*نوال العلي
تعودين من عرض سيّئ، ولا تكونين قادرة على رمي الممثلين بالبندورة. تدخلين إلى الشقة الجميلة المطلّة على نفايات، تخلعين الحذاء قبل أن تغلقي الباب خلفك، تبدئين بترك ملابسك تتبعثر من المدخل إلى الممر وحتى البانيو، تفتحين الحنفية وتطلبين من الماء البارد أن يغادر. يحدث معكِ كل ذلك ليلة السبت، فأعرف أنك في طريقك إلى البلوز حتى الأحد. البلوز بالنسبة إليّ ليس موسيقى وحسب، البلوز نوعٌ أدبي يُكتب هكذا، مرة بصوت مادي ووترز، مرة على لسان شخصية لأليس ووكر ومرة في لوحة كولاج لرومير بيردن. البلوز بالنسبة إليّ ليس أدباً وحسب، إنه طريقة ألم. البلوز كأس مملوءة، عن آخرها، بالفهم، للعِرق والجندر والطبقة. لا أعتقد أنه يمكن تقديم تفسير موسيقي للعنف اليومي من دون بلوز؛ سيغني بيغ بيل بروزني للرجال السود العاطلين من العمل: “إذا كنت أبيض فهذا أمر جيّد، إذا كنت بنّي ارجع مرة أخرى، إذا كنت أسود انصرف من هنا”. أما بيغ ماما ثورنتون فتختصر في الأغنيات التي ألّفت معظمها وغنّتها (وغناها آخرون) علاقة البلوز بالمرأة والفقر وحتى بالبدانة والجهل والرجل: “مولودة تحت طالع سيئ، أعيش في الحضيض منذ أن كنت أحبو، ولولا الحظ العاثر لما كان لي حظ أصلاً، لا أستطيع القراءة، لم أتعلّم الكتابة، حياتي كلها كانت مشاجرة كبيرة”. حتى أنها قدّمت شخصية المرأة الأفرو أميركية المعنّفة معنوياً ومادياً التي تبحث عن سلوى، مثلما فعلت في أغنية أخرى (ليست من تأليفها لكنها كانت بصيغة المذكّر حتى غنتها بيغ ماما): “هيا إلى الحشيش”: “حبيبي لن يدعني أدخل البيت، معي قروش قليلة سأشتري بها قرعة جن، اتصلت بصديقتي وقلت لها: تعالي خلينا نحشش. أعمل وأشقى طيلة اليوم، ولا يبدو أن شيئاً مما أفعله صائبٌ. لذلك قلت في نفسي وأنا في طريقي إلى البيت أريد أن أذهب وأحشش”.
سمعتُ نوعين من البلوز؛ الكانتري والأوربان، لا أظن أن أحداً يمكنه أن يُجسّد معنى الكانتري بلوز أكثر من سكوت دانبار، مجنون تماماً، يبدو وكأنه يغني ولا أسنان في فمه، أو يغني وكأنه يبيع سترة على ناصية طريق، ويحاول أن يقنعك بها.
وإذا سمعتم أغنية “Jaybird”، لن تتمالكوا أنفسكم من الضحك معه على القصة التي يرويها، دانبار بنّاء أغانٍ، يحكي بطريقة هيستيرية ويروي بلهجة “ميسيسبية” كيف ذهب إلى زيارة بيت المحبوبة وحمل معه الكثير من الطعام وزجاجة من ويسكي الذرة، لكي ينام والدها وينفرد بها. في مرة أخرى، يروي بالمرح نفسه، كيف أنه يعيش على بحيرة ماري التي كانت نهراً صغيراً متفرّعاً من الميسيسبي، قبل أن تُجتث منه وتتحوّل إلى بحيرة، أو نهر صغير عُزل قسراً عن المجرى، يقطن حوله السود.
الأوربان بلوز، حكاية أخرى، شخصية ويد والتون (1923-2000) توازي دانبار هنا، فهو الآخر لم يكن مغني بلوز عادياً، (هل يوجد مغني بلوز عادي؟)، فقد كان يعمل حلاقاً وفي محله كان يعزف على الحزام المخصص لسَنّ أدوات الحلاقة، مستخدماً إياه كغيتار قبل أن يبدأ في قصَ شعر الزبون، مردداً أنغاماً “بلوزية” من بنات أفكاره بكلمات أحياناً ومن دون كلمات أيضاً، في ما بعد سيصبح من أشهر مغني البلوز الناشطين في الحقوق المدنية للسود حين كان الصراع على أشدّه في الجنوب الأميركي.
من أحلى التسجيلات يظهر والتون وهو يعزف لزبون على غيتار أغنية “أعط قلبي المسكين دواءه”، ويسأله الزبون: “يا إلهي أتساءل كم ستكلفني قَصّة الشعر هذه!”، فيحمل والتون الغيتار خلف ظهره ويعزف ويرقص ويغني.
ثمة رواية إنجليزية عاطفية وحلوة، تحوّلت إلى مسرحية وفيلم في الستينيات، عنوانها “ليلة السبت صباح الأحد”، لا علاقة لها بالبلوز، ما يهم فيها هنا، عنوانها، الذي استخدمه المؤرخ الموسيقي وليام فيريس لرسم العلاقة بين البلوز والكنيسة. كان مغنّي البلوز خطيباً في ليلة السبت والسهّيرة والراقصون مؤمنون بالموسيقى مخلّصة لآلامهم وطريقاً يقرّبهم أكثر من ذواتهم.
كثير من هؤلاء أنفسهم في تلك الأحياء والشوارع “البلوزية” سيذهبون صباح الأحد إلى الكنيسة مؤمنين أيضاً بأن المخلّص فيها. لذلك يمكن القول إن ظهور السبت الموسيقي الصاخب في الليلة السابقة لخطبة الأحد الديني، حملت بدايات ونواة علمنة المجتمع الأفروأميركي في بدايات شيوعها وانتشارها، المفارقة أن كثيرين من مغني البلوز الشهيرين بدأوا حياتهم بالغناء في الكنيسة (في تاريخ الغناء العربي حالات مماثلة من مقرئي القرآن والمنشدين الذين تحوّلوا إلى الغناء الطربي).
يقولون ألا أحد يعرف بالضبط من أين أتى البلوز، يقولون “إنه لغز”، لكن من يسمع جيمس سانفورد توماس، يشعر أن أول من غنى البلوز لا بد أن يكون شخصاً تألّم هكذا.
يظهر توماس مستلقياً وعاجزاً في فيلم وثائقي وعلى صدره العاري غيتار، تقترب الكاميرا منه، تظهر ملامح مريضة، وأسنان مكسرة وصفراء، وصوت مصاب بالمشروب والزكام: “النساء سبب البلوز، أنت تعرف، المرأة تقول لك اليوم أنا أحبك، ثم يصبح الحب في خبر كان. حين تتركك امرأتك لا تملك سوى البلوز. كنت أعمل في المنجم في الحقل السفلي، قبل أن تصبح البلدة أكبر، وعدت لآكل شيئاً وأحضرت معي علبة سجائر، لن أنسى ذلك أبداً؛ حين لاقاني ولد وقال: زوجتك رحلت. ومرضتُ فجأة، هكذا فجأة مرضت كلّي. قلت له: أعرف أنها رحلت. قال: لقد أخذت كل ملابسها. قلت: أعرف يا ولد. اذهب من هنا. لكن ذلك كان مؤلماً.. مؤلماً جداً”، ثم يغني غناءه المتحشرج “Rock me Baby”.
الغيتار المُمسمر إلى الجدار
لم يكد يخلو بيت من بيوت الأفروأميركيين الجنوبيين، مما يسمى “وتر على الحائط”، وهذا كان غيتار المنزل، حيث يُسحب خيط بلاستيكي رفيع من خيوط المكنسة اليدوية، ويثبّت على الحائط بمسمارين، ليكون الغيتار المُمسمر إلى الجدار، آلة البلوز الأولى اليدوية والمنزلية، والتي بدأ من أصبحوا مشاهير مثل بي بي كنغ العزف عليها في بيوتهم، وهي مقتبسة من آلة أفريقية ذات وتر واحد.
_________
*العربي الجديد