فيلم «هي» للمخرج بول فيرهوفن: الاغتصاب كلغة مبطّنة


*سليم البيك


يفتتح الفيلمَ مشهدُ اغتصاب. يغادر المعتدي وتقوم المُعتدى عليها عن الأرض في بيتها وتكنس ما تكسّر من الفناجين والصّحون. لاحقاً، في عشاء مع أصدقاء تخبرهم بأنّه تمّ الاعتداء عليها، تقولها بحياديّة كأنّها تحكي عن غيرها. غير مبالية بالنّادل الواقف بجوار الطّاولة. رد فعلها هذا على الحادثة سيستمر على طول الفيلم وسينعكس على حياتها مع من حولها وحتى مع مغتصبها حين تتعرف على هويّته.
يجمع «هي» (Elle) بين الكوميديا والجريمة والدراما والتشويق وفيها كلّها السيكولوجيا، في حياة ميشيل (إيزابيل أوبّير) التي تتعرّض للاعتداء أكثر من مرّة ولا تجد حاجة لإخبار الشرطة بذلك، بل تجد في اغتصابها استجابة لرغبة جنسيّة لديها، وهي صاحبة التّجارب الجنسيّة المتنوّعة، من علاقة جنسيّة جرّبتها مرّة مع زميلتها في العمل إلى أخرى مستمرة مع زوج زميلتها ذاتها. وهو كذلك زميلهما، إلى تواصل مع زوجها السّابق، وغيرة من صديقته الجديدة، إلى تحرّشها بجارها الكاثوليكي، المتديّن هو وزوجته، وقد جمعتهم كلّهم في سهرة عيد الميلاد في بيتها.
ليس فيلم المخرج الهولندي بول فيرهوفن كوميدياً، لكن الغرابة في المواقف وردود فعل ميشيل، سلوكاً وكلاماً، تنشأ عنه كوميديا سوداء. التناقض في شخصيتها، قوة هذه الشخصية في معظم المواقف ومع الجميع، كمديرة في عملها ومتحرّرة ومستقلة في حياتها، ومعيلة لأمّها وابنها، وضعفها أمام مغتصبها (لوران لافيت) ثم استجابتها له، فالتناقض في شخصيتها يثير غرابة يمكن إرجاعها لأسباب مختلفة.
لكن ربط الكوميديا السّوداء هذه بالاغتصاب، كأحد أبشع أنواع الاعتداء، وموقف المعتدى عليها من المعتدي، قد يقطع الابتسامات من منتصفها، وإن كان التّناقض في شخصية ميشيل يبرّر استجابَتها لما يحصل معها وحولها.
من المشهد الأوّل لا نراها مكسورة بسبب اغتصابها، ولا حتى حين يتكرّر الاغتصاب، بل تحاول، بنفسها، التعرف على هويّة مغتصبها، وباكراً ستعرف أنّه جارها الذي تحرّشت به، وهنا، كما في العديد من مواقفها في الفيلم، سيبتعد سلوكُها عن المتوقَّع، لتتغلب رغبتُها به على خوفها منه، أو لتجمع الشّعوريْن فيصير الاغتصاب بعدها، باتّفاق الطّرفيْن، مغامرة جنسيّة جديدة لميشيل.
في المرحلة الثانية من الفيلم، بعدما تتعرف على المعتدي، ينتقل سلوكها إلى مرحلة أكثر تعقيداً، إذ تكون متصالحة معه، بل تتصل به بعد حادث كي يأتي ويخرجها من سيّارتها وقد علقت فيها، ويعالج ركبتها. لا بد أن يسبب سلوك ميشيل وكلامها اضطراباً ما للمُشاهد، في أين يضحك وأين يسوؤه الضّحك، والحديث هنا عن امرأة تتعرّض للاغتصاب ثم تتصالح مع مغتصبها. والفضل بذلك يعود أساساً للفرنسيّة إيزابيل أوبّير، إحدى أبرز الوجوه النّسائية في السينما الفرنسية، وهي حاضرة منذ السبعينيات حتى اليوم، ومن الأكثر نشاطاً، فلها عدّة أفلام في السّنة.
الاضطراب، وربّما الشعور بالانزعاج والحيرة، الذي يسبّبه الفيلم يُحسب له، أي أنّه المطلوب للفيلم من مُشاهده، وهو بذلك استحقَّ أن يُنافس على السعفة الذهبية لمهرجان كان قبل أيّام، لإمكانيّة نقل حالات اغتصاب إلى سياق هزلي يعتمد على سيكولوجيا الشخصية المُعتدى عليها أولاً، وتناقض هذا السّلوك مع آخر للشخصية ذاتها ثانياً.
العلاقة التي تنشأ مع مغتصبها، ومعرفتها المسبقة لاحقاً بأنّه سيستخدم العنف معها، وقد كانت تحرّشت به من دون أن يستجيب لها (والاغتصاب سابق للتحرّش، فلا علاقة سببية بينهما)، إضافة إلى حقيقة أنّها مديرة شركة تصميم ألعاب بلايستيشن حيث العنف الدّموي حاضر دائماً فيها، قد يُفهماننا أنّ الرّغبة الجنسية المغايرة لدى ميشيل هي واحدة من مسبّبات هذه العلاقة، أما المسبب الآخر فهي الرّغبة بالعنف، لدى الاثنيْن، أي تمنّعه عن إقامة علاقة جنسية معها بعيداً عن الاغتصاب بما فيه من عنف، وعدم ممانعتها الصّريحة لذلك وانجذابها، رغم ذلك، له.
ميشيل بذلك ليست ضحيّة تماماً، هي أقرب لأن تكون جزءاً من عمليّة الاعتداء كلّما تكرّرت، جزءاً لا بد منه لضمان تكرار الاعتداء ذاته، من دون أن يبدو ذلك لوماً للضحيّة، فميشيل خارج مفهوم الضحيّة هنا، الاعتداءات لم تمنعها من الاستمرار في ممارسة الجنس مع زميلها وهو زوج زميلتها، ولم تمنعها، وهو الأهم، من التخلّي عن الانجذاب إلى الرّجل الذي عرفت لاحقاً أنّه مغتصبها الذي ترك أثراً لعنفه على وجهها وجسدها.
___________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *