مرة أخرى… توضيح حول محمود درويش ونيتشه


*محمّد بن صالح


محمود درويش طائر هائل حطّ على قمّة أعلى الجبال، تلك التي عانقت الشهب. وكأيّ قمة تعانق الشهب كان لا بدّ من بعض السعي القاصر للإساءة إليه عن وعي بالخوف من مخاطر ما يترتّب عن الصعود أعلى، أو عن وعي بالتقصير في حقّ البلد. 
باكراً أدرك درويش أنّ الشعر قدَره بما هو معاناة الأرض التي كانت فردوساً وضاعت، وما كانت لتضيع لولا أفعال بعض الأهل وأبناء العمومة والأصدقاء. باكراً أدرك أنّ الأرض فردوس أو لا تكون، وأنّه لا يحقّ للشاعر أن يسلّم بضياعه. في سبيل الكلمة بما هي الوطن يرفض استلابه. ضحّى بالإقامة في الشبر الذي رأى فيه شمس النهار، وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة. اتُّهم الشاعر بالهروب وبالخيانة وما إلى ذلك من صنوف التقنّع بحبّ الوطن… يومها ما سقط الشاعر في المهاترات الوضيعة، بل اكتفى بالرجاء. 
أنقذونا من هذا الحبّ القاسي، قال لهم.
قولٌ ما أعجب المناوئين ولا أعجب المتطوّعين لردّ التّهمة، هكذا أبدأ النصّ قاطعاً الطريق على بعض الألسن التي اختارت المزايدات بتقلّد وظائف كلاب الحراسة (حسب تعبير بول نيزان)، هذه التي لا ترى مانعاً في حشر غيرها في خاناتها الكئيبة. وكذلك لنوفّر لهذه الألسن ما تؤكّد به سرقاتنا. (ويلمّه! إنّه يأخذ جملة للشاعر ملتون من دون أن يذكّر بصاحبها كي يوهم بأنّ الجملة من إبداعه).
«لا تقلْ كلّ ما تسمع، ولا تسمع كلّ ما يقال»، قالت العرب.
صدر كتاب «ديوان نيتشه» عن دار الجمل عام 2007 (أمر سهل التدليل). وظهرت ألسن السوء من عديد الأمكنة تندّد بسرقات الشاعر (وذلك بفضل المترجم الخلّاق الذي لا تغيب عنه شاردة والذي لا يندّه أحد في الكشف عن الفضائح…).
كان شاعرنا مهموماً بمعانقة الكلمة بما هي الفردوس الضائع، الذي ليس من حقّ البعض أن يتركوه يضيع. ما ردّ عليهم بكلمة. عانقْنا كبرياءه وارتضينا الصمت.
أعيد طبع الكتاب عام 2009، وعادت الألسن تذكّر بالسرقات، بإضافة ردود تطوّعت لإزاحة السرقة عن الشاعر، ولكن بكفاية تحويل فعلة السرقة إلى المترجم، الذي صار صاحب الإساءات الرهيبة، والذي يمضي في ذلك إلى حدّ ترجمة الأعمال الشعرية الكاملة لنيتشه كي يسرق من عدوّه جملة وينسبها إلى نيتشه، كي يدلّل زوراً على أنّ عدوّه لصّ إضافةً إلى أنّه خائن للوطن. هذا على إقرارهم بأنّ الجملة شائعة جدّاً، وعلى علمهم بأنّ تفسير استدعائها بصياغة درويش على أنّه قد أملاه الإعجاب أبهى من تفسيره من خلال مسألة السّرقات التي لا تعبّر عن غير أصحابها. 
« Il vaut la peine de vivre sur terre. »
آه! قالت تلكم الألسن، كم صعبت ترجمة هذه الجملة على هذا المترجم المغلوب على أمره حتّى أنّه التجأ إلى الفعلة الأشنع، فعلة السرقة.
قالت العرب: مرّ رجلان على شاة ميّتة. قال الأوّل: ما أنتن رائحتها! نظر إليه صاحبه معاتباً: أما قلتَ ما أبيضَ أسنانها؟ نستدعي هذا الخبر لنقول إنّها الصوّرة عن أحوال الناس في رؤاهم للأحياء والأشياء. رأيت بعض الألسن تنوح على حال الترجمة، أيّتها الألسن لا تنوحي، إنّ الترجمة بخير وإليك الدّليل.. كتب أحدهم ـ ونحن مدينون له بهذه النوافذ التي يفتحها على ثقافتنا: أن نترجم يعني أن نُشرع النوافذ كي تُفتَح الغرف التي أريدَ لها أن تظلّ على الدّوام نديّة معتمة، تُفتَح على المدى الأوسع.
أكاد أجزم بما يلي، محمود درويش على قيد الحياة يصرخ: أنقذونا من هذا الحبّ القاسي، بدون أن أنفي رغبتي في أن أجعــــلها: أنقــذونا من هذا الحبّ الذي لا علاقة له بالحبّ ودعونا نعمل.
٭ تونس
(•) محمد بن صالح هو مترجم «ديوان نيتشه»، الذي استند إليه البعض في اتهام محمود درويش بسرقة عبارة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة» من الفيلسوف الألماني.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *