*سوزان إبراهيم
لتكتبَ الشعر يلزمك قدرٌ وافرٌ من الجنون! لتكتبهُ لابد لك من نصيب وافر من الموت.. ونصيب وافر من العشق..
لعلّ ديمقريطس كان محقاً إذ قال: “لايمكن أن نكون شعراء دون قدر ما من الجنون”.. ثم جاء أفلاطون ليربط بين الشعر والحب: “متى أصابه الحبّ يتحوّل أيٌّ كان إلى شاعر”.. أما العرب فقد ربطوا بين الشعر والجنون حين ظنّوا أن الجن في وادي عبقر هم من يلهمون الشعراء!
ثلاثية الحب والجنون والشعر قوائم طاولة القصيدة وحيطان هرمها كي تتطاول كأي هرم فرعوني يحفظ في سراديبه جسد الشاعر, وقد يحفظ روحه كذلك.
عن زيارته لمتحف “هونوري دي بلزاك” في باريس كتب الناقد والمترجم التونسي محمد صالح بن عمر أن أصدقاء الروائي العظيم بلزاك كان يحلو لهم أن يسمّوه ب” المحكوم عليه بالأشغال الشاقة الأدبية” إذ كان يقضي أكثر من ست عشرة ساعة في اليوم في الكتابة, ما مكّنه من تأليف نحو مئة رواية في حياته القصيرة نسبياً (51 عاماً).
هذا يعني أن الكاتب ليس مجنوناً هائماً على وجهه, وليس عاشقاً متكئاً على صورة المعشوق!
الكتابة في أساسها موهبة نافرة عن السائد وعن القدرات العادية للناس, لكنها لن تصير سجل خلود لصاحبها ما لم يشقَ في أرض اللغة وفي موطن الخيال.
إن ما يجمع بين الشعر والحب والجنون قد يكون الطفولة.. الطفولة الخالصة.. طفولة ترتبط بمصدر الإلهام البعيد.. وكلما كان الشاعر طفلاً كانت قصيدته أكثر رقة من بتلات ورد وأكثر نفاذاً من ضوء.
تحتاج الكتابة إلى شهداء حقيقيين يخلصون لها.. لاحتراقاتها المقدسة.. يكرسون حياتهم حراساً لمعبدها.
الكتابة لعنة لا تترك صاحبها حتى في الغياب الأبدي, إذ مازالت أرواح الكتّاب العِظام تحوم حولنا ولا راحة لها إلا في ذلك.
هل هذا ما يشتهيه الكاتب؟
هل الكاتب كائن طبيعي في آخر المطاف؟
الأمر الطبيعي روتينٌ.. والكتابة وبخاصة الشعر, تحتاج خروجاً متواصلاً على سكة سير الآخرين واختراع طرق جديدة.. هي حرثٌ متواصلٌ في وعر اللغة, وإخصاب المفردات وتلقيحها وتهجينها للوصول إلى أنواع جديدة من النباتات اللغوية.
جنونٌ. حبٌ.. عمل دؤوب هي ذي ثلاثية أن تكون شاعراً أو كاتباً حقيقياً, فمن سيصمد لسياط هذا الثالوث!
الكتابة ليست (شاليه) على بحر, إنها تسلّق جبل شاهق خطِر الحواف.. تحتاج من ممارسيها الاهتمام بكل تفاصيل السلامة للوصول دون كسور خطيرة! قلةٌ هم من يبلغون قمة الجبل.. وقلةٌ ممن وصلوا بقوا هناك!
هؤلاء المحكمون بالأشغال الشاقة الأدبية أبناء الجنون والحب.. هم التجلي الأوضح لأزهار مملكة الخيال والطفولة.. إنهم ملطف جوّ للواقع المعفّر بالتعب والحزن.
_________
*مجلة الكلمة