*عثمان حسن
ما الذي يعنيه وقوف عاشقين على حافة جبل أو على منحدر صخري أو ربما على ضفة شاطىء يغري بالرومانسية والصفاء وإطلاق العنان للمخيلة أن تبدع شيئاً عاطفياً هما بأمس الحاجة إليه وقد تكالبت عليهما مشقات عالم الصناعة والغازات المتطايرة بفعل مرور السيارات على جسر المدينة الكبير الذي يفصل شمالها عن جنوبها؟ .
يراود المرء مثل هذا الإحساس وهو يتتبع في كل يوم الحال المزري الذي اخترق الوجدان البشري المحشور في زوايا المدن المعاصرة، التي قيل إنها صنيعة الحضارة الإنسانية بكل ما يكتنفها من تخطيط وعمران وأقواس وعلامات وتماثيل وأبراج حديدية كبرج إيفل الشهير الذي سجل في السنوات الثلاثين الماضية بحسب ما تناقلت الأخبار أكثر من حالة انتحار .
ما يجعل الأمر أكثر بؤساً وألماً يصل حد خنق الأنفاس، هو تحول البشر إلى كائنات هلامية فاقدة المعنى والإحساس، تميل إلى تمجيد المال والذوات وتأليه البشر على نحو أسطوري، كأننا أمام أسطورة واقعية تمزج بين السخرية المرة والعبث وتكشف فيما تكشف عن خواء وتبلد، ما يعزز فكرة الكائن الهلامي .
العالم في واقعيته المفرطة، وقل واقعيته المدشنة بالخوف والتبلد والكذب والنفاق وكل أنواع الدهاء البشري، يحيلك على فكرة الشيء وفكرة الجماد وفكرة التحجر، وفكرة الحدث العابر، على شاكلة مقطورة حديدية تجر أكواماً بشرية من النقيض إلى النقيض، وهو زمن ندرت فيه الأسماء المبدعة والمؤثرة على نحو قاتل، على عكس ما كان من حكايات أدبية وثقافية ممتعة مفعمة بالتاريخ وحكايات الشعوب وأساطير اللقاء بين الشرق والغرب .
هل قلنا “مقطورة حديدية”، هي أشبه إذن بالسجن، وليست على شاكلة “قطار” عيسى الناعوري، وروايته المتوسطية المفعمة بالحب والحياة، وليست بكل تأكيد رواية “ليون الإفريقي” لأمين معلوف، وبطلها حسن الوزان الذي كان يلقب نفسه ب”الغرناطي” و “الإفريقي” وكان يعد نفسه “ابن السبيل” وطنه “القافلة” وفي هذا الوطن تلتئم حيوات عربية وتركية وبربرية وقشتالية ولاتينية، هي روايات ثرية تعانق الحياة، وليست مقطورات حديدية جوفاء، فارغة المحتوى والمضمون، تصل إلى حد البلاهة والمقت، كرائحة جلد يختزن كل أشكال النفاية والقرف والكراهية .
فكرة الشيء، والمقطورة الحديدية، والأسطورة الواقعية جداً . بنت المدن الحديثة البلهاء، هو أشبه بكتاب “الجسر” لبيتر بيشوب من ترجمة طارق عليان، الصادرة عن دار كلمة، الذي صنفته الدار ضمن سلسلة تاريخ الأشياء، الكتاب، وهو يسرد تاريخ الجسور العملاقة في العالم، كجسر تسينغ ما في هونغ كونغ وجسر نيويورك، وهو يعد بمثابة تاريخ شامل عن دور الجسور في تطور الثقافة البشرية، يقيم الحجة على أن المغزى الثقافي للجسور اليوم، يدور حول فكرة التوسع الجغرافي، بدلاً من التواصل مع الآخرين، فهو يتحدث إذاً عن عوالم متقطعة مأزومة، بالإضافة لكونه كتابا يتناول الممارسات الثقافية المتعلقة بالجسور على مدار مئتي عام، من المدنية إلى العسكرية، ومن المعمارية إلى الهندسية، ومن الشعرية إلى الفلسفية .
وإذا كان بيتر بيشوب تحدث عن دور الجسر في العزل بين الشعوب والثقافات، فإن كتاباً آخر اسمه “الطائرة” لديفيد باسكوي من ترجمة الدكتور أحمد مغربي، يتحدث بإفصاح عما يشبه الغزو الثقافي والصراع بين الشمال والجنوب، وعن العرب تحديداً بوصفهم حقولاً بشرية، لا تصلح فقط سوى للإغارة والمحو، الغرب والعرب هنا، واضحان وضوح الشمس، الأول صنع الطائرة واستثمرها في أشياء كثيرة، أما الثاني، فلا يحضر إلا بوصفه معادلاً للألم، هو مستعمر بفتح الميم، تستخدم الطائرة بحسب ما يعرض الكتاب في إدهاش العرب وإقناعهم بتفوق الغرب عليهم، فإن لم يقتنعوا، تعرضوا للغارات الجوية المميتة، لتفرض منطق القوة عليهم، مثل هذه النظرة الاستعمارية التي استخدمت في كتاب علمي يقارب التكنولوجيا ثقافياً بمنظور بمختلف نوعاً ما، يجعلك تتذكر حروب الوكالة التي نعيش عوالمها اليوم، يجعلك تحزن وأنت تشاهد أحد الخيارات المحتومة لكونك عربياً، مطالباً بالرضوخ فقط، فإن لم تمتثل، هناك وسيلة أخرى متاحة، وهي أن تتعرض لوابل من الغازات التي تشل الأعصاب، وتمحو أثرك من الوجود .
ما الذي فعله العرب بأنفسهم، حتى يظلوا في خانة الصفر البشري، وما الذي صنعته التكنولوجيا، وحاولت أن تؤطره الفلسفة والشعر والآداب العربية وفشلت فيه؟ هو سؤال برسم الإجابة المعلقة، النائية في سراديب الواقع الأسطوري ذاته، هو بالضبط ما كان يفتش عنه هذان العاشقان على حافة جبل أو على منحدر صخري أو ربما على ضفة شاطىء يغري بالرومانسية والصفاء، ليبدعا شيئاً عاطفياً، هما بأمس الحاجة إليه، في عالم الصناعة والطائرات وحروب الوكالة، والجسور الحديثة التي أصبحت في أحد مقاماتها قابلة للهدم والتفجير، وفصد أجسادهم ومحوهم عن خريطة الوجود؟
____
*الخليج الثقافي
شاهد أيضاً
ليتني بعض ما يتمنى المدى
(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …