*غسان زقطان
أحاول أن أتتبع اتجاهاً شكل دائماً جزءاً من المشهد الأدبي الفلسطيني والعربي، حتى في فترة الخمسينيات والستينيات التي شهدت “التسميات الكبرى” على نمط “شعراء النكبة” و”شعراء المقاومة”، أو النسخة اللبنانية فيما بعد “شعراء الجنوب”. كان هذا الاتجاه يقدم اقتراحاته الفنية ضمن رؤية أوسع ولغة مختلفة عن السائد وتدافع الأكتاف وإغراق الشعر بقاموس السياسي وروايته، وصعود القومية واليسار. أتحدث عن تجارب، مثل توفيق صايغ وجبرا ابراهيم جبرا التي ظهرت بقوة وتركت تأثيراً في مناطق الجدل آنذاك، بيروت وبغداد، يمكن هنا أن أضيف “فواز عيد” في عمليه “أعناق الجياد النافرة” و”في شمسي دوار” في النصف الثاني من ستينيات دمشق. هذا ينطبق علي وعلى الجيل الذي أطلق عليه اسم جيل الثمانينات، الذي أجده امتداداً لتلك التجارب، وهو جيل يضم العديد من الأسماء العربية، لعل بلورته كجيل مختلف تشكلت في بيروت نهاية السبعينيات، عملية الإبعاد التي واجهها هذا الجيل سمحت له بالتحرر من ثقل مطالب البلاغة السياسية والبحث في مناطق جديدة. بدأنا الكتابة في مرحلة الخسارة، الحرب الأهلية اللبنانية بتعقيداتها التي لا تزال قائمة إلى الآن، وحصار بيروت، والحرب العراقية الإيرانية، صعوداً في الثمانينيات وتداعياتها حتى الانتفاضة الكبرى. نصوصنا الأولى كتبت في هذا السياق، وكانت ممتلئة إلى حوافها بالتمرد، تمرد شمل: الأشكال واللغة والإيقاع وقداسة “الرواد”. بدأنا قبل الرواد وزحزحنا تاريخ التجديد الحديث إلى ما قبلهم، ولم يكترث معظمنا بالسؤال المدوخ في أيهما سبق قصيدة “الكوليرا” لنازك الملائكة أو السياب، وأبعد من جدل “الآداب” و”شعر”. ذهبنا في مسالك أوصلت بعضنا إلى: سعيد عقل ومصطفى وهبي التل وأحمد شوقي وارث الصوفية، كان ذلك خروجاً عن الطاعة وعمليات التأريخ والتوثيق الثقيلة. كان الأمر أقرب إلى مختبر جدل “شامي” بامتياز، أتحدث عن الجغرافيا، عن طريق دمشق – بيروت، تنظير أقل وكتابة واسعة ومتعددة، تجمع بين: نزيه أبو عفش ورياض الصالح حسين وسليم بركات وعباس بيضون وبسام حجار، أمجد ناصر وميسون صقر وقاسم حداد وزاهر الغافري وسيف الرحبي ووليد الخزندار، وخالد درويش، وزكريا محمد وهاشم شفيق وعواد ناصر وقاسم حداد وحلمي سالم وزهير أبو شايب. يمكن في هذا السياق أيضاً قراءة يوسف بزي وعناية جابر…. طبعاً هناك أسماء كثيرة وهامة يمكن إدراجها هنا ولا تحضرني في هذه اللحظة. في منطقة ما أجد أسباباً للمقارنة مع “جيل الـ 27” في إسبانيا بتعددية تجاربه واختلافاته وتمرده على النمطية والرومانسية، الجيل الذي هبط بالشعر إلى الشوارع وبين الناس بدل “الطيران فوقهم وفوق الحياة”. البلاغة الفائضة والإيقاعات العالية والهتافات بقيت هناك خلفنا عالقة ومحبوسة في عقد السبعينيات. نحن تحدثنا عن الخسارة بآلات فردية وأصوات حقيقية، وبينما كانوا يواصلون النفخ في النحاسيات في السبعينيات خلفنا، كنا نتحدث عن الخسارة: خسارة الفرد وعزلته وغاياته الصغيرة، وعن الناس والعاديات البسيطة والهوامش، الهزيمة كانت من مصادرنا أيضاً. ببساطة أشد كنا نمتلك شجاعة رثاء الثورة ومفارقة الأحلام والمسيرات الحاشدة والاكتفاء بالشوارع الجانبية وعد النوافذ المضاءة في البيوت المهجورة. لم نكن جيلاً مهزوماً بقدر ما كنا قادرين على رؤية الهزيمة وتبينها وتفكيكها. اقتراح بدايات حقيقية تنشأ من هموم الناس ورغباتهم وتستحضر قوتهم. كنا جزءاً من المكان وحاولنا جميعاً بوسائل مختلفة أن نعيد الشعر إلى الزمن أيضاً، وكان بين أيدينا حقبة من الشعر راكمتها تجارب أساسية في المشهد الثقافي العربي كانت بيروت محطتها الرئيسة. هذا لا يعني أن “البلاغة” بسطحيتها ومخزونها السلفي قد انحسرت عن المشهد، ودعني استخدم تعبير “الحيل البلاغية”، ما زالت تحيط بالمشهد الأدبي الفلسطيني وتحاصره تحت مسميات وأقنعة جديدة تواصل التغذي من الشعار السياسي، أو من رواية السياسيين، أو “الدعاة الجدد” والخطاب السلفي الذي استعاد حيويته وحضوره مع صعود الإسلام السياسي وقاموسه. لقد تحكمت مخيلة السياسي الضيقة، رغم افتقارها للموهبة وللواقعية، لعقود طويلة بالنص الأدبي المكتوب في فلسطين أو عنها، وهو أمر قائم إلى الآن وأظنه سيتواصل.
_________
* من حوار طويل مع الإعلامي طارق حمدان ينشر قريباً. / الأيام الفلسطينية.