الملك إخناتون.. اتهموه بالشذوذ لأنه دعا للتوحيد


سهام وهدان*


قال بعض المؤرخين: إن الملك إخناتون شاذ جنسيا وشاذ عقليا لمجرد أنه دعا إلى توحيد الآلهة، واستندوا في معتقداتهم هذه إلى تماثيله التي عثر عليها في معبد آتون بالكرنك التي تجمع في هيئتها الجسدية بين الذكر والأنثى.. وهذا الاعتقاد بالطبع لا يمت للحقيقة بأي صلة، بل إن ظهور بنيته الجسدية بهذا الشكل كان له أسباب ودوافع أخرى.
جاء إخناتون بفلسفة عقائدية جديدة كانت نتاج أسباب سياسية ودينية بدأت منذ عهد والده الملك أمنحتب الثالث. أثرت فلسفته الجديدة بدورها على الاتجاه الفني بشكل عام وعلي تماثيله بالكرنك والأعمال الفنية التي تناولته هو وأسرته بشكل خاص، كما ظهر هذا التأثير في فترات الحكم اللاحقة له، فظهر الجميع في بنية جسدية مختلفة الشكل وكان ذلك الأسلوب فنياً بحت أراد به إخناتون التعبير عن فلسفته العقائدية الجديدة ولم تكن شذوذا أو انحرافات جنسية.
ذكر الأثري «كلير لا لويت» في كتابه (الفن والحياة في مصر الفرعونية) أنه في حوالي عام 1370 ق. م ارتقي عرش مصر المجيد شاب في الخامسة عشرة من عمره، إنه الابن الوحيد الذي أنجبه «أمنحتب الثالث» من زوجته «تي» ولقد استمر «أمنحتب الرابع» فوق العرش حوال تسعة عشر عاما.. وشب في بلاط ملكي تحوطه الأبهة والفخامة الفائقة، حيث البذخ والثراء الصارخ، ومن حوله الكثير من السوريين والفينيقيين، وأفراد من جميع شعوب الإمبراطورية الذين كانوا يتجمعون ويعيشون في مدينة «طيبة» الجامعة لأجناس مختلفة، وعلى مقربة من كهنة آمون الفائقي الثراء، وسرعان ما ظهرت على هذا الأمير منذ نعومه أظافره علامات التصوف والورع. فدفعه انعكاس لا إرادي ضد مظاهر البذخ والثراء الفاحش الذي يحظى به «آمون» وكهنته.. فتقدم بأفكار جديدة أدت إلى تعديل في المعتقدات الدينية التي كانت منذ عهد الملك «مينا» توجه الفلسفة المصرية القديمة وتشكل مؤسساتها وكان الاعتقاد السائد هو أن «إله الشمس» قد تغلب على آلهة مصر الأخرى وفرض سلطانه عليها. فأمسك إخناتون بهذا الخيط وارتفع به إلى مرتبة السيادة المطلقة، ولكن بمفهوم جديد حيث اعتبره (الآلة – الملك والأب – الذي يظهر جبروته في الضوء الذي ينبعث من قرص الشمس آتون).. ولذا فقد أراد أن يطلق على نفسه وقتئذ اسم «إخناتون» بمعني (الذي يحبه آتون)، وذكر «كلير لا لويت» أيضاً أن إخناتون في العام الرابع من حكمه غادر طيبة (الواقعة تحت سيطرة كهنة آمون)، وعمل على تشييد عاصمة جديدة: أخيتاتون بمعني (أفق آتون) بالموقع الحالي لتل العمارنة على بعد 320 كم شمال طيبة وبالضفة الشرقية للنيل.
كما أكد الآثاري «سيمسون نايوقتس» في كتابه (مصر أصل الشجرة) أن دوافع «إخناتون» لتلك الفلسفة تخص النظام اللاهوتي في المقام الأول، كما كان الحال بالنسبة لأبيه الفرعون السابق، وكانت هناك كذلك اعتبارات سياسية واقتصادية وهي كيفية اجتثاث سلطات كهنة آمون الزائدة عي الحد في طيبة، حيث إن مقدمات فن العمارنة قد وضعت خطوطها العريضة في عهد «أمنحتب الثالث» قبل توطيد جذور هذا الفن على يد (إخناتون)، حيث اتخذت في عهده الإجراءات الحاسمة نحو تحويل آتون إلى إله مكتمل يُعبد عبادة فعلية، حيث بدأ «أمنحتب الثالث» الاتجاه التفضيلي تجاه آتون وأسس عبادة له.. ولكي يعبر إخناتون عن أفكاره فقد ذكر «سيريل الدريد» في كتابه أن إخناتون أثار في الفن أسلوباً لاقي الاهتمام الشديد واستمر كل الفترة التي حكمها «سبعة عشر عاما»، وظهرت به بعض التجاوزات التي كانت بتشجيع من إخناتون نفسه.
النزعة الآتونية
يظهر تأثير فلسفة إخناتون العقائدية الجديدة في التماثيل الضخمة العملاقة له التي أمر بإقامتها في الكرنك قرب أفول فترة حكمه بالفناء الكبير المؤدي إلى مدخل معبد «جم آتون» وهو معبد فسيح الأرجاء كرس من أجل «آتون»، وكان قد شيده «إخناتون» في الكرنك (قبل انتقاله إلى العمارنة) ويقع شرق ساحة معبد «آمون – رع»، وهي تماثيل لا يقل ارتفاع الواحد منها عن أربعة أمتار، وفي واحد منها يقف الملك «إخناتون» رافعا كلتا يديه فوق صدره ويمسك بيده اليمني مذريته وبيده اليسرى صولجان السلطة الملكية، ويظهر فيه بالشكل الحديث للملك الذي ميز فن العمارنة، فنراه بوجهه الضامر النحيل وعينيه المفرطتي الانحراف إلى أعلي عند طرفيهما، وشفتيه الغليظتين، وذقنه المستطيل الضخم، وعنقه الواضح النحول والاستطالة، ولا يخفي على العيان مطلقا عدم تناسق جسده: فإن خصره نحيل وحوضه وفخذيه يبدوان فائقا الاكتناز، وأردافه ممتلئة وبطنه منتفخ، وثدياه منتفخان وكأنهما ثديا امرأة، والجزع لا أثر فيه لأية عضلات ظاهرة ويبدو ضيقا وضامرا، بل يتعارض مع اكتناز شكل الحوض، وكتفاه ضيقان وفائقا الاستدارة، أما ذراعاه فهما نحيفان، وساقاه قصيرتان.. ولابد أن هذه التماثيل قد أدهشت معاصري إخناتون وأصابتهم بالذعر بابتعادها بعنف عن مثاليات تصوير الملك الإله، ففي هذه التماثيل العملاقة نجد أن بنية «إخناتون» قد استطالت وتمددت وحرفت لتصبح رمزا جديداً (للإله الأوحد). وقد ادعي «باك» الذي لا شك أنه صانع هذا التمثال ومصممه بأنه كان في هذا العمل تلميذا «لإخناتون» مما يعني أن «إخناتون» نفسه هو الذي اقترح هذا التشكيل. وهذه التماثيل هي المحاولة الوحيدة الواعية في تاريخ مصر القديم كله لإنتاج شكل جديد تماماً ونبذ التقاليد الماضية. وهذه التماثيل من أشد الأعمال الفنية غموضاً من بين الأعمال التي وصلتنا من العالم القديم، إذ نجد فيها تعبيرا خارجيا مرئيا يشف عن قوة داخلية روحية ذات ومضة من ومضات التعصب الديني تجسده التحديات الثابتة، الذي يبدو أنها حالة الاستغراق في التقوى والورع.
ولا شك مطلقا في أن بنية إخناتون لم تكن أصلا مختلفة التكوين مثلما تظهره أعماله الفنية، وإنما يرجع ذلك إلى الفلسفة والمفهوم الديني الجديدين اللذين أراد إخناتون أن يعبر عنهما من خلال الفن وبالتحرر من المثالية وبالمبالغة في الواقعية إلى حد التحريف. وهذا المفهوم الديني الذي ظهر كثيرا في نصوص العمارنة. ولعلنا نعرف أن الشمس التي يجسدها الملك في العالم الدنيوي هي «الأب والأم لجميع البشر»، أو كما تقول بعض الترانيم السابقة لعهد «أمنحتب الثالث»: «الأم الحانية لجميع الإلهة والبشر»، فالملك لم يكن بمثل هذا التشوه الجسدي»، لأنه كان زوجا وأبا لست بنات»، بل الأمر بدون شك مجرد تجل عقائدي لملك أراد أن يكون الشبيه المتطابق للإله أو بالأحرى «آتون الحي» في العالم الدنيوي).. والدليل على أن تلك الملامح لم تكن هي ملامح إخناتون الحقيقية يظهر بوضوح إذا قارنا ملامحه المتأثرة بفلسفته الجديدة في فن العمارنة، كما أكد إبراز ذقنه فوق رقبة نحيلة طويلة بملامحه الطبيعية الواقعية جداً في رأس للملك محفوظ بالمتحف المصري ببرلين ونري أنها لا تحتوي على هذه المبالغات، حيث شكلت ملامح الملك بشكل طبيعي وهذا يبرهن على أن المبالغات الشكلية في شكل إخناتون التي وجدت بأعماله الفنية السابقة ليست ملامحه الحقيقية وإنما فقط تعبير فني عن فلسفته الجديدة.
أسرة إخناتون
وللتأكيد أيضاً أن هذه المبالغات في تصوير بنية الملك إخناتون نجد صداها في تشكيل أسرته بالكامل. فقد نحتت كذلك تماثيل لنفرتيتي وبناتها على النمط الإخناتوني»، ولم يمض وقت طويل حتى كانت الملكة نفرتيتي وبناتها يتخذن نفس الوجه الطويل والمغالاة في تصويرهن. ويبدو أن أفراد الشعب في عهده قد فضلوا – أغلب الظن – تصوير أنفسهم أيضاًً بهذا الأسلوب الملكي، فقد كان من الطبيعي أن تصبح هيئة الملك الجسمانية نموذجا لهم.. ونري ذلك بوضوح في نقش غائر ملون يمثل منظراً طقسياً يقوم فيه الملك «إخناتون» بتقديم القرابين للآله الشمسي «آتون» المشع بضيائه وقد أحاطت به زوجته وبناتهما. يظهر في النقش كيف شكلت البنية الجسدية لأسرة إخناتون (نفرتيتي وبناتهم) بنفس الأسلوب الفني الذي تُشكل به بنيته الجسدية، فنراهم جميعاً بخصر نحيف وأرداف ضخمة وبنفس ملامح الوجه.
ولا علاقة لتلك الملامح بالواقع أو الحقيقة ويتجلى ذلك بوضوح في الرأس الملون للملكة «نفرنيتي» المحفوظ بمتحف برلين، حيث نراه واقعيا يمثل الملكة بملامحها الطبيعية بدون المبالغات.
سمنخ رع متأثرا بإخناتون
ويظهر تأثير فن العمارنة بوضوح في الفترة اللاحقة لعهد الملك إخناتون، فعندما ارتقي عرش مصر من بعده «سمنخ كارع» ثم «توت عنخ آمون» ومن بعدهم «اي» ثم «حور محب» عاد الفن مرة أخرى إلى أسسه السابقة، ولكن كان من الصعب عليه أن يتخلص تماماً من تأثير التغيير العمارني فاستمروا في العمل بأسلوب العمارنة المتأخر بدون تعديلات كثيرة.. ومن الأعمال الفنية التي احتفظت باللمسات العمارنية نقش ملون خفيف البروز للملك «سمنخ كا رع وزوجته» محفوظ بمتحف برلين، ويظهر الشكل الجسماني لهما متأثراً بخصائص فن العمارنة فنلاحظ ترهل بطنها ونحافة ذراعيها مع طول الرقبة واستطالة الرأس للخلف.. إذن فلا ريب مطلقا مما سبق أن تماثيل الملك «إخناتون» هي بمثابة تعبير فني بحت عن مفهوم جاء كثيراً في الأدب الديني حول الازدواج الجنسي لدي الإله الخالق كما ذكر د. ثروت عكاشة في كتابه (الفن المصري القديم). وهذا يفسر لنا حكمة تلك التماثيل لإخناتون التي دار حولها كثير من الأقاويل، حيث تعمد الملك «إخناتون» أن يظهر فيها عاريا وبدون أعضاء جنسية حتى يؤكد وصوله إلى أقصى المراتب من السمو الروحي.•
* صباح الخير.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *