الدماغ.. قارّة لم يطأها العلم بعد


*الفاهم محمد


يعيش العالم انفجاراً علمياً كبيراً على كافة الاتجاهات، ما من شأنه أن يؤدي بالجنس البشري إلى انعطافة غير مسبوقة في طبيعة الحياة والكون، بل وطبيعة الإنسان ذاته. وتوجد مشاريع هائلة، ليس فقط بما رصد لها من ميزانيات بحثية ضخمة، أو بما تطلبته من مجهودات جبارة من طرف العلماء، بل أيضاً بما يمكن أن تحققه من وضع جديد يطرح الكثير من القضايا والمشاكل الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية، التي تتطلب تفكيراً من نوع مغاير… هنا عرض لأهم هذه المشاريع العلمية المميزة للألفية الثالثة.
محطة الفضاء الدولية
تعرف اختصاراً بـ ISS، وهي أكبر المشاريع الفضائية المميزة في نهاية القرن العشرين والألفية الثالثة. وقد شرع في العمل بها عام 1998، وشاركت في إنجازها العديد من الدول، تحت إشراف الولايات المتحدة وروسيا ودول أخرى تجاوز عددها 15 بلداً، حيث بلغت تكلفتها 100 مليار أورو، ومن أبرز مهامها القيام بتجارب علمية في الفضاء الخارجي، وإعداد الإنسان كي يمضي فترات طويلة خارج كوكب الأرض، وترتفع المحطة 390 كيلومترا عن سطح الأرض، وتدور حول الكوكب بسرعة 28 ألف كيلومتر في الساعة، وهي بحجم مساحة ملعب لكرة القدم، واكتمل العمل بها في 2010، بعد 50 رحلة فضائية، وفي كل مرة يتم تجهيزها بقطعة معينة.
وما يميز هذه المحطة التواجد الدائم لرواد الفضاء بها، حيث يقومون بأعمال مختلفة والدوام 10 ساعات في اليوم، ثم يخلدون إلى النوم حسب توقيت غرينتش. يضم الفريق ما بين أربعة إلى ستة رواد يتم استبدالهم كل ستة أشهر، وإذا ما قمنا بجولة سريعة لاستعراض المحطة فإننا سنجدها تتكون من المركبة الصغيرة كوبولا، والمختبر الروسي سفيزدا، وعربة النقل المؤتمتة التي أرسلتها أوروبا، والمركبة سويوز، ومركبة الشحن الروسية بروغوس، والمختبر الأميركي ديستني، والمختبر الأوروبي كولومبس، والمختبر الياباني كيبو، والعديد من ألواح الخلايا الشمسية والقطع الأخرى.
الشمس الصناعية
مشروع مستقبلي ضخم وغير مسبوق، تشرف عليه ست دول هي الهند، واليابان، وروسيا، والصين، وكوريا الجنوبية، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأميركية، وهو عبارة عن مفاعل نووي حراري دولي عملاق، فضل البعض أن يطلق عله اسم الشمس الصناعية، ويوجد حالياً نموذج له بفرنسا، كما أن الصين والولايات المتحدة الأميركية تقتربان تدريجيا من تحقيق هذا الاندماج على أرض الواقع.
ومن المنتظر أن يبدأ تشغيله بحلول 2019. ويقوم هذا المشروع على محاكاة التفاعلات النووية التي تجري في الشمس على مستوى مصغر، حيث من المنتظر أن يولد 500 ميغا وات من الطاقة، فهو إذن عبارة عن مفاعل نووي، ولكنه يختلف عن المفاعلات النووية المعروفة حالياً والتي تولد الطاقة عن طريق انقسام الذرات، أما مفاعل الشمس الصناعية فسيعمل على توليد الطاقة كما يحدث في الشمس تماماً، وفي باقي النجوم أي عن طريق اندماج الذرات مع بعضها البعض. لكنه على خلاف الشمس يمكن أن يكون الاندماج عنيفاً ومدمراً، ومن المنتظر أن توفر الشمس الصناعية الطاقة بشكل آمن ومتحكم فيه، وقيل في هذا الصدد مثلاً أن نظائر الهيدروجين المستخرجة من ليتر من ماء البحر بإمكانها أن توفر ما يكافئ 300 ليتر من البنزين.
ويعد مشروع الشمس الصناعية أحد أهم الوسائل التي ستمكننا من تحقيق الانتقال من الطاقات الأحفورية نحو الطاقات المتجددة، التي ستكون أبدية مثل الشمس، ويدوم عمرها مليارات السنين.

المصادم الهايدروني
ينعت مصادم الهايدرونات الكبير بكاتدرائية القرن 21، ويطلق عليه اختصاراً LHC حيث تشير كلمة المصادم إلى العملية التي تحدث أثناء التجربة حينما تصطدم الجزيئات مع بعضها البعض، أما كلمة الهايدروني فتحيل إلى الجسيمات التي تتضمن الكواركات والجزيئات الأولية، بينما تشير كلمة الكبير إلى طوله الذي يبلغ 27 كيلومتراً، ويمتد بشكل دائري على الحدود بين سويسرا وفرنسا بالقرب من مدينة جونيف على عمق 175 متراً تحت الأرض. وقامت ببنائه المنظمة الأوروبية للبحث النووي CERN ابتداء من سنة 1998، لكن انطلاقته الرسمية كانت عام 2009 بتكلفة 9 مليارات دولار، غير أن الرقم زادت قيمته بسبب المشكلات التقنية التي حدثت.
يضم المشروع الآلاف من العلماء الفيزيائيين من مختلف البلدان، يهدف إلى تفتيت المادة وتسريع جزيئاتها الصغرى، كالإلكترونات والبروتونات والكواركات، وغيرها بسرعة تقترب من سرعة الضوء، بغرض معرفة الأحداث متناهية الصغر والقوانين التي تنتج عنها، ما من شأنه أن يخبرنا الكثير من المعلومات حول الظروف التي أعقبت الانفجار الكبير وولادة الكون بشكل عام، والتحقق من العديد من النظريات الفيزيائية والفروض العلمية.
حساب الجينومات البشرية
انطلق المشروع سنة 1990 بهدف القيام بقراءة شاملة للمعلومات الوراثية الموجودة في الحمض النووي DNA، ويطلق على هذه العملية مصطلح (Le séquençage) وهي عملية هائلة لأنها تتطلب القيام بقراءة ثلاثة مليارات من المعلومات المتضمنة في الجينات، والكلفة المادية لهذه العملية عالية، حيث تمت القراءة الشاملة أول مرة سنة 2003 وبلغت 7,2 مليار دولار، ودام العمل فيه نحو 15 سنة، لكن منذ ذلك الحين انخفضت التكلفة بشكل تدريجي الى 1000 دولار حالياً، ما سيجعل العملية متاحة للجميع، ويمكننا من فهم الطفرات الجينية، وبالتالي التحكم في بعض الأمراض وتحسين الصحة العامة.
وتكتسي العملية أهمية بالغة على الصعيد الطبي، لأنها تسمح للفرد بالاطلاع على العوامل المسببة للمرض، أو توقع ما يمكن أن يصيبه في المستقبل من أمراض كالسرطان مثلاً، غير أن بعض الدول ذهبت بعيداً في هذا المجال وأعطت لقراءة الجينومات البشرية تطبيقات جديدة، فالصين مثلاً أطلقت مشروع البحث عن جينومات العباقرة، وهو ما من شأنه أن يجعل العبقرية اليوم ليست هبة فطرية طبيعية، بل وليدة مختبرات البحث، ما قد يؤدي إلى إشكالات أخلاقية واجتماعية خطيرة على مستقبل الجنس البشري.
إطالة مدة الحياة
مشروع إطالة مدة حياة الإنسان، واحد من أخطر المشاريع التي تثير نقاشاً حاداً، وله علاقة بحساب الجينومات البشرية، لأن العثور على «جينة العمر» من شأنه أن يدفعنا إلى التحكم فيها وتوجيهها نحو غايات محددة، وقد كتب الباحث والطبيب الفرنسي المعاصر لوران ألكسندر كتاباً بعنوان «موت الموت» وفي رأيه أن معدل الأمل في الحياة قد تطور وتحسن تدريجياً منذ عقود، فالبشر اليوم يعيشون أطول مما كان عليه الأمر في السابق، لكن ما النتائج العامة لطول العمر الذي نعرفه في حياتنا؟
يتحدث الباحث الفرنسي لوران ألكسندر عن أربعة سيناريوهات، يقول الأول إن هذه العملية ستفشل قريباً بسبب تزايد الأمراض وظهور الفيروسات الجديدة والتلوث، فيما يؤكد الثاني أن هذا المعدل سيتوقف عند حدود معينة، لأن العلم لا يمكن أن يطيل عمر الإنسان إلى مالا نهاية، ما السيناريو الثالث فيعتقد أن عملية إطالة العمر ستتقدم بشكل تدريجي إلى أن تتوقف في حدود 130 أو 140 سنة.
أما السيناريو الأخير فيؤكد أن الثورة العلمية البيولوجية ستمكن الإنسان من أن يعيش ألف سنة.
ويميل الكاتب إلى تفضيل السيناريو الأخير، فالجنس البشري في نظره تراجعت قدراته البدنية والذهنية كثيراً، ولا يمكن إنقاذ مصيره إلا بفضل تدخل العلوم.
لقد قيل دوماً إن ثمة شيئين لا يمكن للمرء التحديق فيهما، الشمس والموت، بمعنى أن هذا الأخير سيظل سراً مغلقاً أمام الذهن، وشرطاً أساسياً مميزاً للوجود البشري، فهل بات الإنسان قريباً من تجاوز هذا الشرط؟
قراءة الدماغ البشري
الدماغ أعقد ما يوجد في الكون إلى حد الآن، وهو آخر قارة بقي على العلم أن يطأها، لكن علوم الأعصاب تؤكد اليوم أنه بإمكاننا قراءة هذه المليارات من الإشارات التي يرسلها المخ البشري. بل ويمكننا أن نقيم علاقات متداخلة بشكل تفاعلي بين الدماغ والحاسوب، وهذه بعض مضامين المشروع الذي يعرف بمشروع الذهن البشري، ويدعى اختصاراً HBP، وهو مشروع ضخم يرمي إلى تطوير الأبحاث في مجال علوم الأعصاب وعلوم الإدراك، والمعلوميات، بهدف الاطلاع على أسرار الوعي البشري، في أفق الوصول إلى ذكاء صناعي يتفوق على الذكاء البشري.
بدأ المشروع عام 2013 ومن المنتظر أن يبلغ غاياته سنة 2023، ويوجد مقره الحالي في جنيف، حيث انطلق بمساهمة 100 مؤسسة وبتكلفة 54 مليون أورو، غير أنه سيتضاعف مستقبلاً، إذ من المنتظر أن يبلغ 19,1 مليار أورو، وهو ممول بشكل أساسي من طرف الاتحاد الأوروبي، وبعض المؤسسات الحكومية الأخرى.
استصلاح المريخ
يتعلق الأمر بمشروع افتراضي يرمي إلى تحويل المريخ من كوكب قاحل إلى كوكب شبيه بالأرض، وكان العالم الأميركي الراحل كارل ساغان بين أوائل من طرحوا هذه الفكرة، حيث كان الأمر يتعلق في البداية بكوكب الزهرة، لكن بعد اكتشاف استحالة ذلك بسبب غلافه الكبريتي، تم تحويل الأنظار إلى المريخ، فهذا الكوكب الذي يبلغ نصف حجم الأرض يحتوي على غلاف جوي، وإن كان ضعيفاً مقارنة بالأرض، كما أنه يحتوي على قطبين جليديين، واحد في شماله وآخر في الجنوب.
يقول كريس ماكاي عالم البيولوجيا الفلكية التابع لوكالة الفضاء الأميركية – ناسا إن فكرة الاستصلاح تعني إعادة الحياة إلى المريخ، برفع درجة حرارته حتى يذوب الجليد، ويتحول إلى مياه، وهكذا فالاحتباس الحراري، الذي يضر بالأرض، من شأنه أن يكون ذا فائدة بيئية عظيمة على المريخ، وهناك عدة طرق للقيام بذلك، إما بوساطة إقامة مصنع يبت غاز ثاني أكسيد الكربون، أو استخدام غازات أخرى تقوم بالمهمة بشكل أسرع، أو عبر صنع كائنات مجهرية كالبكتيريات والفطريات بوساطة البيولوجيا التركيبية، وإطلاقها في تربة المريخ كي تعمل على تحويلها، فتصبح تربة عضوية صالحة للزراعة، ويعتقد العلماء أن مثل هذا المشروع قد تستغرق نحو القرن، لكن بعد ذلك سيصبح المريخ مثل كوكب توأم للأرض.
وبعد، ، ،
لا تعرف طموحات الإنسان حدوداً، ومشروع كاليكو الذي أطلقته غوغل سنة 2013 وضع هدفاً له بتمثل في التغلب على الموت مستقبلاً، وتسعى جامعة المفردة الحرة المؤسسة من طرف راي كوتزفايل وبيتر ديامانديس، إلى المرور نحو إنسانية جديدة، نتجاوز الصورة القديمة للإنسان المستسلم لشرطه الوجودي. كل هذا يدل على نقلة نوعية تنتظر البشرية مستقبلاً. ولكن لنتريث قليلاً، ولنسائل هذه النزعة العلمية المفرطة في حماستها، إذ قد يكون العلم عاملاً قوياً في رقي الإنسان، ولكنه لن يحل مشكلة الإنسان، ما لم يحل هذا الأخير مشاكله النفسية والسلوكية، والمقصود أن إرادة المعرفة شيء جيد، غير أن التجربة التاريخية علمتنا إلى حد الآن أنها تتحول مع الوقت إلى إرادة قوة تصنع الدمار والعنصرية والسيطرة، وإقصاء الشرائح المستضعفة…
باختصار لا يمكن للعلم أن ينقذ الإنسان ما لم ينقذ الإنسان ذاته، ويتجاوز أمراضه الفكرية ومركباته النفسية.
أرقام
* 9 مليارات بلغت تكلفة مصادم الهايدرونات الكبير الذي يوصف بـ كاتدرائية القرن الـ 21 ثم زادت قيمة الرقم بسبب المشكلات التقنية التي حدثت.
* 7.2 مليار دولار كلفة القراءة الشاملة للجينوم البشري لأول مرة وحدثت العام 2003 أما الآن فانخفضت إلى 1000 دولار، ما سيجعل العملية متاحة للجميع.
* 54 مليون أورو تكلفة مشروع الذهن البشري (HBP)، وهو مشروع ضخم يرمي إلى تطوير الأبحاث في مجال علوم الأعصاب وعلوم الإدراك، والمعلوميات؛ بهدف الاطلاع على أسرار الوعي البشري، في أفق الوصول إلى ذكاء صناعي يتفوق على الذكاء البشري، ومن المنتظر أن يبلغ 19,1 مليار أورو، وهو ممول بشكل أساسي من طرف الاتحاد الأوروبي، وبعض المؤسسات الحكومية الأخرى.
4 سناريوهات لإطالة عمر الإنسان
يتحدث الباحث الفرنسي لوران ألكسندر عن أربعة سيناريوهات في ما يخص إطالة عمر الإنسان، الأول: إن هذه العملية ستفشل قريباً بسبب تزايد الأمراض وظهور الفيروسات الجديدة والتلوث، والثاني أن هذا المعدل سيتوقف عند حدود معينة، لأن العلم لا يمكن أن يطيل عمر الإنسان إلى ما لا نهاية، أما السيناريو الثالث فيعتقد أن عملية إطالة العمر ستتقدم بشكل تدريجي إلى أن تتوقف في حدود 130 أو 140 سنة. وأما السيناريو الأخير فيؤكد أن الثورة العلمية البيولوجية ستمكن الإنسان من أن يعيش ألف سنة.
_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة

(ثقافات) الفيلسوف “ابن رشد”: منهجه العقلاني وعلاقته بعلم الاجتماع وحقوق المرأة حاتم السروي لا نبعد كثيرًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *