*شوقي بن حسن
يتغلغل “المال” كفكرة وواقعة ملموسة في كل تفاصل الحياة اليومية، ولعل هذه الوضعية/ الخاصية جعلته يبدو مثل الهواء والماء، كعناصر يُنظر إلى استعمالاتها قبل النظر فيها كموضوع، وهو أمر إذا ما تحقّق تكاد تحتكره الكتابات العلمية. أمام هذا الوضع، غالباً ما يحيل تأليف كتاب حول “المال” إلى عناوين لا توجّه إلا إلى المتخصّصين، ليظل تناوله -على مستوى الكتابة- يبدو منفصلاً عن الواقع.
في كتاب “حكمة المال”، الصادر مؤخراً عن “منشورات غراسي” في باريس، يقدّم الكاتب الفرنسي باسكال بروكنر (1948)، في هذا العمل الذي يصنّفه كـ “محاولة” (نمط كتابة شائع في فرنسا) قراءة في حضور المال في حياة الناس “اليوم”، ضمن إطار دقيق، وهو صدى الأزمات الاقتصادية التي تهزّ العالم.
المال، بالنسبة للمؤلف، “وعدٌ يبحث عن حكمة”، مقولة يعود بها إلى جذور فكرة المال تاريخياً، حيث استعملت هذه الأداة لإنهاء الصعوبات التي كانت تخلقها المقايضة باعتبارها نظام التبادل الاقتصادي في المجتمعات البدائية. غير أن المال منذ أن وُجد، كعنصر يستطيع مقايضة أي عنصر آخر، تحوّل إلى “وعد”، إذ أن من يضعه “في جيبه” بات قادراً (وفي حدوده) على توفير حاجياته.
الوقوف عند هذه النقطة؛ الحاجيات، هو قفزة من المستوى المجتمعي الاقتصادي، إلى أعماق النفس البشرية. فما هي الحاجة الإنسانية؟ إنها عالم لا يكاد يقع له أحد على قرار، يتفرّع إلى متاهات الرغبات الجسدية والعاطفية والنفسية والغرائزية والاجتماعية.
يوظّف بروكنر زوايا النظر هذه ليفكّر في “المال” اليوم؛ زمن تتلاطم فيه الأخبار عن أزمات اقتصادية عالمية وإقليمية ومحلية، من أزمة العقارات في 2008 التي تحوّلت إلى أزمة عالمية، إلى إجراءات التقشف الحكومي في اليونان. هذه الأوضاع، وتوسّع الحديث عنها في الإعلام، تُدخل إلى معادلة الفهم الإنساني للمال (وبالتالي علاقته مع معظم الأشياء) أبعاد إضافية تربط الفردي بالكوني. يطرح بروكنر مقولة طريفة وهي أن “المال يجعل من أيّ كان فيلسوفاً رغم أنفه”، حيث يرى أن خاصية المال كـ “وعد” بالمعنى الذي طرحه، جعلته أداة تضع الإنسان مباشرة أمام “معضلة” اتخاذ قرار، هذا القرار الذي تتجمّع فيه كل مهاراته وخبراته ومعتقداته (ومنها معتقداته حول حاجياته).
ألم يقل الفلاسفة، سارتر بالأساس، بأن هذه القرارات اليومية والاختيارات هي التي تصنع “الإنسان”؟ لا يغيب عنا هنا اختيار بروكنر لعنوان كتابه، حيث استخدم مصطلح “الحكمة” وهي حاضرة في تعريف الفلسفة لنفسها. ولتوضيح فكرته أكثر، يكشف المؤلف جناساً في اللغة الفرنسية (تشابه في كلمات: تفكير penser وإنفاق dépenser)، جاعلاً من أبسط ما نقوم به وأهونه: الإنفاق، نوعاً من “الفلسفة الصامتة” على حد تعبير الابستيمولوجي الفرنسي جان توسان دي سانتي، الذي قال بأن جهود العلماء في اختصاصتهم تتضمّن اشتغالاً فلسفياً، رغم ابتعادهم عن لغة الفلسفة وأدواتها. بروكنر يذهب أبعد، فيجعل كل عملية شراء -على بساطتها- تفلسفاً.
ألم يقل الفلاسفة، سارتر بالأساس، بأن هذه القرارات اليومية والاختيارات هي التي تصنع “الإنسان”؟ لا يغيب عنا هنا اختيار بروكنر لعنوان كتابه، حيث استخدم مصطلح “الحكمة” وهي حاضرة في تعريف الفلسفة لنفسها. ولتوضيح فكرته أكثر، يكشف المؤلف جناساً في اللغة الفرنسية (تشابه في كلمات: تفكير penser وإنفاق dépenser)، جاعلاً من أبسط ما نقوم به وأهونه: الإنفاق، نوعاً من “الفلسفة الصامتة” على حد تعبير الابستيمولوجي الفرنسي جان توسان دي سانتي، الذي قال بأن جهود العلماء في اختصاصتهم تتضمّن اشتغالاً فلسفياً، رغم ابتعادهم عن لغة الفلسفة وأدواتها. بروكنر يذهب أبعد، فيجعل كل عملية شراء -على بساطتها- تفلسفاً.
____
*العربي الجديد
*العربي الجديد