حارس السجن الذي أمتع العالم برواياته


*إبراهيم سبتي


عندما تصادر السلطة لغة الكاتب والمثقف فما الذي يتبقى لكي يصدّر أفكاره للآخر الذي ينتظر منه الكثير؟ هذا ما كان من أمر أدباء أوكرانيا الذين أجبروا على تعلم اللغة الروسية كي ينتشر نتاجهم بين الجمهوريات السوفيتية آنذاك، وقد مارست الحقبة الستالينية القمع الفكري ما تسبب بهجرة جماعية لم تشهد لها البلاد مثيلا ناهيك عن السجن والتنكيل من قبل أجهزة الدولة التي حاولت تذكير الكتّاب على الدوام بأنهم يخضعون لمحددات ثابتة في الكتابة.
وأن اللغة الروسية هي لغة الكتابة ولا خيار آخر، فكان الكاتب الأوكراني يخفي قلمه ومنجزه عن عيون السلطة ما لم يكن مكتوبا بالروسية ومقبولا من النظام.. هكذا كانت السلطة في أوكرانيا قد منعت الكتّاب من الكتابة باللغة الأم وإجبارهم على استخدام اللغة الروسية، وهو ما خلق جوا دراماتيكيا احتاج الى الفطنة والمناورة من قبل الكتّاب لإبعاد التهم التي تكال جزافا على الكتاب للإطاحة بكراماتهم . في الثلاثينات سمح ستالين باستخدام اللغة الأوكرانية في الكتابة المقيدة أحيانا بشروط النشر ولكنها ظلت حبيسة حدودها. 
إذن قمعت اللغة ولم يسمح للأدباء بالكتابة إلا ضمن حدود يقبل بها ستالين وغيره من الرؤساء السوفييت اللاحقين مثل خروشوف وبريجنيف. فظل الكتّاب الأوكرانيون يكتبون باللغة الروسية عدا بعض الحالات النادرة فكانت أجيال الكتاب المتلاحقة تسير وفق تلك الثوابت .. أما اندريه كروكوف، فهو احد الكتاب الاوكرانيين الذين كتبوا ادبهم باللغة الروسية منذ ثمانينات القرن الماضي باحثا عن مكان له بين الروائيين الأوكرانيين والأوروبيين، فكان حلمه أن يقرأ له العالم الحر رواياته المليئة بالقلق والفوضى والحرية الجديدة وخاصة بعد تفكك الدولة السوفيتية في عام 1991 .
نهض كروكوف من قمقمه وجاهد للوصول الى منصة المتميزين من الكتّاب، خاصة أن أوكرانيا أعطت للأدب شعراء كبارا غطت عليهم ماكنة الإعلام السوفيتية، فتلاشت أخبارهم رغم أن منجزهم الكبير بدأ يظهر في السنوات الاخيرة من قبل محبي الأدب الأوكراني. 
سيق كروكوف للخدمة العسكرية بعد تخرجه من كلية اللغات في العاصمة كييف وعيِّن حارسا للسجن على المجرمين والفارين من الجيش . فكتب قصصا قصيرة أثناء واجباته في الليالي الباردة بدلا من كتابة تقارير الوضع الأمني للسجن لزميله الصباحي .. فكان الروسي أصلا (ولد في بطرسبورغ في عام 1961)المنتقل إلى أوكرانيا طفلا، قد انتبه الى الانتماء مبكرا، الانتماء إلى الوطن البديل (أوكرانيا) والى الحياة المضطربة ثقافيا وادبيا تحت سطوة الحزب الشمولي .
فكتب رواياته الأولى مجسدا معاناته ككاتب وكمواطن يرنو الى العالم الحر. أصدر اندريه كروكوف خمس روايات لاقت صدى طيبا في بلاده غير أن واحدة من تلك الروايات كتبها في التسعينات (الأغنية المفضلة) قد فازت بجائزة الروائي الألماني “هاينريش بل” فكانت ضربة العمر بالنسبة له، فذاع صيته في ألمانيا وأوروبا ومن ثم في أرجاء العالم وعدّ من أفضل الروائيين الأوكرانيين ومن أكثرهم مبيعا. مؤخرا أصدر روايته الجديدة (عزيزي صديق المرحوم) بترجمتها العربية وقام بالمهمة الصعبة المترجم التونسي وليد سليمان وعنوانها بالترجمة الانكليزية ( قضية حياة أو موت )التي صدرت في لندن قبل الترجمة العربية. في هذه الرواية ينقل كروكوف عوالم الضياع والابتذال وسطحية الحياة بعد فقدان الأمل بحياة كريمة وتحديدا بعد انهيار الدولة السوفيتية والوقوع في المجهول الذي لا أحد يعرف ما ستؤول إليه الأوضاع . بطل الرواية ” توليا ” مترجم كان يعيش مع زوجته في شقة متواضعة جدا تحتوي على غرفة واحدة بدون اضافات ما عدا وجود حمام صغير.
تتدهور أحوال ” توليا” المعيشية نتيجة انهيار الاقتصاد السوفيتي قبل تفككه وسقوطه تماما بعد ذلك ما جعله عاطلا عن العمل رغم بحثه عن عمل آخر، وكأن الحياة في أوكرانيا قد تعطلت تماما. في تلك الحالة تهجره زوجته بعد اليأس والإحباط من توفير حالة عيش مقنعة وتتهمه بالعاجز عن العمل،الواقع تحت تأثير الشرب اليومي النهم. إنها الزوجة الباحثة عن حياة أخرى فترتمي في أحضان أحد الأثرياء الذي يملك الثروة- العقارات- والكلام المعسول لتترك زوجها الى مصيره المحتوم . يقرر ” توليا ” الانتحار والخلاص من الوضع المزري الذي يعيشه بعد يأس وموت بطيء..لكنه لا يستطيع تنفيذ فكرة الانتحار لعجزه وجبنه في آخر لحظة فيلجأ إلى فكرة أخرى وهي تأجير قاتل محترف ( يكلف أحد أصدقائه بمهمة البحث ) ليزيله من على وجه الأرض بعد الاتفاق على المبلغ. ويتحدد المكان وسيكون ” توليا ” حاضرا هناك لتتم الصفقة. الا ان الأمور لم تسر وفق تخطيطه بعد ان التقى في لحظة تسكع في شارع مظلم خال بفتاة ليل ” لينا ” ليقضي معها ساعات في آخر ليلة من حياته لان المهمة ستنجز في اليوم التالي. ولكن كروكوف حاول باسلوب شيق واسترسال سهل، بأن يكون لفتاة الليل دور مهم وحاسم في حياة ” توليا “عندما تبدل حياته فجأة بعد أن غمرته بحنان نادر وعاطفة لا توجد الا في أحلامه المتهالكة.
فيندم ” توليا ” على ما قام به من تأجير قاتل له ويحاول أن يتخلص من هذا المأزق بشتى الطرق والوسائل المتاحة، إلا أن خياله راح ابعد من ذلك، حينما قرر تأجير قاتل آخر ليقوم بقتل القاتل الأول، وتنتهي المشكلة حسب ما خطط لها ويحاول بعد تنفيذ المهمة ان يذهب الى بيت القاتل الأول ويعطي زوجته المبلغ المتفق عليه لأنه اعتبر الاتفاق شرفا وميثاقا لا يمكن التراجع عنه. وبعد تكرار الزيارات تقع الأرملة بحب ” توليا ” الذي يطيح بكل يأسه ويتشبث بهذه السعادة التي منحتها له فتاة الليل أولا ومن ثم امرأة المقتول التي تعلقت به.
في هذه الرواية يقدم لنا كروكوف ترجمة حية للحياة الأوكرانية بعد فوضى انهيار الاتحاد السوفيتي ومحاولة تأسيس واقع جديد صعب لم يكن العقل يتصوره بهذه السرعة، فنقل لنا الخوف واليأس والفوضى وحياة الليل الصاخبة والعواطف الباردة والكرامة المفقودة والابتذال الذي أدى الى ترك الزوجة لبيتها والارتماء بأحضان ثري ينفذ كل مطاليبها. إنها فورة العيش بمجتمع وليد متحرر من سطوة الشمولية المطلقة مع أن القصة حدثت وتحدث في كل زمان ومكان، إلا أن الواقع الأوكراني الجديد حتّم على كروكوف طرح متناقضات مجتمع يعيش الحرية بعد فراق طويل لها. كتب اندريه كروكوف مقدمة لروايته وجهها للقارئ العربي وكأنه اكتشف قارئا جديدا لم يكن يتصور انه سيلتقي به يوما.
* رواية (عزيزي صديق المرحوم) للروائي الأوكراني اندريه كروكوف. ترجمة وليد سليمان. الطبعة الاولى 2011 عن دار نشر وليدوف في تونس.
_______
*المدى

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *