*عزت عمر
«كلّنا خرجنا من معطف غوغول» العبارة الشهيرة التي قالها كاتب روسيا العظيم فيودور دوستويفسكي، ما انفكّت تتداول على ألسنة الكتّاب والنقّاد حتى اليوم، وهذا يعني بالضرورة أن رواية الكاتب الروسي نيقولاي غوغول (1809 – 1852) القصيرة.
قد أثّرت في الأجيال الروائية والقصصية بعد نشرها، لا سيّما وأن نيقولاي غوغول هو صاحب الرواية الشهيرة «النفوس الميتة» التي صنّفت في مرتبة متقدّمة في قائمة أهم مئة رواية عالمية، لفكرتها الطريفة ولجرأتها في نقد الفساد الإداري الذي كان مستشرياً في روسيا ذلك الزمن..
وبالإضافة إلى هذه الرواية، كتب روايته الملحمية «تاراس بولبا» الفارس القوزاقي الشهير والحرب مع البولنديين، وأخرجته هوليوود ببطولة يول براينر في الستينيات من القرن الماضي كفيلم ملحمي لا ينسى، وكتب غوغول مسرحيتين ساخرتين إحداهما اشتهرت عالمياً ومثّلت في كبريات المسارح وهي «المفتش العام»، وبطبيعة الحال مجموعة من الروايات ألقصيرة التي اشتهر بها واعتبرت أساساً للقصّة القصيرة التي انطلقت من ذلك المعطف وحكاية صاحبه «أكاكي أكايفيتش».
1843
نشر غوغول روايته القصيرة «المعطف» عام 1843، رصد فيها شخصية موظّف في إحدى الإدارات اسمه «أكاكي أكايفيتش» لديه معطف قديم يزداد اهتراء وترقيعاً مع مرور السنين، نظراً لأن راتبه لا يكاد يفي أوده ولا يستطيع شراء معطف جديد.
وعندما تمكّن أخيراً من شراء معطف جديد صار بمثابة حدث استثنائي استحق الاحتفال به من قبل زملائه في العمل، وخلال عودته من السهرة جاء لصّان وسرقاه منه في تلك الأجواء السيبيرية، التي لا يستطيع الإنسان العيش فيها من دون معطف، وهذه هي فكرة الحكاية كاملة.
الرواية فن
غير أن الرواية ليست حكايتها، وإنما هي فنّ إبداعيّ له غاياته الطموحة في تبيان مقاصده الفكرية بجملة من الطرائق السردية الكاشفة للشخصية ودواخلها، والكشف عن البيئة الاجتماعية الحاضنة وعن ثقافتها المتجلية في السلوك العام الذي كان غوغول ينتقده بشدّة عبر إقامة المفارقات الساخرة وعبر التعمّق في الذوات الإنسانية، ونموذجها رواية «المعطف» و قصّة «الأنف» التي تحكي عن ذلك الموظّف الذي استيقظ فاكتشف أن أنفه اختفى ليكشف عن جملة المفارقات التي عانى منها.
المهمّش
«أكاكي أكايفيتش» موظف مغمور يعمل بوظيفة كاتب أو بالأحرى ناسخ، قصير القامة، مجدور إلى حد ما وأحمر، كما أنه أعمش بصلعة صغيرة فوق الجبين وتجاعيد على كلا الخدين. وعلى حدّ تعبير الترجمة: «كان الجميع يرونه دائماً في المكان نفسه وفي الوضع ذاته وفي الوظيفة عينها، أي موظف كتابة، حتى إنهم آمنوا فيما بعد بأنه، على ما يبدو..
ولد هكذا جاهزا في حلته الرسمية». والمؤسف أن هذا الكائن المهمّش لم يكن يحظى بأيّ احترام. فالحراس «لا ينهضون عند رؤيته، بل لم يكونوا ينظرون إليه، كما لو كان مجرد ذبابة هي التي طارت عبر صالة الاستقبال».
وإلى ذلك، وبالرغم من طيبته البالغة، كان مضطهداً من قبل زملائه ورؤسائه الذين كانوا يعاملونه بفوقية وغطرسة ويكلّفونه بمزيد من العمل: «فأي مساعد من مساعدي رئيس القلم كان يدس الأوراق تحت أنفه مباشرة حتى من غير أن يقول له: «انسخها» أو«هاك عملاً طريفاً طيباً». أو أية كلمات طيبة كما جرت العادة في المكاتب المهذبة».
الانكسار
وكان أكاكي أكايفيتش يتناول الأوراق من دون اعتراض، بل حتّى بلا أن ينظر إلى الشخص الآمر ويشرع على الفور في نسخها. وإلى جانب هذا الظلم كان يتعرّض على الدوام إلى سخرية الموظّفين الشبّان، ينكّتون عليه ويؤلّفون عنه الحكايات، فضلاً عن بعض الإيذاء، كأن يهيلوا الأوراق فوق رأسه، بينما هو لا يردّ عليهم بكلمة واحدة ويستمر في عمله.
وإذا بلغ المزاح حدّاً مؤلماً يضطر معه للتوقّف عن العمل، وكان يقول: «دعوني في حالي، لماذا تهينونني؟» سؤال الإنسان الضعيف الذي يحتاج إلى مجرّد شفقة من أحدهم تنقذه من كلّ هذا الأذى، ليأتي السؤال: إلى أين يمكن أن يصل الإيذاء من قبل الزملاء الذين يدّعون الفضيلة والتهذيب الراقي بينما هم أشبه بالمتوحشين الصغار؟! وهل يستحقّها أكاكي أكايفيتش الفقير الطيّب المتفاني في عمله؟
المفاجأة
في صقيع بطرسبورج الفظيع، أدرك أكاكي أكايفيتش أن معطفه بات لا يقيه البرد فتوجّه إلى الخيّاط لإصلاحه، والمشهد الذي يرصده غوغول بدقّة مدهشة وأشبه بمشهد سينمائي، تتجلّى فيه الحبكة السردية تجلّياً أخّاذاً في الكشف عن عالم الفقراء البائس وعن مدى تعلّق أكاكي أكايفيتش بمعطفه الرثّ الذي لم يعد بإمكان الخيّاط أن يضع الإبرة فيه، فيقول الخياط:
«ليس هناك ما توضع عليه الرقعة، لا يوجد ما تثبت عليه، إنه مستهلك جداً. الاسم فقط جوخ، ولكن لو هبت عليه الريح فسيتطاير.. يبدو أنك ستضطر إلى تفصيل واحد جديد». فكانت مفاجأة كبرى غامت خلالها عينا اكاكي اكاكيفتش واختلطت الأشياء أمام نظره، فماذا يصنع وليس لديه ما يكفي من المال لشراء معطف جديد؟!
الحبكة
وهنا تبدأ رحلة أكاكي اكاكيفتش في البحث والتنقيب لجمع المبلغ الكبير الذي ربما يصل إلى نحو نصف راتبه السنوي، والحاجة أم الاختراع كما يقولون. فراح يفكّر في كيفية إرضاء الخيّاط أوّلاً لكي يخفض له الثمن، ثمّ تمكّن منه بحيلة ذكية، ومع ذلك لم يكن لديه هذا المبلغ الذي خفض للنصف، ثمّ تذكر أنه كان يوفر من كل روبل ينفقه نصف كوبيك، يضعه في صندوق.
وكان كل نصف عام يغير قطع النقود النحاسية المتجمعة بقطع فضية، وعلى هذا النحو تجمع لديه خلال سنوات عديدة مبلغ يفوق الأربعين روبلا. وبذلك صار معه نصف المبلغ، ولكن من أين يأتي بالنصف الآخر؟
الخطّة
يرسم أكاكي اكاكيفتش لنفسه خطّة تقشفية صارمة بأن يمتنع عن تناول الشاي كل مساء، وألا يشعل الشمعة مساء، فضلاً عن قيود أخرى لا يمكن لإنسان أن يحتملها ولكنه ألفها فيما بعد: «بل إنه تعوّد تماماً على الجوع في المساء. وفي المقابل، كان يتغذى معنوياً، وهو يحمل في خاطره الفكرة الخالدة عن المعطف المقبل».
ومع هذه الفكرة، بدأ يتغيّر وكأن وجوده نفسه أصبح أكثر اكتمالاً، وكأنما تزوّج، وكأنما لم يعد وحيداً، «بل وافقت شريكة حياة لطيفة على أن تمضي معه في درب الحياة، ولم تكن شريكة الحياة تلك سوى المعطف ذي الحشوة القطنية السميكة والبطانة المتينة التي لا تعرف البلى».
ابتكار
تتجلّى عبقرية غوغول الإبداعية في ابتكاره أسلوب السخرية المضحك المبكي، وبرسم المفارقات الناقدة. واعتبره النقّاد رائداً للمدرسة الطبيعية المتجاوزة للمذهب الرومانتيكي والأسلوب البلاغي المستهلك، فضلاً عن أنه أوّل من كتب عن الإنسان المهمّش والمسحوق، ومن هنا جاءت عبارة دوستويفسكي الشهيرة «كلّنا خرجنا من معطف غوغول»، كاعتراف صريح بأثر غوغول في مجايليه.. وفي من جاء بعده من الكتّاب حتّى اليوم.
___
*البيان