الأعْمَــى الَّـذِي يَقُودُ المُبْصِـر!


*صلاح بوسريف


«أعرف وأنا على علاقة صداقة حميمة ببعض النقاد المغاربة والتُّونسيين والجزائريين، أن بعضهم مولع بالغموض الشديد جدا فأبسط المناهج اليسيرة الجميلة تتحول في قلمه إلى لوغاريتم يصعب فك لغزه، وبعضهم الآخر ليست لديه قدرة كبيرة على الاستيعاب النظري والتطبيق العملي، وهم يفتقدون في المغرب العربي عموما ـ وهذا نقد لهم ـ لرصد الظاهرة وفقا لبصيرة نقدية تطبيقية، أما المبدعون منهم فيحتاجون إلى مثقفين مشارقة لكي يضيئوا أعمالهم، لأنهم قد يتملكون زمام الأفكار الكبرى لكنهم لا يعرفون ـ في مجملهم ـ كيفية تبيئتها ولا تطبيقها على الواقع الإبداعي».
هذا الكلام للمصري، «الدكتور» صلاح فضل. وهو، في اعْتِقادِ صاحِبِه، نقدٌ لـ«النَّقْدِ»، أو ما يَعْتَقِد النُّقاد المغارِبَة، والتونسيون، والجزائريُون، أنَّه نقد! في ما هُو، إمَّا غُمُوضٌ وفَذلَكاتٌ كلامِيَة، يَصْعُبُ فَكُّ مغالِيقِها، أو هو جَهْلٌ بالمناهِج، وسُوءُ هَضْمٍ لَها، مهما كانتْ سَذَاجَتُها. فَهُم لا يَمْلِكُون البَصِيرَةَ النقدية التي تُؤهِّلُهُم لِتَكْييفِ، وتَبْيِئَة هذه المناهج، ووضْعِها في سياق ما يقْرَأونَه. وهذا ما يَجْرِي على المُبْدِعِينَ، من شُعراء وروائِيِّين، فهم يَحْتاجُون إلى النُّقاد المشارِقَة، لأنَّ المشرق، وَحْدَهُ، هو مَكان الضَّوْء الذي سَيُتِيحُ لِظُلْمَة ما يَكْتُبُونَه، ويقُولونَه أن تَنْجَلِي، وتَظْهَر.
ـ أولاً : هذا كلامٌ فيه تَعالٍ، وانْتِفاخ، كان يمكنُ قَبُولُهُما منذ ما قبل سنواتِ السبعينيات من القرن الماضِي، حينَ كَان المغْرِب قارِئاً للمشِرق، تابِعاً لَهُ في التعليم، وفي النَّشْرِ، وفي الإعلام.
ـ ثانياً: مثل هذا الكلام، كان يُمْكِن قَبُولُه من الكِبار، مثل طه حسين، هذا الرَّجُلُ الذي، مهما قَسَا في نَقْدِهِ، في ما كَتَبَه، وفي ما خاضَه من معارِك، فَهُو كانَ صاحِبَ مَشْرُوع فِكْرِي ونقْدِيّ كبيريْن وَعَظِيمَيْن، كان لَهُ تأثيرٌ في الأجيال التي جاءتْ بعْدَه، ولَمْ يَكُن مُدَّعِياً، أو جَاهِلاً، بما يتكلَّم عَنْه، ولا أَعْمى، مثلما يَحْدُثُ اليوم عند كثيرِين من دَكاتِرَة المشرق، مِمَّن فَاتَهُم قِطارُ المعرفة، أو هُم، بالأحْرَى، ما زَالُوا لَم يَخْرُجُوا من كَهْف أفلاطُون لِيُدْرِكُوا الفَرْقَ بَيْن الواقِع، وبين تِلْك الظِّلال التي تأْكُل أبْصارَهُم وتُعْشِيها، أو تُصيبُها بالدُّوارِ، ولَجْلَجَةِ اللِّسانِ.
ـ ثالثاً : «الدكتور» صلاح فضل هذا، وأنا أَحْتَفِظُ لَه بصِفَتِه الأكادِيميَة التي تَنازَلْنا عَنْها ـ نحن المغارِبِيُين ـ في ما نَكْتُبُه ونَنْشُرُه، رَغْمَ حَمْلِنا لَها، وهو حريصٌ، مثل غيره من المشارِقَة على تَثْبِيتِها في كتاباتِهِ، باعْتِبارِها سُلْطَةً، أو نَوْعاً من تَثْبِيت الشَّرْعِيَةِ المعرِفَيَة، وفَرْضِها على الآخرين، حِينَ أرادَ رُكُوبَ مَوْجَة النقد الحديث، أو المناهِج البنوية التي كانتْ ظَهَرَتْ في أوروبا، وفي فرنسا تحديداً، وليس في إسبانيا، كَتَبَ كتاباً ضَخْما، في عدد أوْراقِه، عن البنيوية، حِين شَرَعْتُ في قراءتِه، وأنا طالِبٌ في الجامِعَة، لَمْ أحْتَمِلْهُ، ولَمْ أكْمِلْهُ، لأنَّنِي، أدْرَكْتُ، قِياساً بِما كُنْتُ قرأْتُهُ من أعمال لِنُقَّاد ومُتَرْجِمِين مغاربة، أو ما كُنْتُ اطَّلَعْتُ عليه من كتابات باللغة الفرنسية، أنَّ كاتِبَ هذا الكِتاب، لا علاقَةَ لهُ بأُصُول هذه المناهِج الطَّارِئَة، وأنَّه شَوَّه ترجماتِ بعض مفاهيمها، كما شَوَّه فَهْمَها، وهذا ما سأَجِدُ عليه غَيْرِي من الطَّلَبَة والأساتذة، الذين رَفَضُوا الكِتاب، آنذاك، وانْتَقَدُوه، أو غَسَلُوا أيْدِيهم منه، لأنَّه كتابُ تَعْتِيمٍ، لا كتاب «بَصِيرَة» و «تَكْييف»، كما يَدَّعِي الدكتور، في ما يقولُه عن النُّقَّاد المغارِبِيِّين.
ـ رابِعاً : هذا كلامُ لَيْلٍ، لا نَهارَ لَهُ، لأنَّ صاحِبَهُ لا يَعْرِفُ شَيْئاً، لا عَنِ النَّقْدِ المغارِبِيّ، ولا عن الإبداعِ، في هذه الجغرافية العربية المُنْفَتِحَة على الثَّقافاتِ والمعارف، بدُون عُقَد، أو ادِّعاء. فقراءَاتُه، هي تفارِيق، وتقاطِيع، لا صِلَةَ لَها بما حَدَث من انتقالاتٍ كُبْرَى، في الفكر، والنقد، والإبداع، وأيضاً في الفن، في المشهد الثقافي المغارِبِيّ، الذي كما اسْتَفاد من الشَّرْقِ، في زمن علي عبد الرازق، وحسين المرصفي، وطه حسين، والعقاد… أكتفي بالمصرِيِّين فقط، حتَّى لا أذْهَب إلى غيرهم من بلاد الله العربية، اسْتفاد من أوروبا، ومن أمريكا، وعرَفَ كيْف يَهْضِم طعامَه الغَنِيَّ هذا، ويتْرُك مِنْهُ ما كان فُضْلَةً، في أطْرافِ صُحُونِه.
ـ خامِساً : «الدكتور»، الذي يَعْتَبِر نفسَه النَّاقِدَ المُؤَهَّلَ لِيُضِيءَ ما نَكْتُبُه من إبداع، هو مَنْ كان مُساهِماً في جَريرة المليون شاعِر، التي كانتْ تَكْرِيساً للنَّمَطِيَةِ، وتَكْرِيساً لِشِعْرٍ، لَمْ يَخْرُجْ عن الشَّفَاهَةِ التي هي تَعْبِير عن «القصيدة»، بِكُلِّ بِنْياتِها المُتَرَسِّبَة في «العَقْل الشِّعرِيّ» العربِيّ، بتعبير الصديق الشاعر خزعل الماجدي، منذُ أكثر من أربعة عشر قرناً. فما الذي يُسَوِّغُ هذا الانْقِلاب، في الأفْكار، إذا كان النَّاقِدُ، يَعِيشُ في الحاضِر بعقل الماضي، أو يَسْعَى، فقط، لِتَبْرِير، ما سَيَتقاضاهُ من عُمُلاتٍ، مُقابِل تَسْوِيغِ القَدامَة، التي هي مُحاكاة مَعْطُوبَة لِشِعْرِ الكِبار، من أمثال أبي تمام، والمتنبي، والمعري، وأبي نواس، والبردوني، والجواهري، أو تَشْويه لَها؟
لا نَحْتآجُ لِنَقْدِ المشرِقِ، ولا لِتَرْجَماتِه، ولا حتَّى لِفِكْرِه، إذا كان هذا الفِكْر، وهذه التَّرْجَمَة، وهذا النَّقْد، ادِّعاءً، وضَحالَةً في النَّظَر، أو بَصِيرَة، فيها من الغَشاوَةِ ما يَكْفِي لِيَجْعَل من الأَعْمَى يَدَّعِي قيادَةَ المُبْصِر.
المَغارِبِيُون، في ما راكَمُوه من دراساتٍ حديثَةٍ، وفي ما ترجَمُوه من أعمال كُبْرَى، وما عَقَدُوه من حوار مع الغَرب، هُم من أتاحُوا للنقد المشرقي، أن يَخْرُجَ من تاريخ الأدب الذي كان غَرِقَ فيه، ومن نَقْدِ المضامين، والحديث عن الكُتَّاب، بدل النُّصُوص، وهُم من تَرْجَمُوا المفاهيم الكبرى بِدِقَّةٍ، احْتَرَمُوا فيها السِّياقات المعرفية والتاريخية التي تَشَكَّلَتْ فيها هذه المفاهيم، بعكس ما نجِدُه في كتاب صلاح فضل، السّالف الذكر، وفي كتاباتِه، عموماً، بينها كتابه المدرسي السَّاذج الذي كتبه عن محمود درويش، بلغة ووعْيٍ نقديٍّ، أكل عليهما النَّقْد وشَرِب ناهيك عما صدر من ترجماتٍ في مصر، أعاد المغاربة تصْحيحها، بعد نَقْدِها، وكشْفِ هَفواتِها المُرْتَبِطَة بالفَهْم، قبل التأويل، بينَها أعمال جون كوهن، وغيرها. 
الكلامُ الذي صَدَرَ عن «الدكتور» صلاح فضل، ناقِد المليون الذي لا تَرْبِطُنِي به علاقة مباشِرَة، ولَمْ ألْتَقِه، أو جالَسْتُه من قبل، رَغْم أنَّنِي رَفَضْتُ حُضُور اللِّقاء الذي كان فيه إلى جانِبِ الدكتور الآخر، جابر عصفور، وزير ثقافة مبارك والعَسْكَر في مصر ما بعد «الثورة»، في المعرض الدولي للكتاب في الدار البيضاء، رغم دعوة الأصدقاء لي، لأنَّنِي لم أجِد ما يَجْمَعُنِي به، مثلما جمعَنِي بغيره من الشُّعراء والكُتَّاب، والنُّقّاد المصريين الأصدقاء، ممــــن أقرأُ لَهُم بتقدير واحْتِرام، وأعْتَبِر تجارِبَهُم لَها أهَمٍّيَتُها في الشِّعر العربي المُعاصِر.
إنَّ النَّقد، والإبْداعَ، عُمُوماً، هُما مشرُوع، وذَهابٌ إلى المستقبل، وليس كتابةً تحت الطَّلَب، أو تَقْرِيضاً، بلا دَاعٍ، في ما يَكْتُبُه بعض الذين كَتَبَ عنهم صلاح فضل، من المِصْريين، من شُعراء الدرجة العاشــرة، ومن غيرهم من بلاد الله العربية.
فحين يَكُون النقد بهذا المعنَى، يَصِير وَبالاً على الشِّعْر، وعلى النَّقْد، لأنَّه تَزْوِير، وتحريفٌ، وتشويهٌ لجماليات الكِتابَة، ولأفقها المستقبَلِيّ، الذي راهَنَتْ عليه «الكتابة»، كما هي اليوم جارِيَة في الشِّعر العربي المُعاصِر، الذي ليس هو شِعْر المليون! ولا هو شِعر عبد المُعطي حجازي، ولا هو شِعْر، شُعراء الخليج من أصحاب الإمارة والمال. الشِّعْر أكبر من هذا، وهو قَلَقٌ، وتَجْرِيبٌ، واكْتِشاف، واخْتِلاق، وليس تكراراً، واجْتِراراً لِما مَضَى، وانْتَهَى، أو انْحَسَر زَمَنُ إبْداعِه.
وأوَدّ هُنا، أن أُشِيرَ إلى ما كان كَتَبَه صديقُك وزير ثقافة مبارك إبَّانَ سُقوطِه، عن الشَّاعِر الرَّاحِل، الصديق محمد عفيفي مطر، بعد وفاتِه، وليس في حياتِه، من نَقْدٍ لتجربتِه، التي اعْتَبَرَها تقليدية عتيقةً في لغتها وصُوَرِها، وكُنْتُ أجَبْتُ عنه في أحد أعداد جريدة «أخبار الأدب». هذا النَّوْع من النقد الذي هو تَضْليل، وتَزْييف، لا يَرُوم الإضافَة، بقدر ما يَسْعَى إلى الإساءة، وتصفية الحساباتِ القديمة، لا غير. الأمْر نفسه فَعَلَه مع الصديق الشاعر عبد المنعم رمضان، الذي كان كَتَبَ عنه مقالةً، في جريدة «الحياة» أطْرَى فيها على تجربتِه، واعْتَبَرَه من الشُّعراء المُهِمِّين، وحين وقَع بينَهُما خِلاف مَّا، كَتَبَ في الجريدة نفسها، يُجَرِّدُه من الشِّعْرِيَةِ، ويَعْتَبِرُه تابِعاً، في ما يَكْتُبُه لأدونيس. هذا هو سُلُوك نُقَّادٍ تَجاوَزَتْهُم المعرفة، تجاوَزَهُم النص الشِّعرِي الحداثِي، وليس الحديث، فقط، ففضَّلُوا الطَّعْنَ في كُلِّ شيء، لأنَّهُم لا يَقْتاتُون في معرفتِهِم، إلا بما انْتهَى، وأصْبَحَ في عداد المُتلاشِي. الغريب، أنَّ هؤلاء، هُم من تَجِدُهُم في كُلّ مكان من أرض الله العربية، وهُم من يقترِحُون من سينوبُ عنهم في لِقاءاتٍ لا يَحْضُرُونَها، وهذه هي مُعْضِلَة واقعنا الثقافي، التي هي انْعِكاس لواقعنا السِّياسي السَّيِّئ، الذي أصبح فيه العَسْكَر جُنْد الله الذي سَيُنْقِدُنا من الضَّلال، ويُخْرِجُنا من الظُّلْمَةِ إلى النُّور.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *