نيل هاربسون.. صوت اللون




*رجاء العالم


تتناقل الأخبار مؤخراً التطور الذي حدث في علاج الشلل، في التجربة التي تمت على إيان بوخارت في مركز ويكسنر الطبي الجامعي بولاية أوهايو الأميركية. الشاب الذي في الرابعة العشرين من العمر و الذي أصيب قبل ستة أعوام بحادثة سير مما تسبب في شلل ذراعه، و تم فيها قبل عامين زرع شريحة في دماغه، بحيث تقوم بإرسال الأوامر من الدماغ للعضلات المسؤولة عن تحريك المعصم و الأصابع، و صار بوسعه الآن التحريك الجزئي لتلك اليد، بل و العزف بواسطتها على الجيتار.
إيان بوخارت يعد الإنسان الأول الذي يخضع لتجربة التوصيلات العصبية تلك. و إنه ليبشر بفاتحة عصر يظهر فيه البشر بأجساد هي مزيج من البشر و الآلة، و يذكرنا بقصص الخيال العلمي، و خاصة مسلسل رجل الستة ملايين دولار، رائد الفضاء ستيف أوستن والذي فقد العديد من أعضائه في حادثة تحطم مركبته، و أعيد بناؤه من أطراف صناعية آلية جعلته خارق القوى، أو ما يسمى بالكائن السايبورج cyborg man. ستيف أوستن ربما هو الأقصى الذي يقود له هذا الطريق التجريبي السايبورجي في العلاج، و الذي يجرؤ تدريجياً على تطعيم البشر بالآلة.
ضمن هذا السياق تأتي تجربة البريطاني الإيرلندي نيل هاربسون Neil Harbisson من مواليد عام 1982 و المقيم حالياً في نيويورك، و الذي ولد بإعاقة، هي نوع من عمى الألوان، فهو يرى الأشياء بلون وحيد هو الرمادي.
و لقد مكَّنَتْه تلك الإعاقة و تعلمه للعزف على البيانو منذ سن الحادية عشرة من اكتشاف أن الألوان تصدر أصواتاً، بحيث يمكنه تمييز اللون من صوته، و لقد اختار زراعة تلك العين برأسه، eye-borg التي طورها بنفسه عام 2004، عين تمكن لابسها من إدراك الألوان من خلال موجات صوتية تصدرها تلك الألوان، و هو أول إنسان تزرع تلك الأنتينا antenna في رأسه، بحيث تقوم بتوصيل تلك الموجات الصوتية التي للألوان، فتمكنه من قراءتها و ترجمتها بشكل أوضح، و لقد استغل هاربسون تلك القدرة العجيبة في انتاج اعمال فنية موسيقية و تركيبية و استعراضية، مما جعله يُعد أول فنان سايبرج و يحصد العديد من الجوائز العالمية، يقول:
“أنا اسمع الألوان التي تنبعث من الأشياء و الناس، لوجوه البشر أصوات، صوت العين و الشفاه و الشعر، و بوسعي رسم خارطة تلك لألوان، و يمكنني رسم خارطة ألوان معزوفات موزرات، و غالباً فإن الإنصات لموزارت يبدو مصفراً قليلاً، بوسعي أن أسمع لوحات بيكاسو أو لوحات الفنان وارهول. أنا ارسم بورتريهات صوتية للناس، فمثلاً خارطة أصوات ألوان برنس شارلز و نيكول كيدمان، أو صوت الموسيقى التي تنبعث من هتلر، و بوعسى نظم موسيقاي من مراقبة الأشياء حولي و محاولة عزف ألوانها. و خلال دراستي لمختلف اصوات الوجوه وجدت ان أكثر الوجوه متعة هو وجه شخص من استراليا، لأنه يرسل نغمة من سي ميجور”.
يتنقل نيل هاربسون بأرجاء العالم عازفاً و محاضراً عن إعاقته و أبواب الإبداع التي فتحتها له، هذه القدرة الخارقة التي انبثقت من إعاقته، و في أحدى محاضراته فاجأ جمهوره بالتحذير، “الأصوات هي بنظري وسيلة لتقريب غير المتقاربين، أنا أعزف وجوه المتفرجين، هذه المعزوفة التي تسمعونها في المسرح الآن هي معزوف وجوهكم و ألوانكم. فلو كانت الموسيقى التي نلعبها الآن غير جميلة فهي ليست غلطتي، أنها مسؤوليتنا جميعاً نحن المتواجدين في هذا المسرح”.
ويملك هاربسون موهبة مذهلة في تقديم نفسه بطريقة سَلِسلة، تبلغ الجمهور الذي يخرج من محاضراته مذهولاً، يقول، “حتى طريقة لبسي تبدلت، قبلاً كنت ألبس ما يبدو جميلاً، الآن صرت ألبس ما يعطي معزوفة جميلة، أرتدي ماله صوت متناسق، ما يرسل معزوفة بديعة”.
و تنظر لمعزوفة لباسه، من جاكت أرجواني و بنطلون اصفر ليموني، و قميص من اللافاندر أو الأزرق النيلي، معزوفة بهيجة و مضحكة في ذات الآن. لكنه يؤكد بثقة،
“صرت ألبس ما يُطْرِب، فمثلاً اليوم أنا أرتدي سي ميجور الوتر السعيد، أما لو كنت سأذهب لمأتم فسألبس بي مينور النغمة الحزينة، فيروزي أرجواني و برتقالي”. ويمعن في صدمة الجمهور حين يؤكد، “صرت آكل المأكولات التي لها ألوان تصدر موسيقى جميلة، فلو كنت سآكل فإنني لن آكل إلا أغان جميلة، فمثلاً الآن كنت ساختار أن آكل الأطعمة التي تعزف ألوانُها موسيقى أقرب لموسيقى رخمانينوف كطبق رئيسي، و ليدي قاقا كحلوى”.
ويدهش الجمهور بقوله، “القمائم يمكن أن تصدر أصواتاً مثيرة حقاً، هنالك صمتّ، لكن ليس صمتاً مطبقاً، الألوان تستمر في تغيير أصواتها، مثل حورية تتبدل من نغمة لنغمة، ما يدهشني هو لون الأشعة ما تحت الحمراء التي ليس بوسع العين البشرية تمييزها، و هو اللون المفضل لدي، لأنه لون له نغمة منخفضة الحدة”.
و بالإضافة لقدرته على استقبال صور الأقمار الصناعية فبوسع هاربسون تلقى مكالمات هاتفية مباشرة لرأسه، دون الحاجة لهاتف نقال، يقول، “يمكن لشخص في أميركا التواصل عبر هاتفه و مباشرة لدماغي، و بوسعي عندها سماع أصوات الألوان التي يراها مثل غروب الشمس في تلك البلاد، و يربكني أحياناً التواصل مع الأقمار الصناعية، فالفضاء كثير الفوضى و الصخب لكثرة الأشعة فوق البنفسجية هناك”.
و لعل من أهم أعمال نيل هاربسون الفنية ذلك العمل الاستعراضي والذي يحمل اسم “بانتظار الزلزال”، و يجعل الممثلين يلبسون أزياء بأدوات أو مجسات استشعار تجعل الأزياء تعمل و تتفاعل عندما تستشعر زلزالاً يقع في العالم، و تسمح مجسات الاستشعار تلك للراقص أن يشعر بحدة ذبذبة و موقع كل زلزال يقع بالعالم. إن لم يكن هناك زلزالاً فلن يكون هناك رقص. حين تكف الزلازل يكف الرقص، و هو عمل استوحاه من شريكته في الفن مون ريباس، والتي تعرفها منذ كانا في الثامنة من عمريهما، و لديها جهاز استشعار مزروع بذراعها مما يجعلها تشعر بذبذبات الزلازل.
أسس هاربسون مع مون جمعية السايبورجيين عام 2010، للانتصار لأنصاف البشر و أنصاف الآلة، و يتنقل في العالم مبشراً بالجنس البشري الميكانيكي، يقول:
“لا أشعر بأنني ارتدي التقنية، أنني أنا تلك التقنية، نحن كجنس بشري في مرحلة انتقالية، حيث أننا في سبيلنا لتبنِّي التقنية كجزء من أجسادنا، و هي أمر جيد لايجب أن نخشاه. فأنا أسعى لتمديد و توسيع حواسي اللونية، و التي صارت جزءًا من جسدي، و من المهم بنظري تشجيع الناس لتوسيع حواسهم، المعرفة تأتي من حواسنا مما يوسع معرفتنا، و إننا لو كففنا عن تغذية و تنويع و توسيع التطبيقات لهواتفنا الذكية، و انشغلنا عوضاً عن ذلك بتوسيع التطبيقات (apps) التي لحواسنا و جسدنا فإن حياتنا البشرية ستصير أثرى”.
هى دعوة لا نعرف مدى قدرتنا على تلبيتها، إذ لايفارق نيل هاربسون تلك الأنتينا والتي تلتصق برأسه حتى أثناء نومه، و حين تتأمله تنتابك حيرة بين الإعجاب و الفزع، حين تتخيل ذاتك ترقد في فراشك بينما لا تكف تغزوك أصوات ألوان كل ما حولك، صوت لكل لون من ألوان النقوش التي في غطائك، صوت لكل نقش للستارة أو لألوان الجدران أو ألوان قميص نومك، بالإضافة لرسائل الهواتف و الأقمار الصناعية الطائشة، هذه الأكوان المتراكبة من المعزوفات اللانهائية.
دعوة للوصول للجسد التقني ربما ستصير حقيقة في مشوار البشرية الطويل للتطور.
______
*جريدة الرياض

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *