هناء نصير.. ‬شاهدة على نهايات الأشياء‮!‬


*هويدا صالح‮ ‬


النص المفتوح حل إشكإلىة التجنيس الأدبي لدى بعض المبدعين الذين لا‮ ‬يجدون حدودا فاصلة بين بعض الأجناس الأدبية،‮ ‬فلم‮ ‬يعد المبدع معنيا أن‮ ‬يكتب على نصه رواية أو قصة أو خواطر أو مقالا سرديا‮. ‬صار‮ ‬يكفيه أن‮ ‬ينفتح نصه على كل الأجناس الأدبية دون أن‮ ‬يحده بمسمي محدد‮. ‬
ربما هذا ما وعته المترجمة هناء نصير حين قدمت لنصها‮ “‬بعد نهايات الأشياء‮.. ‬من أوراق فتاة ولدت متأخرة‮” ‬الذي صدر مؤخرا عن هيئة قصور الثقافة‮. ‬ولأن هذا النص المفتوح هو نوع من السرد السيري الذي‮ ‬يعمق روح التحرر والانعتاق ليس لدى الكاتبة فقط،‮ ‬فقد أهدته إلى كل النساء اللائي تركن بصماتهن على حياتها‮: “‬إلى كل النساء في حياتي‮: ‬أمي ومعلماتي وأخواتي وصديقاتي الأثيرات وبناتي‮. ‬إلى كل امرأة مثلي ترنو إلى التحليق وتحرر الخيال لكن‮ ‬يخذلها جناحاها المثقلان‮”. ‬
تقدم هناء نصير للكتاب بمقدمة تشرح فيها ظروف كتابة هذا النص،‮ ‬ووعيها بأهمية هذه الرؤية للحياة والناس والأشياء،‮ ‬كما تشرح علاقتها بالكتابة،‮ ‬وبمن دعمها فيها‮. ‬ومن الذين ركزت الكاتبة على دورهم الإيجابي في حياتها ككاتبة ومترجمة أولا الصحفي والناقد عمر شهريار شريك رحلتها مع الكتابة والإبداع،‮ ‬وشريك حياتها الزوجية،‮ ‬كما أنها كشفت علاقتها بـ‮ “‬ورشة الزيتون‮” ‬التي‮ ‬يديرها الشاعر والمؤرخ شعبان‮ ‬يوسف،‮ ‬حيث خطت خطواتها الأولى في طريق الكتابة‮: “‬الورشة التي لها مكانة شخصية اعتبارية خاصة جدًا في نفسي منفصلة عن مكانة القائم عليها،‮ ‬صديقي العزيز شعبان‮ ‬يوسف،‮ ‬والعديد من زوارها،‮ ‬شكلت وعيي وذائقتي الجديدين‮. ‬كما سرعت من وتيرة القراءة إذ كان علي أن أقرأ كتابا أو كتابين أسبوعيًا‮.. . ‬وكالعادة فتحت زياراتي للورشة أمامي نافذة على منطقة دافئة جديدة من مناطق القاهرة ارتبطت بها وأخذت في استكشاف شوارعها وبيوتها القديمة اللطيفة‮. ‬وأهدتني الورشة عمر شهريار‮”. ‬
تقسم الكتاب إلى عشرين ورقة،‮ ‬وتناقش في كل ورقة قضية ثقافية أو تناقش علاقتها بقضية‮ ‬يثيرها كتاب ما،‮ ‬وتتخلل تلك الوريقات العشرين مقاطع أو قصائد مكتملة من قصائد الشعراء نجيب سرور و زين الدىن فؤاد وأشرف عامر وخاصة في ديوان”هو تقريبا متأكد‮” ‬ويصير الخطاب الذي‮ ‬يقدمه النص الشعري الذي تتناص معه الكاتبة متموسقا ومتوازيا مع الخطاب الذي‮ ‬يقدمه النص السردي للكاتبة‮. ‬
في‮ “‬ورقة أولى‮” ‬تناقش الكاتبة علاقتها برجل‮ ‬يكبرها بسنوات،‮ ‬وتتساءل عن سر تلك العلاقة التي‮ ‬يمكن أن تربطها برجل‮ ‬يكبرها سنا،‮ ‬وتشرح تلك الحالة عبر مناقشتها لكثير من الأفلام التي اشتغلت على تلك العلاقة الملتبسة بين فتاة وعجوز،‮ ‬وهل هي حب طبيعي أم شعور بالأبوة مغلف ببعض الشغف،‮ ‬فتناقش فيلم‮ “‬العذراء والشعر الأبيض‮” ‬كما تناقش فيلم‮ “‬تعليم ريتا‮” ‬وفيلم‮ “‬بريق عينيك‮” ‬لتتناص مع خطابات تلك النصوص والأفلام لتصل في النهاية بقارئها أن‮ ‬يتفهم تلك العلاقة التي‮ ‬يمكن أن تنشأ بينها وبين رجل‮ ‬يكبرها في العمر‮: “‬لعلني كنت أريد معك علاقة أشبه بعلاقة سميرة عبد العزيز بفيلسوفها الشهير‮. ‬كم أحب هذا البرنامج‮! ‬أو ربما كنت أريد أن أكون ريتا أخرى‮. ‬هل شاهدت فيلم‮ “‬تعليم ريتا”؟ ل‮ . . . ‬،‮ ‬لا أتذكر من كانت البطلة‮. ‬لعلها كانت سوزان سراندون‮. ‬لكن البطل كان بالتأكيد مايكل كاين‮. ‬هو فيلم جيد‮. ‬تذهب البطلة الطالبة إلى البروفيسور كي‮ ‬يرشدها إلى طريق الثقافة الذهبي،‮ ‬لكنها بعد فترة تكتشف أنها لم تكن ترغب في المعرفة لذاتها ولكن لتتباهي بها‮. ‬حين أصل إلى هذه النقطة من الفيلم،‮ ‬أتساءل إذا كنت أنا أيضًا،‮ ‬مثل ريتا،‮ ‬أريد المعرفة لأتباهى بها‮. ‬ثم أفكر أن إدراكي هذا كفيل بأن‮ ‬يجعلني أحاول ألا أسقط مثل ريتا‮”. ‬
‮ ‬تناقش الكاتبة القضايا الثقافية والأدبية والمجتمعية،‮ ‬كما تناقش القضايا الكلية،‮ ‬ففي الورقة الثالثة تناقش علاقة العرب بالغرب،‮ ‬وقضية الهوية وصراع الحضارات‮ : “‬حين ثار هذا الجدل حول كتاب‮ “‬نهاية التاريخ‮”. ‬قامت الدنيا في مصر ولم تقعد‮. ‬الناس هنا ترى أننا لا نعيش في عصر ما بعد نهاية التاريخ والحضارة،‮ ‬فهم‮ ‬ينتظرون الحضارة الآتية التي سنصنعها نحن العرب بأيدينا،‮ ‬أو نستنهضها،‮ ‬لست أدري تحديدًا‮. ‬ينتظرون تاريخًا نكتبه نحن المنتصرون بالنوايا الحسنة‮. ‬لم أقرأ الكتاب ولم أحاول حتى أن أتابع ما أثاره من جلبة،‮ ‬فقد حسمت أمري‮: ‬أنا أعيش فعلًا وولدت بعد نهاية التاريخ؛ بعد نهاية الأشياء‮”. ‬
في‮ “‬ورقة رابعة‮” ‬تسائل الواقع الاجتماعي،‮ ‬وتكشف قبح هذا الواقع بمقارنته بعقود سابقة كانت فيها مصر تحتفي بالجمال والفن والموسيقي،‮ ‬وتقدر الثقافة،‮ ‬ويزدهر فيها نسق معرفي ضد القبح‮. ‬تعلن الكاتبة أنها كانت تتمنى لو‮ ‬أنها ولدت قبل السبعينيات وقبل الانفتاح وقبل صعود البرجوازية وقيمها،‮ ‬تتحدث باستفاضة عن نسق من القيم كان سائدا في فترة الستينيات وما قبلها فتقول‮: “‬كنت أسمع عن قيم أخلاقية واجتماعية كانت موجودة واندثرت،‮ ‬فأتحسر وأتمنى لو أنني أدركت رؤية بعض منها‮. ‬قيم كالتسامح وعزة النفس والترفع عن الصغائر والهبش‮”. ‬
ويتصاعد رفضها للواقع بقبحه في‮ “‬ورقة خامسة‮”‬،‮ ‬برجوعها في الزمان،‮ ‬فبعد فترة الستينيات التي أفاضت في وصف جمالها واحتفائها بالفن والجمال،‮ ‬تعود أكثر في ورقتها التالية لتعلن أنها كانت تتمنى أن تعيش في فترة الأربعينيات،‮ ‬حيث أن الإنسان كان‮ ‬ينال ما‮ ‬يستحق إن امتلك الموهبة والقدرات الذهنية والمعرفية المناسبة،‮ ‬وتذكر نماذج من أبناء المصريين استطاعوا تحقيق منجزهم المعرفي لأن المناخ العام كان‮ ‬يحتفي بالموهوبين ويعطيهم فرصهم اللازمة‮: “‬كنت أحب أن أولد في الثلاثينيات أو الأربعينيات،‮ ‬وأن أدخل الجامعة في الستينيات من القرن الماضي‮. ‬ربما عينت في الجامعة كدكتور رضوى عاشور‮.. ‬كنت أحب أن أدرس في المرحلة التي درس فيها بهاء طاهر،‮ ‬فاستطاع من خلال مدرسته العادية‮ (‬اللي مش لغات‮) ‬أن‮ ‬يتقن الإنجليزية ويعمل كمترجم بالأمم المتحدة وهو متخرج في قسم التاريخ بكلية الآداب‮. ‬ففي عصرنا الحإلى أنا متخرجة في قسم اللغة الإنجليزية في نفس الكلية والجامعة ولم أستطع أن أعمل بالبنك المركزي المصري لأنني لست من خريجات مدارس اللغات‮”. ‬
لغة الكاتبة تميل إلى السخرية والتهكم وخاصة في الأقواس التي تفتحها تعليقا على ما تسرده من أحداث،‮ ‬وترى الكاتبة أن الكتابة ولو كانت ساخرة هي معركتها في الحياة التي تخوضها من أجل التحرر،‮ ‬ليس من عبء الثقافة الذكورية الإقصائية التي تهمش المرأة وتنال منها فقط،‮ ‬بل من القبح وفقدان الأشياء لمعناها،‮ ‬حتي أنها تتمني أن تعيش في أزمان سابقة على تفشي هذا القبح الذي‮ ‬يحيط بنا في الشارع والمدرسة والعمل وكل تفاصيل الحياة صارت ممتلئة قبحا ويغيب عنها الجمال‮: “‬لست دائمًا رومانسية تنتصر للماضي،‮ ‬لكنني أقول بصدق ما أحس أنه الحقيقة‮: ‬الماضي كان أجمل‮. ‬أحيانًا أرغب في رمي السلاح والعيش بسلام بدون قراءة وبدون إحباط جديد كل‮ ‬يوم في محاولة اللحاق بركب التاريخ والأدب،‮ ‬وإحباط أشد في محاولة الاحتفاظ بمشاعري‮ ‬غير معبر عنها من قبل أحد‮ ‬غيري‮. ‬لكن أي سلام قد أعرفه بعيدًا عن القراءة؟‮”. ‬
تنهي الكاتبة أوراقها العشرين بورقة ختامية تشرح فيها أن ما أورته من أفكار وآراء في القضايا والأشخاص إنما كان ابن وعي ما‮ ‬يزيد عن عشر سنوات مرت،‮ ‬فقد كتب هذ الكتاب منذ‮ ‬2002‮ ‬حتيى ‬2008،‮ ‬وقد نشر في‮ ‬2015،‮ ‬وتبرر بعض الآراء التي وردت فيه أنها ابنة وعي المرحلة التي كتب فيها‮: “‬ورقة ختامية‮: ‬ورد في هذه الأوراق أراء في بعض الأشخاص كنت أراهم كبارًا،‮ ‬فأنعت ذلك بالأستاذ،‮ ‬وأبجل وأحترم هذه‮. ‬لكنني كنت في كثير من الأحيان أكتشف في سِيَر هؤلاء من ليس أهلًا تمامًا لكل هذا الاحترام والتبجيل‮. ‬سيقرأ البعض هذه الأوراق،‮ ‬ويقول هذه الفتاة ساذجة‮. ‬ليكن‮. ‬لكني صممت على ترك هذه الأوراق كما كتبتها،‮ ‬ولا أجعل معرفتي الجديدة تفسد براءتها‮. ‬ربما‮ ‬يكون هذا تمسكًا بمرحلة سابقة تتسم بالبراءة كنت أعرف خلالها الكتاب من خلال كتبهم فقط ولم أكن قد دخلت بعد أروقة الثقافة التي‮ ‬يُفضح فيها زيف الكثيرين‮. ‬ربما‮”. 
‬الجدير بالذكر أن هناء نصير كاتبة ومترجمة صدر لها ترجمة رواية‮” ‬بيرة في نادي البلياردو‮” ‬لوجيه‮ ‬غالي،‮ ‬وكتاب‮ “‬بعد نهايات الأشياء‮”. ‬
____
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *