جمال فتحي*
كتب باسم شرف في تجربته السردية البديعة التي تستعصي “في نظري” على التصنيف والتي حملت عنوان “يا سلمى أنا الآن.. وحيد” عن الإنسان وتحدث في كتابه التي صدرت طبعته الثانية عن دار “دون” مؤخرا عن البسطاء والمقهورين والمهمشين في ذلك العالم، تحدث عنهم وتحدث إليهم وحل فيهم؛ فنطق بألسنتهم جميعا، ليس هذا فقط، بل استدعي أيضاً تجارب ومعاناة الكثير جداً من مبدعي الإنسانية على مر العصور، ومنهم روائيون وشعراء وممثلون عظام، فراسلهم وتلقي رسائلهم تارة في المنام وتارة على بريده الإلكتروني وتماهي معهم فأعاد استنطاقهم من جديد بعد أن رد إليهم أرواحهم، ليكشف على ألسنتهم المزيد من الأسرار عن حياتهم وموتهم، وقد يتبادر إلى الذهن سؤال منطقي لمن لم يقرأ الكتاب بعد وهو ما الذي يمكن أن يجمع هؤلاء جميعا في سياق أو إطار تجربة كتابة وما جنس تلك التجربة؟! وأجيب: المعاناة والهم الإنساني يجمعهما ويصهرهما في واحد؛ فقد تحدث شرف نيابة عن آلام وآمال وأوجاع كل هؤلاء؛ فوجع الإنسان وألمه يتجاوز العرق واللغة يعبر فوق الدين والجنس وينسي الفرق بين العباقرة المبدعين والبسطاء المهمشين الذي جاءوا ورحلوا دون أن يشعر بهم أحدهم، وهو في كل ذلك لم ينس ذاته وهمه الخاص جداً، غير أنه في كل سطر في الكتاب كتبه ليعبر عن الإنسان عبر به عن باسم شرف نفسه وألمه الخاص هو أيضاً.
وقد اتخذت الكتابة شكل الرسائل بعد أن وجه باسم شرف كل ما كتبه عبر رسائل بعثها إلى “سلمي” التي لم ترد أبدا، بعد أن نادي عليها في عنوان الكتاب الطازج “يا سلمي” مستدعيا لازمة من لوازم تراثنا الشعري الذي قدس النداء على المحبوبة في مطالع القصائد ومن المحبوبات كانت: عبلة، بثينة، سعاد، عزة، هند.
اشتكى شرف إلى سلمى في رسائله واعترف لها وتوجع وبكي، اشتكي من العالم وقسوته ومن مرارة الشعور بالوحدة وخزي الانكسار، لكنها تظل شكوي شامخة مغلفة بروح المقاومة والنبل وكما يقول ص 7 “الوحدة مزاج الأنبياء” وكأنه يحمل نبوءة ما تختبئ خلف هذا الألم العظيم المتهادي كنهر بطول الكتاب، حدثها عن أطفال فلسطين ومعاناة غزة، ومأساة سوريا وضياعها وإنسانها المعذب وورودها الذابلة “كانت هنا سوريا” 117، وحكى لها عن داعش وقسوتها وعن سلفيين في وطنه “قلوبهم داعشية” ص17، كتب أيضاً عن أمل دنقل “الذي عاش بنصف حياة وبنصف نفس، لكنه كان يملك حلما مكتملا، وقصيدة مقدسة” ص 140
وعن عذابات نجيب سرور وافتراشه الأرض في شارع طلعت حرب ونومه على الأسفلت “دون اعتناء بالموت” ص155، وعن لوركا الذي أرسل للكاتب رسالة عبر الإيميل حدثه فيها “عن الجلاد والمجلود” ص151 وشجاعة الأخير في مواجهة جلاده، وعن مواجهة الرصاص والموت بالقصائد، كما حكي لسلمي عن جيفارا الذي ظل يحلم بالقتال والمقاومة “إلي أن يتمكن أطفال العالم كلهم من أن يشربوا كوبا من الحليب كل صباح” ص153 وعن أحمد زكي الممثل الاستثنائي حيث رآه “طفلا يعي الغربة جيدا، لم يمل منها أبدا، تعود الألم كصديق رحلة من الريف للمدينة، فصار حلما لم يكتمل” ص169، واشتكي لسلمي من مرارة الفقد والشعور بالضياع والغربة داخل الوطن، كما دخل المقابر وحاور الموتى وحكي عن عم خيري شلبي “الذي كان يذهب ليعيش بجوار الموتى” ص132 هربا من الموت، وعن شارب إبراهيم أصلان وتجاعيده ص135، كما اقتفي في كتابه أثر المنتحرين وشغلته أسباب انتحارهم الحقيقية ومنهم الشاعرة أروي صالح والممثل الكوميدي العالمي روبين وليامز والروائية العالمية فيرجينيا وولف وعلي حد تعبيره “كم يشغلني هذا الأمر” ص99
حدثها أيضاً عن الخوف الذي يسرق أعمارنا “علمني أبي أن أغلق الباب خوفا من اللصوص” ص 33 وعن الإحباط والمستقبل الغائم في مدينة ضائعة “أعيش في مدينة بلا حاضر، ولا تتمني المستقبل”، وألقي الأسئلة بطول الكتاب كأنها البذور التي سوف تطرح الثمار/ الإجابات مؤكدا “اليقين الوحيد هو السؤال” ص54، حدثها عن “حزن جاليليو.. وإحباط سقراط” ص114 وعن وحده هيمنجواي مؤكدا أن “الوحيدون وحدهم” 40 دائما وأبدا، وختم رسائله لها برسالة إلى أمه حيث الفقد الذي لا مثيل له ومنها: “أريدها الآن أن تربت على كتفي لأني حزين” ص181
وقد نظلم كثيرا تجربة السرد في هذا الكتاب الممتع الموجع المدهش إذا حاولنا تصنيفها أو النظر لها وفق إطار نوع ما أو جنس أدبي أو قالب مهما كانت تسميته رغم اقترابها من شكل أدب الرسائل ذو الجذور البعيدة في تراثنا النثري، فالكتاب بمضمونه ولغته عابر للنوع والتصنيف؛ حيث اختلط فيه السردي بالشعري، والتحمت القصة بتكثيفها بالرواية واتساعها، وتماس الحكي كثيرا مع عالم السيرة الذاتية وما يمكن تسميته بأدب الاعتراف وانصهر كل ذلك في إطار رسائل لامرأة خيالية لا تجيب ولا ترد، وكأنه خليل جبران يكتب لمي زيادة ولكن ليس عن العواطف وإنما عن الألم.
والحقيقة التي سوف يرصدها ترمومتر القارئ بسهولة ومن السطر الأول، هي ارتفاع درجة حرارة التجربة بشكل لافت من السطر الأول، فسطور الكتاب تئن من الوجع وتعاني الانهيار والضياع والإحباط، وتشكو من ضياع الحلم والتوهة في صحراء الواقع المقفر ومن خسارة الأمنيات وهزيمة الأحلام وانكسار الروح فجاءت الكتابة كـ”هذيان محموم” دفعته حرارة الحزن إلى الهلوسة بالكتابة حتى اختلط في سطوره الواقعي بالخيالي والمعقول بالمستحيل والماضي بالحاضر بالمستقبل وتحدث الأموات مع الأحياء، ولأن للكتابة وجوها كثيرة، وأحد أهم وجوهها هو المقاومة من أجل البقاء على قيد الأمل ضد اليأس والإحباط وضد الحزن فقد أبحر باسم على سفينة الكتابة مستغيثا بالمجهول لا يعرف وجهته كما يقول: “ص121” لا أعرف السبب الحقيقي، وراء الكتابة، والسعي وراء خيالاتها المبهمة الغامضة، لكنه سرعان ما أدرك ماذا يريد ولماذا يكتب على حد تعبيره: “عرفت أنني أكتب كي أعيش سعيدا”
غير أن “سلمي” المنادي عليها هنا في العنوان تتجاوز المرأة/ المحبوبة أو الصديقة في الواقع الفعلي إلى سلمي التي تنفتح تأويلات اسمها وحضورها على معان لا حصر لها، لتصير رمزا مفتوح الدلالة، فهي الحلم الهارب، والأمنيات البعيدة أو الثورة المختطفة أو الحرية المعتقلة، لكن يحلو لي أن أري في سلمي الكتابة ذاتها، فهي دائما وأبدا الملاذ الأخير لكل كاتب حين يغرقه طوفان الوحدة والألم، فينادي عليها مستغيثا فتنصفه في صمت، فكأنه حين نادي على سلمي نادي على الكتابة ذاتها، وحين اشتكي إليها اشتكي بالكتابة أيضاً فيكون قد اشتكى إلى الكتابة بالكتابة.
وقد تدرجت كتابة باسم من الشكوى إلى المقاومة قبل أن تتحول إلى ثورة كتابة مندلعة وجارفة، وكأن الثورة التي حوصرت في الميادين وتم الالتفاف عليها، قد فجرها باسم مرة أخرى على الورق بحرية مطلقة حيث يصعب محاصرتها واعتقالها، ورغم أن الحزن يغلف الكتاب وفصوله من السطر الأول إلى السطر الأخير حتى أن الجملة التي ختم بها الكتاب هي “أنا حقاً حزين” ص181، فإن الحزن لا يمنع أبدا وجود الأمل بل ربما يدفع باتجاه ثورة أمل جديدة تتشكل في الأعماق كما قال نزار “إن الثورة تولد من رحم الأحزان”.
* القاهرة.