قاسم عبد الامير عجام
مضى، أكثر من سنتين على جريمة العدوان على قطرنا، وتوشك ثلاث سنوات ان تمر على فرض الحصار المجرم على شعبنا وحياته، دون ان نرى عملا دراميا عن واقعنا في مواجهة آثار العدوان والحصار وهو أمر يدعو للتساؤل حقا، ويدعونا للاهتمام بهذا الموضوع باتجاه اغناء حياتنا بصور صبرنا، ولنوثق لمستقبلنا ما كان يراد لنا وما حاق بأمنياتنا على أيدي المعتدين.
ومن هنا نرحب بمسلسل “أعالي الفردوس” الذي انتهى التلفزيون من عرضه في الاسبوع الأخير من كانون الثاني 1993، كأول عمل درامي يتصل بواقعنا ذاك مع انه اكتفى بملامسته دون التعميق فيه، فقد استطاع مؤلفه، صباح عطوان، ان يلتقط الاشارات الاكثر ارتباطا بأثار الحصار والعدوان ليقيم عليها علاقات درامية تتناول كيفية سريان تلك الاثار في جسد العلاقات الاجتماعية، وهل أقرب من استفحال السوق السوداء صلة بالحصار؟ وهل اكثر من فقدان الأزواج وضياع الصبية في متاهات الانحراف إدانة لتلك الاثار؟ ! ومن هنا عجبنا من عدم توغل المؤلف وهو خبير في نسيج العلاقات الدرامية، في ابعاد تلك الاشارات ومتابعة تفرعاتها، اذ تمهل واجاد في تعميق بعض الشخصيات وعلاقاتها ورسم ملامحها بدقة كما في شخصية لميعة (هناء محمد)، ومعاناتها من فقد زوجها في احدى الواجبات (لم يتوقف المؤلف عند طبيعة تلك الواجبات وأهميتها التي تعين ذوييه على احتمال فراقه)، مرورا بظهور شقيقتها انصاف (شذى سالم) في حياتها مجددا، وصولا الى انحراف ابنها ليث (يوسف نبيل يوسف ) الى السرقة بتأثير شلة من المنحرفين الأحداث الذين جمعتهم به حاجة عائلته لدفعه للعمل بالأجرة صبيا لحداد. بينما توقف عند جانب من جوانب شخصيات اخرى محورية واغفل، أو كاد، جوانبها الأخرى فافتقدت تصرفاتها الوضوح أو القدرة على الاقناع كما في شخصية شاكر بائع السلع القديمة الجوال (جواد الشكرجي)، بالرغم من قدرتها على تأثير في الاحداث واضاءة معان وعلاقات عديدة. ويكفي هنا ان نشير الى التسرع في ابراز اندفاع مديحة نحوه وتعلقها به واصرارها الجريء على اعلان رغبتها في الزواج منه، رغم معارضة شقيقتها نورية (افراح عباس) وهي ولية امرها وعدم ارتياح فواز ولي نعمتها له ! بل وميل انصاف اليه الى حد العقاب والتأنيب المبطن لما تراه منه ميلا نحو مديحة وكأن بينهما سابق معرفة؟ وكل ذلك دون اية مسوغات واقعية او فنية تسمح بذلك لما كان عليه شاكر من هيأة وبؤس يشير الى فقدان المستقبل.
نعم ، من الممكن ان تنطوي شخصية مثله على الكثير من سخاء العواطف ونبل المواقف، مما يغرى بالارتباط بها غير ان شيئا من ذلك لم يتضح قبل اندفاع مديحة او ميل انصاف اليه ؟ فلم يكن شاكر الا معاقا مهدما لم يمتد عالمه لأبعد من غرفته مع امه قبل وبعد وفاتها، وحنفية الدار المشتركة، وخطواته في الجري وراء عربة الخردة وخيبته الزوجية.
ان اندفاع مديحة نحوه وتأنيب انصاف له استباق للأحداث، او اقامة بناء دون اساس، فقد كانت علاقات دون معابر تمر فوقها ولذا بدت شخصية شاكر طافية على توجيهات المؤلف وادارته للأحداث، مع انه انطق هذه الشخصية بما يشير الى معاناة الناس من العوز واستغلال التجار الجشعين وحصار جورج بوش؟ وفي حوار اخر لم تتضح مبرراته جيدا انطقها بما يشير الى ماض قتالي صمد فيه ستة اشخاص بوجه ثلاثين دولة، بل وبدا لأول وهلة انه سيتحدى فواز (بهجت الجبوري) وتجارة السوق السوداء لما يعانيه والناس من تدمير تلك السوق لحياتهم المعاشية . لكنه لم يلبث ان استسلم، ودون انعطاف واضح ايضا، لوعود مديحة المغرية وقبل العمل مروجا لتجارة فواز رغم علمه ورفضه السابق لاستغلاله محنة الناس في شحة المواد الغذائية بتأثير الحصار؟ وما اكثر ما انهارت مقاومة الكثيرين للمغريات بعد جهد مدمر من الصبر والمعاناة ؟
غير ان نجاح المؤلف الحقيقي تجسد في بناء شخصية لميعة (هناء محمد) واختها انصاف (شذى سالم ) وكان لتمثيلهما دور بارز في اعلاء ذلك البناء وتجسيد معاناة شريحة واسعة تمثلها هاتان المرأتين . بل ان هناء محمد اثارت خلق شخصية لميعة بما يدين كل من ساهم في مأساتها، حتى لتتقلب كسمكة دائخة بين العقل والجنون او كأنها لكثرة فجائعها لم تعد تهتز بكل ما يحدث فتعلق على الموت جارتها ام شاكر ببساطة شديدة: انها ماتت من زمان … وان الناس تموت وسيموتون كل يوم وذلك خير لهم؟ لقد أدت هناء محمد رد فعلها لموت ام شاكر بإتقان بليغ حقا يستحضر مرارة محنتها. وهي محنة لا تختلف جوهريا عن لوعة شقيقتها انصاف بفقد عملها لأنها فائضة عن حاجة دائرتها فألقت بها الى صعوبات العيش في ظل الحصار؟
لقد كان دورانهما في الازقة الضيقة وبيوتها المكتظة بسكانها الفقراء، دورانا بين عسر ايامها وحصارهما وبين تناثر شبابها بددا وشيخوخة الدور التي تأويهما ؟ وفوق ذلك يطاردهما تاجر الاغذية لتخلية الغرفة التي تأويهما في البيت العتيق ليكتمل بحرمانهما من المأوى حرمانهما من كرامة العيش علاقات وموارد.
وحتى سائق التاجر الخاص عزيز (فارس عجام) الذي يبلهما اوامر فواز بالرحيل، محاصر هو الاخر بين حاجته للعمل لدى فواز وبين قرفه من رغبات رب عمله وعلاقاته وضغوط زوجه الاخير وشكوكها وتلك محنة قطاع واسع من الناس ترغمهم ظروفهم على ممارسة ما لا يرغبون فيه بل وربما على ما يرفضونه. وهكذا يكون انحراف الفتية نحو السرقة والمقامرة وجه اخر لتلك الضغوط .
غير ان ربط هذا الانحراف بالمجرى العام لأحداث المسلسل بدا وكأنه لا يحقق هدفا تربويا من التوقف عنده اذ لم تتصل العصابة بالأحداث الا من خلال علاقة ليث بها وتمكنيه لها من سرقة بضائع فواز المخزونة. فبدت سرقتهم لتلك البضاعة الحرام وكأنها انتقام لمعاناة الناس من جشع التجار، او انتقام ليث من فواز لترحيلهم اكثر منها مؤشرا على انحراف اجتماعي خطير.
لقد كان امام المؤلف ساحه مفتوحة على آثار الحصار اجتماعيا، لكنه لسبب غير واضح كان في عجلة من أمره فلم يحكم الصلات بين ما التقطه من اشارات وبينها وتلك الآثار .
غير ان المخرج نبيل يوسف كان له دور ملموس في استحضار وتكوين ابعاد اشارات المسلسل وحتى تعميقها من خلال اكثر من اجراء فني ابتداء باختيار مواقع الاحداث. فان الازقة والبيوت التي تشترك في سكنها عوائل عديدة (كما في حي الفردوس) مهاد مناسب للكشف عن كثير من صور المعاناة الاجتماعية، ويتكامل ذلك مع اختيار اللقطات المناسبة للشخصيات ولمكونات المشهد الواحد. فقد كانت الاحداث تروي عبر لقطات متوسطة امامية ولقطات من اعلى واخرى قريبة امامية و/ أو جانبية على صلة وثيقة بالحال التي تكون فيها الشخصية او بجوارها. ولعل اختيار الحنفية كنقطة منفعة مشتركة يلتقي عندها سكان البيت مثل للاختيار في ثنايا المكان.
وأسهم تصميم الإضاءة وتنفيذها في اكثر المشاهد لاسيما مشاهد السلالم وغرفة لميعة وساحة الدار ورواقه والأزقة، اسهم في تكوين جو الأحداث وفعل المكان في ذلك. وكان لاختيار وتوزيع فريق التمثيل في المشهد الواحد أثره في اطلاق ادائهم الرائع الذي زاد من روعته انهم كانوا يتبادلون حوارا مناسبا للموقف. كما اسند تألقهم اتقان في اختيار ازيائهم فكانوا جميعا انسجاما بين شكل ومضمون لا سيما ازياء لميعة، انصاف، شاكر، وصبر (قاسم صبحي)، وازياء نورية ومديحة.
وهكذا سعدنا بتألق عودة شذى سالم، سعادتنا بتألق جديد لبهجت الجبوري وتلقائية فارس عجام، هذا الممثل الجميل الذي لم يجد فرصته الكاملة لحد الان .. مثلما كان قاسم صبحي (صبر) يقدم شخصية عراقية من قاع المجتمع الذي لم يعرفه ربما فتيان هذه الايام. واستطاعت افراح عباس وهدى هادي (مديحة) ان تجسدا صورة من صور التعلق بالمصلحة ولهفة الانا في محيط يرفضهما.
وعلى الرغم من احتشاد لقطة الختام بالمعاني والاحالات، حيث سيارة المسروقات وعصابة الفتيان تتلاشى في المجهول مع استمرار مطاردة الشرطة، الا ان نهاية الرباعية ليست موفقه بل بدت وكأنها لملة عجلى لأحداث ممتدة تمثل قاعدة لعمل كبير، ننتظره من المؤلف الذي نجح هذه المرة أن يشحن عنوان عمله “أعالي الفردوس”، بسخرية تقوم على المفارقة بين لفظ الفردوس وجحيم القاع الذي سميّ به !
_________
*في أوراق قاسم عبد الأمير عجام إشارة الى ان المقالة كتبت في شباط 93 وسلمت لجريدة “الثورة” في 1/3/1993
**المصدر: موقع قاسم عبد الأمير عجام
**المصدر: موقع قاسم عبد الأمير عجام