحر والممارسة العقلية يكون حرّا ومن ثمة يبني حياته باستمرار، “فإذا كان الوجود يسبق حقيقة الجوهر، فالإنسان إذن مسؤول عما هو كائن. فأول ما تسعى إليه الوجودية هي أن تضع الإنسان بوجه حقيقته وأن تحمِّله بالتالي المسؤولية الكاملة لوجوده.” إن الحرية المسؤولة هي التي يكون مبدؤها فعل الخير لا الشر، وتجعل الإنسان نتاج جهد متواصل وكفاح مستمر ضد كل أشكال العنف والاستغلال والإقصاء، وتنقد تلك الحرية التي تعتبر المرء قادر على فعل الشيء أو الإمتناع عنه، وتعتبر أن حرية الإنسان لا تتحقق إلا داخل فضاء تواصلي أصيل قوامه الحب الإنساني بين بني البشر، فالذات لا تكون أصيلة إلا إذا انفتحت على غيرها من الذوات الأصيلة. هكذا نحن محكومين بالحرية والحرية هي حقيقة وجودنا وحضورنا في العالم، وذلك من جهة مسؤوليتنا الأخلاقية عن أفعالنا واختياراتنا باعتبارها نابعة من الذات وليس من الغير. فالشخص هو المسؤول عن اختياراته في الوجود، وهو الذي يقول لنفسه وللعالم أنا أختار بنفسي مصيري الخاص، بمعنى أختار نفسي أولا وكأن نفسية الإنسان لم تكن له، وفي ملكيته، بل كانت في يد قوى مختلفة (المجتمع، الأسرة، …) ، لكن الحرية جعلته يتجاوز جميع الوضعيات الأصلية، والتعالي عليها في اتجاه الانفتاح على المستقبل. معنى ذلك أن الإنسان قد ترك وحيدا لنفسه، غير أن وجوده قد أودع بين يديه، وكأن القوى التي قذفته إلى العالم قالت له أنت الآن وحيد مع نفسك، وهنا فالحرية كمقدرة ذاتية هي التي جعلته يكتشف ذاته، ويعمل على تكوينها، بل أكثر من ذلك أصبحت له القدرة على اختيار نمط عيشه وأسلوبه في الحياة، إنه أصبح يرفع شعار: أنا أحيا في المستقبل، فالحرية ليست سوى اختيار للذات في كل لحظة من لحظاتها، فالحرية هنا تتخذ شكل ضرورة مفروضة عليه فرضا، لأن الإنسان”محكوم عليه بالحرية” و ليس حرا في أن يتخلى عن حريته، وهكذا فعبارة “أنا موجود” الديكارتية ستصبح مع سارتر مرادفة لعبارة “أنا حر” ، فالحرية هي الشعور بالوجود نفسه.
إن الإنسان يتأرجح بين الوجود والعدم، فهو الكائن الوحيد الذي بفعله الحر ينقل عدمه إلى وجوده، فيصاب بالقلق الوجودي، حيث يدرك أن حريته كقدرة تجعله يعي انه موجود ناقص يتخلّله العدم ويزوره بين الفينة والأخرى. فالحرية ليست سوى الإحساس بالعدم الذي يفصل الإنسان دائما عن ماهيته، فالذي يفزع سارتر ليس الخوف من العدم والنقص، وليس صمت الوجود اللانهائي، بل هو الخوف من انعدام الحرية. وهي الخصائص التي تنعدم في مملكة الحيوان. فهذا الأخير هامد صامت داخل غريزته، لا يعي، ولا يبين عن القوانين الطبيعية المتحكمة فيه، لذلك فهو لا يحس بالمسؤولية، عكس الإنسان الكائن التعيس البئيس القلق، فهو يدرك أنه يجب أن يكون مسؤولا مسؤولية مطلقة عن ذاته، وذلك بتجنيب نفسه السقوط في الشر والضار، واختيار الخير والحسن، وإنقاذ أناه من بحيرة التيه والعدم. ينتج عن هذه المسؤولية الإحساس بثقل المهمة والشعور بالتوتر والقلق، وبالتالي “لا مسؤولية إلا وهي مصحوبة بالشعور بالقلق.” . 
“وعندما نقول أن الإنسان مسؤول عن نفسه لا نعني أن الإنسان مسؤول عن وجوده الفردي فحسب بل هو مسؤول عن جميع الناس وجميع البشر… وهكذا تصبح مسؤوليتنا أكبر بكثير مما نستطيع أن نفترضه، لأنها في الواقع تجر الإنسان لأن يتحمل الإنسانية بأجمعها.” أي أن المسؤولية هنا ليست ذاتية وحسب، بل وجماعية أيضا. فالإنسان مسؤول عن ذاته، ومسؤول عن العالم الذي قذف فيه، ومسؤول أيضا عن الآخرين. فالآخر ليس جحيما دائما كما قال سارتر، ولكنه يصير في بعض الأحيان نعيما. ألم يقل سارتر في كتابه الوجود والعدم : “الغير هو الوسيط الذي لا غنى عنه بيني أنا وبين ذاتي : فأنا خجول من نفسي من حيث أتبدى للغير.”(J.P.Sartre, L’etre et le néant, Paris, Gallimard, pp. 276.)
