*أبو بكر العيادي
لم يكن هنري روسو (1844 /1910) الذي يقام له حاليا معرض استعادي في متحف “أورساي” الباريسي يحلم بأن يصبح فنانا يشار إليه بالبنان، ويخالط كبار الفنانين ويحظى باحترامهم ويؤثر في مسارهم الفني.
بعد أن درس الحقوق في مسقط رأسه بلافال، انتقل روسو إلى باريس فعمل كاتبا في مكتب عدل، ثم موظفا في مصلحة استخلاص الضرائب عن البضائع المستوردة، ثمّ خطر له في سنّ الثانية والأربعين أن يجرب الرسم على هواه أيام الأحد، دون الالتحاق بورشة أحد الرسامين أو بأكاديمية الفنون كما جرت العادة، لإيمانه بأن الأرواح تسيّر فرشاته، فكانت النتيجة لوحات “ساذجة” لا علاقة لها بالحركة الفنية في ماضيها وحاضرها، ولكن تعلقه بالفن جعله يسعى للحصول على بطاقة ناسخ من متحف اللوفر، ليستأنس بالأعمال الفنية الكبرى، دون أن يحيد عن أسلوبه.
حدث معزول
عندما فكّر روسو في عرض لوحاته في الصالون الرسمي عام 1885 قوبل بالرفض، فانتقل إلى صالون المستقلين لغياب لجنة تقييم، ولكن لوحاته الأربع التي شارك بها قابلها النقاد والفنانون باستغراب مشوب بالسخرية، حتى أن صديقه الكاتب المسرحي ألفريد جاري، صاحب المسرحية الشهيرة “الملك أوبو” أطلق عليه لقب “الديواني” بسبب عمله في استخلاص الضرائب، فصار نَبزا له يُستعمل لانتقاص تجربته.
ومع ذلك داوم روسو الرسم، بنفس الأسلوب، حتى عرف به، وصار يلقى الاحترام من أعلام تلك الفترة كهنري ماتيس وروبير دولوني وفاسيلي كادينسكي وحتى بابلو بيكاسو الذي اقتنى بعض لوحاته، ومن أدباء مرموقين كأبولينير وسندرار، بل إن السرياليين من دي كيريكو إلى ماكس إرنست يعترفون بأنهم مدينون لهذا الفنان صاحب الرؤية المستقبلية.
ظل روسو عصيّا على التصنيف، وظهوره كان أشبه بحدث معزول، خارج عن التطور اليومي للفن، فأسلوبه غريب عن كل المدارس المعروفة، البائدة والطليعية، لأنه لا يحسن التصوير، ولا يخضع للقواعد المعروفة، ولا يعرف الأفق المنظوري، وشخوصه التي تُجابه الناظرَ ذاتُ بعدين مثل رسوم الأطفال.
بسبب ذلك سخروا منه وعدوا فنه ساذجا، وبسبب ذلك أيضا كان تفرده وتميزه، فقد استطاع أن يخلق عالما خاصا به وحده، عالما غريبا تطغى عليه الأدغال وحيواناتها المفترسة وطيورها الكواسر وزواحفها السامة، وهي تفترس بعضها بعضا، كما في لوحة “حصان يهاجمه يغور” أو لوحة “أسد جائع يفتك بظبي”، مع حضور مفارق أحيانا، كما في لوحة “حلم”، حيث امرأة عارية متمددة على كنبة من المخمل في دغل كثيف تستمع إلى عزف ناي تحت أنظار لَبؤتين وفيل، أو لوحة “مروضة ثعابين” حيث طيف امرأة عارية تنفخ في شبابة على حافة نهر. وعادة ما تكون متفصية من الحيز الزمني المعاصر، خالية من أي عنصر سردي لتمرير رسالة، ولكنه يفلح في خلق صورة عن دراما وفق رؤية مخصوصة انبهر بها السرياليون من بعده، كما يتبدى في لوحة “الحرب”.
وتتميز تلك الأعمال كلها بعناية فائقة بالتفاصيل، وقدرة عجيبة على تنويع لون واحد، إذ يصادف أن يستعمل أربعين تنويعة للأخضر. وهو ما يؤكده أبولينير، الذي عُرف إلى جانب شعره بنقده الفني الصائب.
في مقالة لأبولينير بعنوان “الديواني روسو: البراءة التقليدية”، كتب يقول “غالبا ما كنت أشهد عمله، وأعرف مدى حرصه على التفاصيل.. كان لا يترك شيئا للصدفة لا سيما ما هو جوهري”.
إلى ذلك، ابتكر روسو، الذي يعتبر نفسه فنانا واقعيا، البورتريه المشهد، فقد كان يجعل المناظر الطبيعية في خلفية كل بورتريه يرسمه، لا يستثني من ذلك حتى الصورة الجماعية. والطريف أن روسو لم يغادر باريس، ولوحاته كان يستوحيها من البطاقات البريدية، ومن كتاب علوم طبيعية لتلاميذ المدارس، أو من مشاهداته في “حديقة النباتات” بباريس، ثم يضفي عليها من خياله ليصوغها بأدواته الفنية التي لم يجاره فيها أحد قبله.
مسيرة متأخرة ومتفردة
يقول غي كوجفال، مدير متحف أورساي ومفوض المعرض “مسيرة الديواني روسو المتأخرة والمتفردة جعلت من هذا العصامي جسما طائرا غير محدد الهوية في العالم الفني الذي كان لا يزال كلاسيكيا في نهاية القرن التاسع عشر، وبوأته أبا الحداثة في نظر فناني الطليعة، فنان هو نسيج وحده استطاع أن ينقل عالم الفنانين الأكاديميين إلى عالمه الخاص، الموسوم بالجدة والطرافة والحلم، وبابتعاده عمدا عن كل إرغامات الرسم المنظوري في لوحاته، أمكن له أن يصبح الفنان القدير الذي نحتفي به اليوم”.
لقد أبدع هذا العصامي أسلوبا خاصا، أخرق في الظاهر، ولكنه عفوي، مشبع بالخيال والحلم ومهّد الطريق للتكعيبية والتعبيرية الألمانية والسريالية، واستفاد منه الكبار من ماكس إرنست إلى سلفادور دالي وبيكاسو، مرورا بفيليكس فالوتون وفرنان ليجيه وكادينسكي.
________
*العرب