*سارة عابدين
في الـ 26 من نيسان/ أبريل 1986، حين كان ما يقرب من مئتي موظّف يعملون في المفاعل النووي “تشرنوبل”، في أوكرانيا، إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، حينها، بدأت سلسلة انفجارات في إحدى محطّات الطاقة في المفاعل، متسبّبةً بواحدة من أكبر كوارث القرن العشرين، وسجّلت مستويات مرتفعة من الإشعاع في البلاد المحيطة، ومنها: ألمانيا، وسويسرا والنمسا وبولندا.
في كتابها “صلاة تشرنوبل”، الصادرة ترجمته مؤخّراً عن “دار مصر العربية للنشر والتوزيع” بتوقيع أحمد صلاح الدين، تغوص الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، الحاصلة على “نوبل للآدب” العام الماضي، في أعماق المشاعر البشرية، لتجعل القارئ أكثر قرباً من الضحايا لحظة وقوع الكارثة.
شهادات من الناجين، جمعتها الكاتبة على مدار عشرين عاماً: نساء فقدن أزواجهن، وآباء فقدوا أبناءهم، وسيّدات فقدن أجنّتهن، أمّهات لم ينج أبناؤهن من التشوّهات الجسدية والنفسية، شباب وعجائز ونازحون، وذوي إعاقات، موظّفون سابقون في المُفاعل، التقت الكاتبة مع كل من سمّمت “تشرنوبل” حياتهم وذكرياتهم، وليس أرضهم وسماءهم فحسب.
آلاف الصفحات كُتبت عن الحادثة، وآلاف الصور نُقلت عنها. لكن أليكسييفيتش، وثّقت ما تسميه بـ “التاريخ المغْفل” الذي لم يهتم به أحد. تكتب وتجمع الأحاسيس، والأفكار، والمشاعر، والحياة اليومية للبشر العاديين.
تقول “المصير هو حياة إنسان واحد. أمّا التاريخ، فهو حياتنا جميعاً، وأنا أريد أن أروي التاريخ بشكل لا يضيع فيه عن بصري، مصير إنسان واحد”. ربما كانت هذه الجملة هي التعبير الأقرب عن الشهادات التي تُدخلنا في جوهر الحدث لنعرف أن كل السيناريوهات مهما كانت غرائبية ومحكمة، لا تمتّ للواقع بصلة؛ وكيف يتحوّل إنسان ما قبل تشرنوبل إلى إنسان ما بعد تشرنوبل.
في شهادة زوجة أحد رجال الإطفاء الذين شاركوا في إخماد الحريق، تقول إن اللهب كان في كل مكان، كانت السماء بأكملها تحترق، حتى أن سرعة الانفجار وعدم توقع حدوثه، جعلت زوجها ورفاقه يذهبون لإخماد الحرائق من دون بذلاتهم المطاطية الواقية، لتمتصّ أجسادهم جرعات عالية جداً من الإشعاع، وتذكر عندما أوصاها الطبيب قائلاً: “تذكري أن من أمامك ليس زوجك، ولا حبيبك، بل هو جسم مشعٌ بكثافة عالية من التلوّث”.
الحادث كان مروّعاً حتى أن “الاتحاد السوفييتي” حاول وقتها إخفاء كل المعلومات المتعلّقة بهذا النوع من الانفجارات، اختفت من المكتبات الكتب التي تتحدث عن هيروشيما وناغازاكي؛ لا نصائح، لا معلومات، لا صحافة، والسلطة لا تقول شيئاً. الأطباء صامتون، ويظهر هذا بوضوح في شهادة رجل فقد ابنته، ويقول إنها ماتت في السابعة، وهم يريدون منه أن يصمت وينتظر.
شهادة مؤلمة تُعرّفنا أكثر أن القمع وانعدام الشفافية، واحدٌ في جميع الأنظمة الديكتاتورية، وأن الإحساس الأهم الذي طغى على المواطنين هو أنهم من دون حماية، وأن شخصين أو ثلاثة يقرّرون مصير ملايين البشر، الذين تحوّلوا لحظتها إلى إنسان واحد، بذاكرة واحدة، ومصير متساوٍ حتى في الشعور بالاغتراب عمّن حولهم، موسومين في كل مكان يُنظر إليهم بارتياب وخوف، ويعاملهم الناس بقلقٍ وعدم ترحاب، حتى أن ذويهم كانوا ينظرون إليهم كنظائر مشعة، لا أكثر ولا أقل، وكثيراً ما أُغلقت أبواب في وجوههم. ربما كان القمع دافعاً لدى كثير من الضحايا للتحدّث إلى الكاتبة. تقول في كتابها إنهم طلبوا منها بإلحاح أن تكتب، مكرّرين جملة لا تتغير: “لم نفهم كل ما شاهدناه، لكن فلتبق شهادتنا تلك. قد يقرؤها أحد ويفهمها في ما بعد، من يأتون بعدنا”، ولم يكن تعجّلهم على الكتابة بلا سبب، لأن كثيرين منهم لم يعودوا في عِداد الأحياء، لكنهم تمكّنوا على الأقل من إرسال إشارة ربما تساعد الأجيال الجديدة على الفهم.
_________
*العربي الجديد