صفوة القول هنا، أن الحرية التي يتمثلها سارتر ليست حرية فوضوية، هدّامة،عبثية، وفارغة، ولكنها حرية بنّاءة خلاّقة، تنعكس إيجابا على الذات، لأنها تحررها من الماضي السلبي، وتجعلها تنفتح على المستقبل بصبر وأناة، وعزيمة لا تقهر، حرية ليست عبارة عن يافطة لا تحمل معنى، ولكنها حرية فعلية منفتحة على الغير، على اعتبار أن هناك علاقة بين-ذاتية، بموجبها يمكن تحقيق معنى الإنسانية وخلق رابطة بين الشعوب والحضارات والمجتمعات الإنسانية، رابطة أساسها قبول الآخر واستضافته في الوجود، وترسيخ قيم التسامح والحوار والاحترام والإيمان بحقه في الاختلاف الفكري والعقدي والثقافي. فالإنسان ليس ذرّة هامشية معزولة عن الزمان والمكان، تعيش لوحدها في صحراء قاحلة، ولكنه موجود يتحدد قبليا وبعديا بالتواجد مع الغير، فأنا حر معناه أنا موجود مع الغير ومسؤول عنه أيضا. إنها المسؤولية الأخلاقية التي تأخذ بعين الاعتبار المجتمع والآخرين.
فما أجمل أن تكون الحرية رابطة أخلاقية بين النفوس الآدمية، حيث لا نصب ولا نكد ولا عنف ولا عدوان … 
خـــاتمــــــة 
وفي الختام إبحار إلى عالم الإجمال، حيث النسق الكلي والتراتب المنطقي الذي يجعلنا نلخّص بشكل شامل، ما تم بناؤه عبر لحظات وفقرات هذا البحث المتواضع، والمؤكّد أن الحرية الفردية في تاريخ الفكر الفلسفي والعلمي، اكتوت بنار الآخر (المجتمع بأطيافه الدينية والسياسوية وتقاليده الباهتة ومعتقداته الأسطورية والخرافية وغيرها) واحترقت بجمرته الخبيثة التي لوّثت مناخ الفكر العقلي وأفسدت على الفرد شعوره بالحرية، ولا أدل على ذلك ما عاناه الفلاسفة والعلماء والمفكرين من محن ونكبات على مستوى حرياتهم عبر التاريخ. غير أن المحنة لم تكن ضريبتها هي موت الحرية وجمود الفكر وتوقّف حركية التاريخ وتطوره، بل كان لها انعكاس ايجابي على مستقبل الحرية والفكر والإبداع، وضربة موجعة لأعداء الإنسان والمعرفة العقلية الحرة. “فلقد أعدم سقراط، ولكن الفلسفة السقراطية بزغت كالشمس في السماء ونشرت ضياءها على كل السماوات الفكرية، لقد رمي المسيحيون للأسود عند الروم، ولكن الكنيسة المسيحية نمت مثل شجرة مهيبة وارفة الظلال..” ، لقد قتل كوبرنيكوس وكاليلي وعلماء كثر، غير أن نسيم أرواحهم المفكرة والطاهرة بقي فوّاحا يبثّ الحياة في كل النفوس المدركة لمقام الحقيقة وقيمة العلم الحق. فالإرهاب الفكري الذي سلّط على كاليلي كانت نتائجه عكسية وساهم بفعالية في نهضة أوربا والغرب عموما، ولذلك كان كاليلي أحد العلماء إلى جانب كوبرنيك وكبلر ونيوتن.. الذين كان لهم الفضل في نقل أوربا من حالة الركود والسبات إلى مرحلة النهضة التي طالت كل المجالات وأحدثت رجة قوية وإيجابية في العقول، كان من أهم نتائجها التحولات السياسية والاجتماعية التي حدثت في أوربا خلال القرنين 15 و16، والتي مهدت لبروز فلاسفة عظام مثل ديكارت وسبينوزا (النزعة العقلانية) وتوماس هوبز وجون لوك (فلاسفة عصر الأنوار الإنجليز)، ومونتيسكيو وفولتير وروسو (فلاسفة التنوير الفرنسيين)… إلى جانب ذلك مات بن رشد في الشرق العربي، بعد أن تمحّن في وجوده الاجتماعي، وغُرّب عن موطنه الأصلي بشكل لا يبعث على الوقار والاحترام. أحرقت كتبه وكُتِبَ اسمه في الدفتر الأسود كملعون دَنّس الدين والثقافة العربية والإسلامية، بيد أنه في مقابل ذلك جُلِّلَ وقُدِّرَ ورُحِّبَ به في المكان الآخر، في أرض أوربا، فكانت له مكانة الأمير والفيلسوف القدير المضيء عندهم هناك. فُنِيَ هنا وبُعِثَ من جديد هناك، كمفكر عقلي أنار العالم الغربي وفك عُقَدَ قضاياه الدينية والفلسفية التي كانت عالقة بلا حل. أما نحن فبقيت أوطاننا تبعث على الحسرة والألم، لحالتها المزرية التي أضحت تعيشها، فبعدما كنا في ما مضى نعيش عصرا ذهبيا وكانوا هم (أي الغربيون) يحيون في عالم الظلام، صرنا نحن اليوم كما كانوا هم، نعيش على عتبات ظلمتهم، وصاروا هم كما كنا، يستنيرون بنور علومنا وأفكارنا التي رفضناها في ذلك الزمن. معادلة صعبة ومفارقة مؤلمة تشي بتخلّفنا وارتهاننا داخل فضاء العبودية والإتباع والتقليد، وبتقدمهم وانفتاحهم على كل آفاق الذاتية والعقلانية والحرية والفردانية والاختلاف والتجديد… إنها المبادئ التي أسست لمفهوم الحداثة الغربية التي قال عنها الفيلسوف الإنجليزي دافيد فيتو: “أنها(أي الحداثة) هي أولوية الذات، انتصار الذات، ورؤية ذاتية للعالم”، هاهنا ولادة جديدة لمفهوم العالم قوامها الإنسان الحر، والمسؤولية،(سارتر) وقوة الإرادة وجرأة العقل.
****************************************************
قائمة المراجع والمصادر المعتمدة:
1- الدكتور جميل صليبا، المعجم الفلسفي، الجزء الأول، دار الكتاب اللبناني، بيروت، لبنان، طبعة 1982.
2- مراد وهبة ، المعجم الفلسفي، دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2007.
3- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مكتبة مصر للطباعة، الطبعة الثالثة، مصر،1972.
4- أبو حيان التوحيدي، “المقابسات”، طبعة السندوسي، 1929.
5- أبو حامد الغزالي، “تهافت الفلاسفة”، طبعة الأب بويج، بيروت، سنة 1937.
6- جان بول سارتر، الوجودية مذهب إنساني، ترجمة كمال الحاج، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، طبعة 1983.
7- أفلاطون، “محاورة الدفاع”، تر: زكي نجيب محمود، القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1996.
8- محمد عبد الرحمان مرحبا، “من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، بيروت، منشورات عويدات، ط3، 1993.
9- عبد الرحمان بدوي، أفلاطون، الكويت، وكالة المطبوعات، 1979.
10- هاشم صالح، “مدخل إلى التنوير الأوربي”، رابطة العقلانيين العرب ودار الطليعة، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، أكتوبر 2007.
11- ف. فولغين: فلسفة الأنوار، ترجمة هزييت عبودى، دار الطليعة، بيروت.
12- جورج بوليتزر، “عصر الأنوار”، ترجمة إسماعيل المهدوي، نشر إتصالات سبو، المغرب، الطبعة الأولى، 2006.
13- ابن رشد، “تهافت التهافت”، المقدمة التحليلية للراحل محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، طبعة 1998.
14- عبد الفتاح كيليطو، لسان آدم، ترحيل بن رشد، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية 2001.
15- مصطفى صفوان، “لماذا العرب ليسوا أحرارا”، ترجمة مصطفى حجازي، دار الساقي، بيروت، الطبعة 1، 2012.
16- رونيه ديكارت، مقال عن المنهج، لأحكام قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، ترجمة محمود محمد الخضيري، المطبعة السلفية و مكتبتها، القاهرة، 1348- 1930.
17- رينيه ديكارت، تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة ذ. كمال الحاج –منشورات عويدات: بيروت، لبنان ، الطبعة 2، اكتوبر 1977.
18- ايمانويل كانط، “الإجابة عن سؤال ما التنوير؟”، مقال ظهر في مجلة برلين سنة 1784، ترجمة اسماعيل المصدق، مجلة فكر ونقد.
19- جون ستيوارت ميل، “عن الحرية” ، ترجمة د. هيثم الزبيدي، منتدى مكتبة الإسكندرية، الطبعة الإلكترونية Pdf.
20- Gabriel Marcel : ‘Du Refus à l’invocation’. Gallimard, 1940 – 
___________
*أستاذ الفلسفة بالتعليم الثانوي التأهيلي، وباحث في تاريخ الفلسفة وقضايا الفكر الفلسفي بوجه عام.
– دولة المغرب –

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *