علي الشدوي *
على امتداد تاريخ الثقافات البشرية، نُظر إلى الجنون على أنه يمثل أرواحا شريرة تلبست أجساد البشر، وفي أعوام متأخرة -استنادا إلى تاريخ العالم الطويل- نُظر إلى الجنون على أنه حالة مرضية يلزم أن تعالج بالأدوية والعقاقير الطبية، أما الفلسفة (ديكارت) فقد نفت عن الجنون أي معرفة ممكنة، لأن العاقل هو الذي يفكر.
غير أن الفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) استطاع وهو يدرس خطاب الجنون أن يقلب هذه التصورات، فقد نزع عنه هالات الأسطرة والأدلجة، ورفض أن يعتبر العقل أفضل من الجنون، أو أن العاقل أفضل من المجنون بشكل مسبق، وكان السؤال الذي سيطر على (فوكو) في كتابه المهم (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي) هو: هل هناك حدود فاصلة ونهائية بين الجنون والعقل؟ أم أن الجنون من جنس العقل، والعقل من جنس الجنون؟
في هذا الكتاب، وحين حلل موضوع الجنون حلله -أولا- بوصف الجنون تجربة داخل الثقافة الغربية تكونت من خلاله سلسلة من المعارف المختلفة، أي أنه حلل الجنون من حيث هو أرضية للمعرفة الطبية، ولطب الأمراض العقلية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وحلله -ثانيا- من حيث هو شكل من أشكال المعرفة تكون حولها نظام من المعايير تسمح بتصنيف الجنون بوصفه انحرافا داخل المجتمع، وأخيرا حلل الجنون باعتباره نوعا من نمط وجود الذات السوية في مقابل الذات المجنونة.
ما يطرحه فوكو في كتابه هو أن المجانين في المجتمعات الغربية الصناعية الحديثة مبعدون عن المجتمع بواسطة نظام من الإبعاد مطبوع بطابع التهميش. واستنادا إلى تقسيم مجال الإنسان (العمل- العائلة- اللغة- اللعب) فإن المجنون هو الشخص الذي لا يستطيع أن يعمل، وهو الذي تُرفع عنه جميع المسؤوليات، وكل الحقوق بوصفه عضوا في عائلة. للمجنون علاقة خاصة مع اللغة والكلام، حيث يروي المجنون بطريقة رمزية الحقيقة التي لا يستطيع الناس العاديون قولها. هناك وضعية يحتلها المجنون في الألعاب؛ فالمجنون يضحك الجمهور.
فيما هو يحلل خطاب الجنون اكتشف أن للجنون تاريخا، وأن مؤسسة الطب النفسي متواطئة بشكل أو بآخر مع مؤسسات القمع الأخرى في المجتمع، والمسألة منذ البداية ليست طبية، بقدر ماهي فكرية ثقافية وحتى اقتصادية، فالجنون ظاهرة نسبية اجتماعية متغيرة، وليس ظاهرة طبيعية أزلية، بل ظاهرة تاريخية ثقافية، تخص الظروف والمشكلات الاجتماعية.
بحسب هشام صالح الذي قدم عن فوكو ملفا ممتعا في مجلة الكرمل (1984) أراد فوكو بدراسة خطاب الجنون أن يعطي لهؤلاء المجانين المهمشين الحق في الكلام وفي الوجود، وأن يخرجهم من عزلتهم التي سجنوا فيها، لقد كانوا مضطهدين وقد كرس أغلب كتبه لهؤلاء ولغيرهم من المضطهدين والمقهورين لكي يعطيهم الحق في الكلام.
يقول فوكو عن الاضطهاد في مقاطع بديعة لا تنسى، «الاضطهاد يشبه الحب إلى حد ما، إنه كالحب لا يحتاج لأن يكون متبادلا حتى يكون حقيقيا، الاضطهاد لا يحتاج إلى مضطهدين لكي يكون اضطهادا، إذ يكفي أن تشعر بالاضطهاد لكي تكون مضطهدا. تجربة الاضطهاد لا تحتاج في حقيقة الأمر الآخرين، صحيح أن للآخر وجها مكشرا عابسا، وأن الآخرين قريبون جدا من المضطهد لا تكاد تفصلهم عنه أي مسافة، ومع ذلك فالشيء الأساسي في عملية الاضطهاد ليس هذا. أن تكون مضطهدا، فهذا يعني أن تكون لك علاقة خاصة باللغة، يعني ألا تستطيع استخدام ضمير الشخص الأول، أن تكون مضطهدا يعني ألا تستطيع أن تقول (أنا) إلا وتحس بأن هذه (الأنا) مشقوقة في منتصفها، ومكسورة في صميمها من قبل الآخرين، كل الآخرين. أن تكون مضطهدا فهذا يعني أن تتكلم في عالم صامت رهيب الصمت، حيث لا يجيب عن كلامك أحد، حيث لا يرد عليك أحد قط، لكن ما إن تصمت عن الكلام، وتمد أذنا صاغية حتى تسمع كلامك الخاص بالذات وقد ارتد على نفسه، وصادره عليك الآخرون، وحوروه حتى أصبح لك عدوا قاتلا».
____
*جريدة عُكاظ