ترجمة: لطفي السيد منصور*
تطرح رواية “الوظيفة السابعة للغة” لمؤلفها لورون بينيه المولود عام 1972نفسها كرواية بوليسية، تنطلق في 25 فبراير 1980مع الحادث المروري الذي كان ضحيته رولان بارت أمام الكوليج دو فرنس. كان قد وقع هذا الحادث مباشرة بعد تناوله الغداء مع فرانسوا ميتيران وبدا كمحاولة اغتيال، واستمرت أصداء ذلك حتى صيف 1981 بعد الانتصار الأول لميتيران في الانتخابات الرئاسية في مايو 1981.
يقود البحث المتخيل شرطي مفوض اسمه جاك بييار، يعاونه سيمون هيرتزوج طالب الدكتوراة، حيث الأبحاث الثنائية المستبعدة الحدوث تقودهما لمقابلة كل مثقفي عالم الألسنية المصغر، وكذلك العالم الأدبي الباريسي والدولي، حيث يجدان نفسهما في مواقف عجيبة تصل إلى حد السخرية. هكذا نقابل ميشيل فوكو، جان هدرن هاليه، بيرنار هنري ليفي، جوليا كريستيفا، فيليب سولير، لوي ألتوسير، جاك دريدا، هيلين سيزوس، أمبرتو إيكو، جون سيارل، رومان ياكوبسون، … دون الحديث عن الخدمة السرية الرومانية، الروسية (حتي لوري أندروبوف يظهر بشكل مقتضب)، أو اليابانية، عن المافيا، عن رجال السياسة الفرنسيين مثل فاليري جيسكارديستان، فرانسوا ميتيران، جاك لانج، لورون فابيوس، جاك أتالي، انه مجتمع سري.
إن ذريعة التناول البوليسي لهذه الرواية هي البحث عن وثيقة اختفت كانت مكرسة لـلغز “ الوظيفة السابعة للّغة” التي تمنح اليقين المفرط لمن يعرفها. إنها كما يقول لورون بينيه نفسه محاولة للبحث عن العلاقة بين الواقع والخيال.
الوظيفة السابعة لـلّغة
لورون بينيه
ثمة مترجمون في كل مكان. كل منهم يتحدث لغته حتى لو كان يعرف نوعا ما لغة الآخر، فاحتيالات المترجم نطاقها مفتوح للغاية ولا يتناسي فوائدها.
دريدا
الجزء الأول
باريس
1
الحياة ليست رواية. على الأقل هذا ما كنت تود اعتقاده. يعود رولان بارت إلى شارع بييفر. أكبر النقاد الأدبيين في القرن الـ 20، لديه كل الأسباب لأن يكون قلقا على درجة السلم الأخيرة. ماتت أمه، معها كان يقيم علاقات بروستية جداً. ومحاضرته في الكوليج دوفرانس المعنونة بـ” إعداد الرواية”، باءت بالفشل الذي قد يواريه بصعوبة، طوال العام كان سيتحدث إلى طلابه عن قصائد الهايكو اليابانية الفوتوغرافيا، الدال والمدلول، المنوعات الترفيهية لباسكال، النوادل، أردية النوم، المقاعد في قاعة المحاضرات – عن كل شيء عدا الرواية. وسوف يتم تقديم ذلك لمدة ثلاث سنوات. يعرف على مضض أن المحاضرة نفسها ليست سوي مناورة تسويفية لإبعاد لحظة بدء عمل أدبي حقيقي، أي ما ينصف الكاتب المفرط الحساسية الذي ينعس بداخله، والذي في رأي الجميع، بدأ يتبرعم في شذرات خطاب عاشق، الكتاب المقدس بالفعل لمن دون الـ 20 عاما. من سانت بيف إلى بروست، إنها فترة تشكيل ونيل المكانة التي تعيده إلى بانتيون الكتاب. ماتت ماما: منذ درجة الكتابة صفر، اكتملت الدائرة. حانت الساعة.
السياسة، نعم، نعم، سنري. لا يمكننا القول بأنه صار ماويا منذ رحلته إلى الصين. في نفس الوقت، هذا ليس ما ينتظر منه.
شاتوبريان، لاروشفوكو، بريخت، راسين، روب جرييه، ميشليه، ماما. حب صبي. أتساءل عما إذا كان هناك بالفعل فروع ” للفيوكامبير” في أي مكان في الحي.
في خلال ربع الساعة سيموت.
أنا متأكد أن الطعام كان جيدا، شارع بلان- مانتو. أتخيل أننا نأكل جيدا عند أولئك الناس. في أسطوريات يفك رولان بارت شفرة الأساطير المعاصرة المشيدة من قبل البرجوازية من أجل مجدها الخاص، ومع هذا الكتاب صار مشهورا بالفعل؛ في المجمل، وبطريقة ما، صنعت البرجوازية سعده. لكنها كانت البرجوازية الصغيرة. البرجوازية الكبيرة التي وضعت نفسها في خدمة الشعب هي حالة خاصة للغاية وتستحق التحليل؛ سيلزم كتابة مقال. هذا المساء؟ لماذا ليس في الحال؟ لا، ينبغي أولا عليه أن يفرز شرائحه التصويرية.
حث رولان بارت الخطي دون أن يلحظ أي شيء في محيطه الخارجي، على الرغم من أنه مولود “مُلاحِظ”، وهو الذي تستند مهنته إلى الملاحظة والتحليل، وهو الذي أمضي حياته في اقتفاء أثر كل العلامات. لم ير حقاً لا أشجارا ولا أرصفة ولا فتارين ولا سيارات جادة، سان جيرمان التي يعرفها عن ظهر قلب. لم يعد في اليابان. لا يشعر بنهشات البرد. بالكاد يسمع ضجيج الشارع. إنه تقريبا مثل القصة الرمزية للكهف في الاتجاه المعاكس: علم الأفكار الذي أغلق على نفسه فيه حجب إدراكه للعالم المحسوس من حوله، لا يري الآن سوى الظلال.
الأسباب التي ذكرتها للتو لتوضيح الوضع القلق لرولان بارت برهن التاريخ عليها كلها، لكني أرغب في أن أحكي لكم ما حدث بالفعل. ذلك اليوم، لو أن رأسه في مكان آخر، ذلك ليس بسبب وفاة أمه فحسب ولا بسبب عجزه عن كتابة رواية، ولا حتى بسبب السخط المتنامي – كما يحكم- لعدم إمكانية شفائه من الأولاد. لا أقول إنه لم يفكر في ذلك، ليس لدي أي شك حول طبيعة وساوسه القهرية. لكن اليوم، ثمة أمر آخر في النظرة الشاردة للرجل الغارق في أفكاره، كان سيتعرف المار المنتبه على هذه الحال التي كان بارت يؤمن بها ولم يعد يشعر بها أبدا: الإثارة، ليس مجرد أمه ولا الأولاد ولا روايته الشبح. إنها شهوة المعرفة libido sciendi، التعطش للمعرفة المتجددة النشاط، وجهة النظر المختالة لتثوير المعرفة الإنسانية، وربما تغيير العالم. كل هذا أَشعرَ بارت أنه يشبه أينشتاين أثناء تفكيره في نظريته وهو يعبر شارع المدارس. الأكيد، أنه لم يكن منتبها. لم يكن هناك سوي بضعة أمتار حتى يصل إلى مكتبه عندما صدمته الحافلة. يُحدث جسمه الصوت الكامد، المميز، الرهيب، الجسد الذي يصطدم بالصاج، ويتدحرج على الرصيف كدمية من خرقة بالية. يرتجف المارة. في فترة ما بعد ظهيرة 25 فبرير 1980، لم يتمكنوا من معرفة ما حدث للتو أمام أعينهم، ولسبب ما- بما أنه حتى اليوم- لا يزال العالم يجهل ذلك.
2.
علم السيميولوجيا خدعة غريبة للغاية. إنه فيرديناند دو سوسير مؤسس الألسنية، أول من أتاه الحدس به. في كتابه “ دروس في علم الألسنية العام”، يقترح ابتداع علم يدرس حياة العلامات في داخل الحياة الاجتماعية. لا شيء غير هذا. يضيف، بوصفه مسارا لهؤلاء الذين يريدون الانكباب على المهمة، سوف يشكل جزءا من علم النفس الاجتماعي، وبالتالي من علم النفس العام؛ سنسميه سيميولوجي (من الكلمة اليونانية sèmeion، علامة “ signe”).سيطلعنا على أي شيء تستند العلامات والقوانين التي تحكمها. بما أنه لم يوجد بعد، لا يمكننا أن نخبر بما سيكونه؛ لكن له الحق في الوجود، مكانته محددة مسبقا. علم الألسنية ليس سوي جزء من هذا العلم العام، القوانين التي ستكتشفها السيميولوجيا ستكون وثيقة الصلة بالألسنية، وهذه ستجد نفسها مرتبطة بمجال محدد تماماً في مجمل الحقائق الإنسانية. أود أن يعيد علينا فابريس لوتشيني قراءة هذه الفقرة، ضاغطا على الكلمات بما أنه يجيد القيام بذلك على أفضل ما يكون حتى يستطيع أن يدرك العالم كاملا، بخلاف المعني، على الأقل الجمال الكلي. هذا الحدس العبقري، شبه الملتبس بالنسبة لمعاصريه (عقدت المحاضرة في عام 1906) لم يفقد أي شيء- فيما بعد بقرن- لا من قوته ولا من غموضه. حاول العديد من علماء السيميولوجيا منذ ذلك توفير تعريفات أكثر وضوحاً وأكثر تفصيلاً في آن، لكنهم ناقضوا بعضهم البعض (أحيانا دون أن يدركوا ذلك بأنفسهم) مشوشين تماماً ولم ينجحوا في نهاية المطاف سوي في إطالة (وأيضا بشق الأنفس) قائمة أنساق العلامات الحائدة عن اللغة: علامات الطريق، الشفرة البحرية الدولية، أرقام الأتوبيسات، أرقام غرف الفندق، وأضافوا الرتب العسكرية وألف باء الصم والبكم…وهذا تقريبا كل شيء.
هزيل بعض الشيء فيما يتعلق بالطموح المبدئي.
بالنظر هكذا، نجد علم السيميولوجيا البعيد عن أن يكون امتداداً للألسنية، يبدو أنه أختزل في دراسة اللغات البدائية (protolangages) الفجة، الأقل تعقيدا وبالتالي الأكثر محدودية عن أي لغة كانت.
لكن في الحقيقة لا.
ليس من قبيل المصادفة لو أن إيكو، حكيم بولونيا، أحد آخر السيميولوجيين الباقين على قيد الحياة، يشير أيضاً في كثير من الأحيان إلى الابتكارات العظيمة الفاصلة في تاريخ الإنسانية: العجلة، الملعقة، الكتاب…أدوات مثالية، طبقا له، ذات كفاءة لا يمكن تجاوزها. كل الدلائل تشير، في الحقيقة، إلى أن السيميولوجيا في الواقع هي أحد الابتكارات الرئيسية في تاريخ الإنسانية وواحدة من أقوي الأدوات على الإطلاق المصنوعة من قبل الإنسان، بل هي كوقود الذرة: في البداية، لم نعرف أبدا فيما يستخدم هذا، ولا كيف نستخدمه.
3
في الحقيقة، إنه لم يمت بعد ربع الساعة. جثم رولان بارت داخل أخدود، هامدا، لكن صافرة أجش تنفلت من جسده وفيما يغوص ذهنه في اللاوعي، على الأرجح عبر الهايكو الدوامية، البحر السكندري الراسيني والحكم البسكالية، يسمع- انه ربما الشيء الأخير الذي سيسمعه، يحدث نفسه (يحدث نفسه بالتأكيد)- صرخات رجل مجنون: “ ألقى نفسه تحت إطاررراتي! ألقى نفسه تحت إطاررراتي! من أين تأتي نبرة الصوت هذه؟ من حوله، المارة، الخارجون من ذهولهم العميق، تجمعوا ومالوا على جثته المستقبلية، يناقشون، يحللون، يخمنون:
يجب استدعاء الإسعاف!
• لا داعي للعناء، نال نصيبه.
• ألقى نفسه تحت إطاررراتي، أنتم شاهدون!
• تبدو جروحه بالغة.
• المسكين…
• لابد من العثور على كابينة تليفون. من معه عملة معدنية؟”
• لم يكن لدي حتى وقت لأفرررمل!
• لا تلمسوه، يجب انتظار الإسعاف.
• ابتعدوا! أنا طبيب.
• لا تقلبوه!
• أنا طبيب. لا يزال حيا.
• يجب إبلاغ أسرته.
• المسكين…
• أعرفه!
• منتحر؟
• يجب التعرف على فصيلة دمه.
• إنه زبون. كل صباح، يأتي عندي ليحتسي كأس نبيذ.
• لن يأتي بعد…
• إنه ثمل…
• تفوح منه رائحة الكحول.
• كأس من النبيذ الأبيض على كونتر البار، كل صباح منذ سنوات.
• هذا يخبرنا بفصيلة دمه…
• عبررر دون أن ينظررر!
• لابد أن يظل السائق مسيطرا علي حافلته في كل الظروف، إنه القانون، هنا.
• سيكون كل شيء على ما يرام، أيها العجوز، لو كان لديك تأمين جيد.
• لكن هذا سيتسبب له في عقوبة كبيرة.
• لا تلمسوه!
• أنا طبيب!
• أنا أيضاً.
• إذن، فلتهتما به. سوف أسعى إلى الإسعاف.
• يجب أن أورررد تجارررتي…
غالبية اللغات في العالم تستخدم الـ r بوصفه حرفا فمي لثوي apico-alvéolaire، الذي نطلق عليه حرف الـ R تكراري، على العكس من الفرنسية التي تبنت الـ R الخلفي الحلقي منذ حوالي ثلاثمائة عام. لا الألمان ولا الإنجليز يكررون الـ R. ليس من الإيطالية ولا من الإسبانية. من البرتغالية ربما؟ إنه في الحقيقة تقريبا حلقومي، لكن صياغة الرجل ليست تقريبا أنفية ولا إلى حد ما رخيمة في واقع الأمر، إنها أيضاً نوعا ما رتيبة. لدرجة أننا نميز بصعوبة الإمالات من الذعر.
على ما يبدو من الروسية.
4
كيف أن علم السيميولوجيا، المولود من الألسنية، كاد ألا يكون سوي قزم مكرس لدراسة اللغات الأكثر فقراً والأكثر محدودية، استطاع أن يتحول على حافة القنبلة النيوترونية؟
عبر إجراء لم يكن غريبا عنه بارت.
في البداية كرس علم السيميولوجيا نفسه لدراسة أنساق التواصل غير اللغوية. لقد قال شخصيا سوسير لتلاميذه:” إن اللغة نسق من العلامات المعبرة عن أفكار، وبذلك، تضاهي الكتابة، أبجدية الصم والبكم، الطقوس الرمزية، صيغ التأدب، الإشارات العسكرية.. إلخ.هي فقط الأهم في هذه الأنساق”. حقاً، وحتي الآن، لكن فقط بشرط تحديد تعريف أنساق العلامات لهؤلاء الذين لديهم جنوح للتواصل بوضوح وبترو. يعرف بويسون علم السيميولوجيا بوصفه دراسة طرق التواصل، أي الوسائل المستخدمة للتأثير على الآخرين والمعترف بها على هذا النحو من قبل من نريد التأثير عليه.
الضربة العبقرية لبارت في أنه لم يقنع بأنساق التواصل بل بتوسيع حقلها في دراسة أنساق المدلول. عندما نتذوق اللغة، سرعان ما نمل من أي نسق لغوي آخر: إن دراسة إشارات المرور أو الرموز العسكرية أمر مثير بالنسبة لعالم اللغة كلعبة التارواو الرومي بالنسبة للاعب الشطرنج أو البوكر. كما يقول أمبرتو إيكو: لكي نتواصل، واللغة مثالية، لا نستطيع عمل الأفضل. وحتي الآن، اللغة لا تقول كل شيء. الجسد يتحدث، الأشياء تتحدث، التاريخ يتحدث، المصائر الفردية أو الجماعية تتحدث، الحياة والموت يتحدثان إلينا بكثير من الطرق المختلفة. الإنسان آلة للتفسير، وإذا كان لديه بعض الخيال، يري علامات في كل مكان: في لون معطف زوجته، في الخدوش الموجودة على باب سيارته، في العادات الغذائية لجيرانه المواجهين له، في الأرقام الشهرية عن البطالة في فرنسا، في نكهة الموز في نبيذ البوجوليه الجديد (إما في الغالب موز، وإما في النادر جداً، توت العليق الأحمر. لماذا؟ لا أحد يعرف ذلك لكن بالضرورة هناك تفسير وهو سيميولوجي) في المشية الفخورة والمتقوسة للمرأة الزنجية التي تذرع ممرات المترو من أمامه، في العادة التي يعتادها زميله بالمكتب بألا يزرر آخر زرارين من القميص، في طقس لاعب كرة القدم هذا كي يحتفل بهدفه، في طريقة صياح شريكته للإعلان عن الأورجازم، في تصميم هذا الأثاث الإسكندنافي، في لوجو الراعي الرئيسي لدورة التنس هذه، في موسيقي مقدمة هذا الفيلم، في فن العمارة، في فن الرسم، في فن الطهو، في الموضة، في الدعاية، في الديكورات الداخلية، في التمثيل الغربي للمرأة وللرجل، للحب والموت، للسماء وللأرض.. الخ. مع بارت لم تعد العلامات بحاجة لأن تكون إشارات: لقد أصبحت مؤشرات. وتغييرا حاسما. إنها في كل مكان. من الآن فصاعدا، علم السيميولوجيا مستعد لغزو العالم الرحب.
5
يحضر المفوض بييار إلى قسم الطوارئ لمشفى بيتييه سالبيتريير حيث أشير له على رقم غرفة رولان بارت. مكونات الملف التي يرصدها هي كالتالي: رجل، أربعة وستون عاما، أطاحت به حافلة للغسيل والكي، شارع المدارس، بعد ظهر الاثنين، أثناء عبوره ممر المشاة. قائد الحافلة شخص يُدعي إيفان ديلاهوف، بلغاري الجنسية، كان متعاطيا الكحول على نحو خفيف، دون مخالفة:0,6g، والمسموح به حتى 0,8.اعترف أنه كان متأخرا على تسليم قمصانه. إلا أنه صرح بأن سرعته لم تتجاوز الـ60 كم. س. الرجل المصاب بالحادث لم يكن واعيا ولم يكن لديه أي ورق اثبات شخصية، عندما وصلت الإسعاف، لكن تم التعرف عليه من قبل أحد زملائه، شخص يُدعي ميشيل فوكو، أستاذ في الكوليج دو فرانس وكاتب. صرح بأنه رولان بارت، وهو أيضاً أستاذ في الكوليج دو فرانس وكاتب.
حتي هنا، لاشيء في الملف يبرر إرسال محقق، وبالتأكيد ليس مفوضا من الاستخبارات العامة. في الواقع لم يُفسر وجود جاك بييار سوي من خلال تفصيلة: عندما كان قد أطيح برولان بارت، 25 فبراير 1980، كان خارجا من غداء مع فرانسوا ميتيران، شارع البلان مانتو.
ليس ثمة علاقة مسبقة بين الغداء والحادثة، ولا بين المرشح الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية التي ينبغي أن تعقد العام المقبل والسائق البلغاري الموظف في شركة الغسيل والكي، لكن من طبيعة الاستخبارات العامة نفسها الاستعلام حول أي شيء، خاصة في هذه الأوقات فترة ما قبل الحملة الانتخابية، حول فرانسوا ميتيران. ميشيل روكار، مع أنه، أكثر شعبية من خلال (استطلاعات الرأي لـ sofres، يناير، 1980:”من المرشح الاشتراكي الأفضل؟”ميتيران 20%، روكار 55%)، لكن على الأرجح يُقدر انه في الدوائر العليا لن يجرؤ على عبور الروبيكون: الاشتراكيون مناصرون للسلطة الشرعية ولقد أعيد انتخاب ميتيران على رأس الحزب. فقبل ست سنوات، بالفعل كان قد بلغ 49,19% مقابل 50,81% لجيسكار، إنه أصغر فارق سُجل في انتخابات رئاسية منذ إقامة الاقتراع العام المباشر. فلا يمكن استبعاد الخطر حيث إنه للمرة ال أولى في تاريخ الجمهورية الخامسة، يتم انتخاب رئيس يساري، لذلك أوفدت الاستخبارات العامة محققا.إن مهمة جاك بييار، بداهة، هي للاستوثاق مما إذا كان بارت قد أفرط في الشراب عند ميتيران، أو لو، بالمصادفة، لن يكون مشاركا في عربدة سادية مازوخية مع كلاب. لقد اثرت بعض الفضائح على القائد الاشتراكي هذه السنوات الأخيرة، يبدو أنه حُبس في مربع. المنسي، الاختطاف المزعوم في حدائق المرصد. المحرمات، وسام الغال ومروره على فيشي. لابد من دفع الثمن. لقد كُلف جاك بييار رسميا للتحقق من ملابسات الحادث، لكن ليس بحاجة لأن يوضح له ما يُنتظر منه: لمعرفة ما إذا كان هناك وسيلة لتقويض مصداقية المرشح الاشتراكي بالنبش وإن لزم الأمر تلويثه.
عندما وصل جاك بييار أمام الغرفة، اكتشف طابورا من عدة أمتار في الممر. الجميع ينتظر لزيارة المصاب بالحادث. ثمة كبار مهندمي الملابس، شباب غير مهندمين، كبار غير مهندمين، شباب مهندمين، عديد من الأنماط المختلفة، شعور طويلة وشعور قصيرة، أفراد من النمط المغربي، الرجال أكثر من النساء. في انتظار دورهم، يتحدثون فيما بينهم، يتحدثون بصوت عال، يتصايحون أو يقرءون كتابا، يدخنون السجائر. بييار الذي لم يكن قد قدر بعد حجم شهرة بارت، إنه على الأرجح لابد أن يتساءل ما هذا بحق الجحيم. مستخدما سلطته، يمر من أمام الطابور، يقول” شرطة” ويدخل إلى الحجرة. علي الفور لاحظ جاك بييار: السرير مرتفعا بشكل عجيب، الأنبوب مغروسا في الحنجرة، ورما دمويا في الوجه، النظرة حزينة. هناك أربعة أشخاص آخرين في الغرفة: الأخ الصغير، الناشر، التلميذ وما يشبه أميرا عربيا شابا أنيقا للغاية. الأمير العربي هو يوسف، صديق مشترك للأستاذ والتلميذ، جان لوي، ذلك الذي يعتبره الأستاذ ألمع تلاميذه، ذلك الذي في أي حال يكن له عاطفة عظيمة. يتشارك جان لوي ويوسف نفس الشقة في الدائرة الثامنة، حيث ينظمان سهرات تضيء حياة بارت. هناك يقابل مجموعة من الناس: طلاب، ممثلات، شخصيات متنوعة، في الغالب أندريه تيشينيه، وأحيانا إيزابيل أدﭼاني ودائما حشد من شباب المثقفين. في هذه اللحظة، هذه التفاصيل لا تهم المفوض بييار الموجود هناك ليس سوي لإعادة تشكيل ملابسات الحادث. كان بارت قد استعاد وعيه عند وصوله المستشفى. إلى أقاربه الهرعين، كان يقول:” يا لها من حماقة! يا لها من حماقة!” بالرغم من الكدمات العديدة وبعض الضلوع المكسورة، لم تكن حالته توحي بالقلق. لكن بارت لديه، كما يقول أخوه الصغير، ” كعب أخيل: الرئتان”. عاهد السل في شباب وهو مدخن ضخم للسجار. نتج عن ذلك ضعف مزمن في الجهاز التنفسي، الذي في تلك الليلة، يظفر به: يختنق، لابد من وضع الأنابيب. عندما وصل بييار، استيقظ بارت، إلا أنه لم يعد يستطيع الكلام. توجه بييار برقة نحو بارت. سيطرح عليه بعض الأسئلة، سيكفيه أن يومئ بإشارة من رأسه ليجيب بنعم أو لا. ينظر بارت إلى المحقق بعينيه المنغمستين بالحزن. هز الرأس على نحو ضعيف.
“ أنت كنت عائدا إلى محل عملك عندما صدمتك الحافلة، هل هذا صحيح؟” أشار بارت بنعم.” هل كانت الحافلة تسير بسرعة عالية؟ “ مال بارت رأسه من جانب إلى جانب آخر، ببطء، وفهم بييار أن بارت كان يود أن يقول إنه لا يعرف شيئا. “كنت شاردا؟ “ نعم «أكانت غفلتك مرتبطة بالغداء؟» لا.” بمحاضرتك التي تعدها؟” فترة نعم. “هل قابلت فرانسوا ميتيران في هذا الغداء؟” لا. «هل جري أمر ما مميزا أو غير معتاد أثناء هذا الغداء؟» فترة. لا. “ هل كنت متعاطي الكحول؟ “ نعم. “ كثيراً؟” لا“ كأسا؟” نعم.” كأسين؟” فترة. ثلاث كئوس. فترة. نعم.” أربع كئوس؟”لا. هل كانت معك أوراقك الثبوتية عندما وقع الحادث؟” نعم. فترة.” متأكد؟” نعم.” لم يكن معك أوراق عنك عندما عثروا عليك. من المحتمل أن تكون قد نسيتها في منزلك أو في مكان آخر؟” فترة طويلة جداً. فجأة تبدو عين بارت معبئتان بكثافة جديدة. أشار برأسه لا. هل تذكر أن شخصا ما تلاعب بك أثناء فترة وجودك على الأرض، قبل وصول الإسعاف؟ يبدو أن بارت لم يفهم أو لم يسمع السؤال. فترة أخري، لكن هذه المرة، يعتقد بييار انه تبين تعبير الوجه: إنه متشكك. أشار بارت بـ“لا”. أكان توجد نقود بحافظة نقودك؟ تسمرت عينا بارت على متحدثه.” سيد بارت، أتسمعني؟ أكانت معك نقود؟” لا “أكان معك شيء ما ذو قيمة؟” ليس هناك إجابة. تسمر نظر بارت وكأنه – لم يكن هناك وهج غريب في العين- يجعلنا نعتقد أن بارت مات. “سيد بارت؟ أكان بحوزتك شيء ما ذو قيمة؟ أتعتقد أنه كان قد سرق منك شيء ما؟” الصمت المسيطر على الغرفة قطعه فقط نفس بارت المبحوح الذي يمر في أنبوب التنفس. لثوان طويلة لا يزال يسيل. ببطء، أشار بارت بـ“لا”، ثم أشاح بوجهه.
* القاهرة.