*لطفية الدليمي
يرى فون نيومان في كتابه المثير بشأن نظرية الألعاب أن السلوك البشري يمكن توصيفه بشكل عام على أساسٍ من نماذج رياضياتية اعتماداً على الأهداف المرتجاة وطريقة التخطيط الستراتيجي للادوار والأهداف المتحصلة من السلوكيات التي ندعوها ” ألعاباً “. ومن بين تصنيفات فون نيومان للألعاب ذلك التصنيف المسمى ( لعبة صفرية النتائجZero Sum Game ) وهي ما يهمنا في موضوعتنا هنا.
يمكن أن توصف اللعبة الصفرية النتائج بعبارات غاية في البساطة : أن يلعب المتبارون في مباراة ما “بصرف النظر عن طبيعة ميدان المباراة” وهم يضعون في حسابهم أن ما يترتب عليه ربح لأحد الأطراف تقابله بالضرورة المحتمة خسارة لطرف واحد أو أكثر من الأطراف الأخرى – تلك هي اللعبة الصفرية النتائج في أجلى تمظهراتها وأكثرها وضوحاً .
إن أكثر ما يسم حياتنا الحاضرة -السياسية والاجتماعية – سوءاً وفساداً على مستوى بلداننا والعالم بأجمعه هو النظر إلى الحياة البشرية من منظار تنافسي محض : وتلك صورة دراماتيكية نعيشها ولامبالغة فيها ، ولأورد مثالا عن السوق العالمية وأسس الإقتصاد العالمي التي كانت تعدُّ إلى وقت قريب مستقرة في مفاهيمها التأسيسية؛ فإذا بها تتهاوى ويكتشف المعنيون أن مواضعاتهم الراسخة عن السوق الحرة والمنافسة الكاملة والمشتقات المالية و ” اليد الخفية “التي تختص بتعديل الاختلالات الهيكلية الحاصلة في أداء الاسواق ماهي إلا باطل وقبض ريح مثلما اكتشفوا خلال الأزمات المالية الضاربة قبلاً أن مفاهيم مستقرة كالأسواق العقارية و البورصات والقروض بشتى أنواعها هي لعب مصممة ببراعة و دهاء لخدمة أناس وجهات معينة .
إنّ أناساً يزعمون أنهم بضمائر حيّة ونزاهة لم تلوثها المطامع بوسعهم أن يتحسسوا مواطن الظلم والجور في النظام الاقتصادي العالمي الذي يسعى إلى مركزة المال والسلطة وتركيز السطوة حتى لو استدعى الامر استخدام قوة عسكرية تحت مسميات شتى صارت تشكل نوعاً من الآيديولوجيا العالمية المقيتة التي يمكن أن يطلق عليها 🙁 الكهنوت الجديد The New Priesthood ) وهو في حقيقة الأمر نوع من أصولية سياسية – اقتصادية – أيديولوجية مركّبة ترى الحياة مجرد منافسة ومغالبة مثلما تتقاتل الكواسر على جثث منتنة ويحاول أدعياء الكهنوت الجديد تلطيف الأمر فيصفون الحياة والمغانم السياسية والاقتصادية : بأنها كعكة !!، ويصبح القانون الحاكم والمعترف به عمليا – في عرف هؤلاء على مستوى الدول و الأفراد هو : احصل على نصيبك قبل أن يتخاطفه آخرون ؛ فما فاتكَ لا يُعَوّض .
نتساءل هنا : هل تطيب الحياة وترقى في تمظهراتها الثقافية والأخلاقية في أوساط محكومة بلعبة مثل هذه وبوجود كائنات طفيلية تعيش بجهاز هضمي وجهاز غرائزي وتفتقر إلى منظومة قيمية ترى تجليات الجمال والنور في العطاء لا في التكالب والمغالبة ؟ أقول بثقة روحانية وفكرية : لا تطيب الحياة وسط أجواء مسمومة كهذه بل تنحدر إلى قعر مستنقع عفن أشبه بثقب أسود هائل لا فرار من أسره القاتل عندما يتمركز الفرد على أنويّة غبية قاتلة للروح ومُطفِئة لتوهج الرغبات المتسامية في الفضاءات الانسانية الراقية حيث مستوطنات الضياء والنشوة التي لا حدود مادية لها ؛ فيخسر الفرد نفسه بعد أن تنوء الأرض بخساراتها الهائلة هي الأخرى عندما يولّد الجشع جشعاً أكبر من سابقه وعلى نحو يبدو أنه لامنجاة من هذا المستنقع المميت.
___
*المدى