في مقهى الوجودية.. حرية وحفلات كوكتيل


*ترجمة: نجاح الجبيلي


حين أصبحت «سارا بيكويل» في السادسة عشرة من عمرها، اعتادت أن توظف بعضاً من المال الذي حصلت عليه في عيد ميلادها من أجل شراء نسخة من كتاب «الغثيان» لجان بول سارتر الذي ألفه عام 1938. وقعت في غرام الكتاب الذي كُتبت عبارة تعريفية عليه :”رواية عن اغتراب الشخصية ولغز الوجود” وسرعان ما أدركت بأنها قد تعثرت بفلسفة تدعى الوجودية. 
وقد أعادت تعريف مفاهيم مثل الماهية والوجود والحرية. على الرغم من أنها ما زالت في مستوى الدخول لهذا التفكير إلا أنها ذهبت إلى حديقة في «ريدنغ» بانكلترا وحدقت إلى شجرة طويلاً على أمل أن تفهمها بشكل أعمق.

كانت السنة هي 1979. مع أن جنازة سارتر الضخمة لن تظهر إلا في السنة التالية، إلا أن فلسفته كانت صادمة. لكن السيدة بيكويل نقبت في أعماله وبقية أعمال الوجوديين كونها دارسة جادة بشكل متزايد متفرغة إلى حد محاولة إكمال درجة الدكتوراه عن مارتن هايدجر التي أدت كتاباته عن الفينومينولوجيا إلى ولادة الوجودية لكن بالكاد تركته ميالاً لها بشكل جيد. 
الوجود والعدم

حين كتب سارتر «الوجود والعدم» ، وهو العنوان الذي يردد صدى عنوان كتاب هايدجر الضخم «الوجود والزمن» كتب هايدجر إلى مؤلفه :”إنّ عملك يهيمن عليه الفهم المباشر لفلسفتي وهي التشابهات التي لم أصادفها سابقاً”. وحسب الباحث الأمريكي هوبرت دريفوس فإن ما قاله بشكل خصوصي كان «كيف أستطيع أن أبدأ بقراءة هذا الهراء!». 

على أية حال ، فإن توقيت السيدة بيكويل كان مريعاً. البنيويون وما بعد البنيويين والتفكيكيون وما بعد الحداثيين سيطروا على الأكاديمية في الثمانينات. في ضوء ذلك فإن التشوش والألم المبرح للوجودية كان خارج الطراز. تغفل السيدة بكويل عن الأفكار التي أحبتها مرة وتسمح بأن تمر عقود. والآن بعد أن لم يحققوا «الوجودية للأغبياء» (من تعريف موقع الأمازون للكتاب:» هل تساءلت مرة ماذا تعني عبارة «الرب مات»؟) فإنها قامت باستعادتها. 

إن كتاب «في مقهى الوجودية» هي نظرة مفعمة بالنشاط على الأفكار التي كانت عتيقة مرة والوسط الذي ازدهرت فيه. إن مقاربة السيدة بيكويل جذاب وغريب: إنها ليست مؤلفة كلية العلم تتصرف كناقدة وكاتبة سيرة أو مرشدة سياحية. مثل شخص يرجع إلى هذه المادة بقراءتها لاحقاً في الحياة فإنها تجعل ردود أفعالها كجزء من القصة. 
الأفكار تسبق الحيوات 
حين قرأت هؤلاء الفلاسفة اعتقدت بأنّ عقولهم تهتم بالقول: «لا تهتم للحيوات؛ فالأفكار هي الأهم». لكن هي الآن تمتلك الحكمة إضافة إلى الثقافة. تقول: «بعد ثلاثين سنة وصلت إلى استنتاج معكوس. الأفكار مهمة لكن الناس أهم بشكل واسع». 
حاولت وفي ذهنها ذلك أن تمزج ما بين السير والتواريخ الفكرية لمجموعة منتشرة من الأسماء الفكرية من بينهم: سارتر وسيمون دي بوفوار وألبير كامو وريتشارد رايت وهايدجر وميرلو بونتي وأدموند هسرل وجان جينيه وآخرين. آريس مردوخ موجودة بشكل موجز. كذلك فاكلاف هافل. نورمان ميلر الشخص الذي استعمل المصطلح بشكل أحمق (أو هزلي) حين هرع إلى محافظ نيويورك كمرشح عن البطاقة الوجودية، عرّف المصطلح بكونه «نوعا من العبث بالأشياء عن طريق السماع».

يبدأ كتاب «في المقهى الوجودي» بالقول أنه سوف يوظف تصور مقهى خيالي يستطيع القارئ فيه أن يسترق السمع على العظماء.وهذه طريقة جميلة في القول أنه لا توجد طريقة ممكنة للخصام في هذه المادة. هل بشكل تسلسل زمني؟ كلا :إنّ اللحظة في سنة 1933 حين عثر سارتر وسيمون دي بوفوار على محاضرة هايدجر المعنونة «ما هي الميتافيزيقيا؟» يمكن أن ينظر إليها كونها لحظة مولد الوجودية. لكنها موصوفة بشكل مختلف في سرد الكتاب ويجب وصفها مرات متعددة. بالطريقة نفسها فإن سير معظم الناس هنا تتقاطع مع سيرتي سارتر أو هايدجر وأحياناً كلاهما- وقصة كل رجل تحتاج روايتها الخاصة وهذا ما تفعله السيدة بيكويل بصورة ساحرة. 
السؤال الكبير
تاريخ الأفكار المؤدي إلى الوجودية مليء بالتنغيم الجميل والانحرافات المفاجئة. أي فيلسوف جاد في هذا العِرق فشل دائماً في إعادة تسمية وتعريف المفهوم نفسه للوجود بشكل ضئيل؟ وأي منهم وضع حياته من أجل مبادئه؟ ذلك سؤال كبير بالنسبة للسيدة بيكويل. فهي تسمح لشخصيتي سارتر ودي بوفوار أن ترتقيا فوق الكتاب لا بسبب الكاريزما بل لأنها تعتقد بأن أفكارهما عن تعريف الفرد لنفسه عن طريق القرارات التي يتخذها لها مغزى جديد اليوم. وذلك لا يعني القول بأنّ الهوس بسارتر قد أعماها. “بعضهم حصل لهم. تعليق في مجلة تايم في عام 1945 يقول: الفيلسوف سارتر. النساء مغمى عليهن” تشير هي بأن كتاباته المتأخرة قد أنجزت تحت تأثير الاسبرين والأمفتامين ممزوجين مع الكحول وهذا يفسر كيف أن مقدمته لعمل جينيه أصبحت كتاباً يتألف من 700 صفحة (القديس جينيه). تظهر كيف أنه ودي بوفوار كفيلسوفين شعرا بأنهما مبرران في قضاء آب 1939 في فيلا في جوان لبين وهما يتناقشان بحماس حول ما إذا سيكون من الأفضل فقد الذراعين أم الساقين بينما كان يلوح تهديد الحرب الحقيقي. تسجل كل شيء عنه عدا طريقته البليغة في الصداقة كما فعل في قطع علاقته مع كامو. (هذا الكتاب مليء بتفاصيل صغيرة. البعض ربما يجد وصفاً لكامو كونه «روحاً مرحة بسيطة» مدهشة مثل تقليد سارتر الساحر ظاهرياً لدونالد دوك). 
تحولات هايدجر
المفكر الأكثر ثباتاً في الكتاب هو هايدجر. وهو أيضاً الرجل الذي قصته مطلوبة أكثر. تقضي السيدة بيكويل الكثير من الوقت في منافسة هايدجر مع راعيه وزميله الفينومينولوجي «أدموند هسرل». وهو أخيراً يدعو هسرل مضحكاً؛ وحين كان هسرل يقرأ مخطوطة هايدجر عدة مرات كان يضع في الهوامش علامات مثل ؟ و! و؟!

حين أصبح هايدجر نازياً وضبط كتاباته حسب ذلك دخل في أولى التحولات المتعددة التي لن يبدو فيها أنه شاعر بتعرضه للمحاسبة. على الرغم من أن مفهوم الوجود مع الآخرين هو مركزي في أعماله إلا أن السيدة بيكويل تكتب:” يبدو الأمر وكأن هناك شيئا يتعلق بالحياة اليومية للإنسان إذ أن الفيلسوف العظيم لليومي لم يحصل عليه”. تستطيع أن تكشف بشكل كامل مثالاً موثقاً «لعمل هايدجر شيئاً جيداً فعلياً». بسبب ذلك فإنه الفيلسوف الأشد تأثيراً ورعباً في بانثيون هذا الكتاب. سارتر هو الرجل المناسب الجديد. 

تكتب السيدة بيكويل :”حين نقرأ رأي سارتر عن الحرية ورأي بوفوار عن آليات القمع البارعة ورأي كيركيغارد عن القلق وكامو عن المتمرد وهايدجر عن التكنولوجيا وميرلو بونتي عن العلم الإدراكي فإن المرء أحياناً يشعر بأنه يقرأ آخر الأخبار”.
______
 عن: نيويورك تايمز.
*المدى

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *