

مرفت عمارة*
في حوار معها نشرته الجارديان البريطانية، صرحت سفيتلانا أليكيسيفيش أنها كانت في بيتها بـ”مينسك” حين رن جرس الهاتف ليعلنها بخبر مذهل قادم من ستوكهولم، هو حصولها على جائزة نوبل في الآداب، وأضافت: “كانت هناك شائعات تسري أن اسمي ورد بالفعل ضمن ترشيحات الأكاديمية السويدية لعام 2015، إلا أنني قلت في نفسي (مثل تلك الجائزة المهمة والضخمة، لابد أن تكوني غاية في الحمق إذا توقعت الفوز بها)”.
خلال الساعات القليلة التالية ظل الهاتف الموجود بشقتها المتواضعة، المكونة من حجرتين في عاصمة روسيا البيضاء، يرن دون توقف، فكان المتصلون هم ميخائيل جورباتشوف، والرئيسان الفرنسي والألماني، كما بعث لها رئيس روسيا البيضاء لوكاشينكو بالتهنئة عبر شاشة التليفزيون، بالإضافة إلى الأصدقاء وآلاف القراء الذين كتبوا لها مهنئين، تقول عن ذلك: “لقد وضعوني في مصاف “بونين” و”بروديسكي” و”باسترناك”، فجميعهم حصلوا على نوبل في الآداب”.
عادت أليكيسيفيش إلي روسيا البيضاء منذ أربع سنوات، فتقول: “أحب العيش في بلدي، فعلي أرض الوطن فقط يمكنك أن تكتب”. كانت سفيتلانا مشهورة في بلدها قبل نوبل، إلا أن فوزها بالجائزة أكسبها شهرة عالمية، وكانت تلك من الأشياء التي سعت إليها، كما تعترف: “عليك أن تكون في صحة بدنية ونفسية جيدة، وقد كان توقيت الجائزة مثاليا، لأنها جاءت بعد انتهائي من خمسة كتب، وما يقرب من أربعين عاما من الكتابة حول ما أسميته الحضارة الحمراء واليوتوبيا الحمراء”.
لا تريد سفيتلانا الآن سوى “السلام” وفرص للعمل في مشاريع جديدة، فجائزة نوبل أطلقت لديها اهتماما جديدا، حيث ستزور – الشهر القادم – المملكة المتحدة للمرة الأولى وهي في السابعة والستين من عمرها، وهو ما يتزامن مع الذكرى الثلاثين لكارثة انفجار مفاعل تشيرنوبل، لذا أصدرت طبعة منقحة من كتابها “صلاة تشيرنوبل” الذي نشر لأول مرة سنة 1997، وترجمه للغة الإنجليزية كل من آنا جونين وآرش تيت، كما ستترجم كتابها “وقت مستعمل”، الذي يتناول تفكك الاتحاد السوفييتي وتداعيات ذلك، وسوف يصدر قريبا مع أعمالها الكاملة.
تقول أليكسيفتش عن كتابها “صلاة تشيرنوبل”: “كلمة صلاة لها دلالة روحية واسعة في روسيا، ويمكن قراءتها على أنها نداء واسترحام، فهذا الكتاب استغرق مني 11 عاما لكتابته، ولم يكن عملاً صحفياً، أو عن تشيرنوبل بالذات، بل عن عالم تشيرنوبل”.
تهتم سفيتلانا في حواراتها دائما بمفهومين متلازمين هما الشخصية الروسية، والذات أو الشخصية الأبدية، فتقول: “ما يثير قلقي هو ما يمكن أن أطلق عليه التاريخ المفقود، البصمة الخفية لوجودنا على وجه الأرض في الوقت المناسب، فأنا أرسم وأجمع مشاعر دنيوية، وأفكاراً، وكلمات، أحاول بها جاهدة التقاط حياة الروح”.
وصلت أليكيسيفيش بعد انفجار تشيرنوبل مباشرة؛ في 26 أبريل عام 1986، حين كان المكان لايزال مشتعلا، تصف ذلك: “كانت هناك فوضى، الشاحنات العسكرية والجنود يركضون في جميع الاتجاهات بالكلاشينكوف صائحين: على من نطلق الرصاص؟ لا يمكن إطلاقه على الإشعاع، كانت هناك حالة من الارتباك والذهول، فقد شاهدت أحد الضباط يرافق سيدة مسنة لدفن سلة بيض تحت الأرض، كلاهما بعينين مزعورتين، وفلاحين يدفنون ألبانهم واللحم المقدد، بينما يختبئون تحت خشب الوقود وأسطح المنازل الخشبية”. واستطردت: “لا يمكنك رؤية الإشعاع بالعين المجردة، ولن تتعرف عليه بالرائحة، إنه شيء غير محسوس، والإنسانية لم تكن مستعدة لذلك”.
شبت أليكسيفتش في جنوب روسيا البيضاء، تبعد قريتها أكثر من مائة كيلومتر عن تشيرنوبل، والدها من بيلا روسيا ووالدتها أوكرانية، ينتميان لأسرة تعليمية لأربعة أجيال، تقول عن ذلك: “كان والدي شخصية هامة، مدير مدرسة، قادرا ًعلى تبادل الحوار مع أي شخص سواء كان بسيطا أو مثقفا، محبا للشطرنج والصيد والنساء الجميلات، أما موهبتي، فهي شيء نابع من الجينات”.
كانت عواقب تشيرنوبل كارثية، حيث ارتفعت حالات الإصابة بالسرطان، انحدرت التركيبة السكانية الديموجرافية، وحدثت طفرات جينية، حتى أن أختها الطبيبة أصيبت بالمرض عام 1985 وتوفيت بعد شهور قليلة من الكارثة، فتبنت ابنة أختها التي كانت حينها في الرابعة من عمرها، بعد ترحيل والديها، وفيما بعد أصيبت والدتها بمرض السكر، وفقدت بصرها، ثم توفيت بالسكتة الدماغية، فتتذكر: “عشرة من بين أصدقاء طفولتي الخمسة عشر، لقوا حتفهم بسبب سرطان تشيرنوبل القاتل، وإذا سافرنا إلى القرى التي ارتحل إليها أبواي، سنجد هناك شابات يئسن من الزواج والإنجاب بعد عمليات جراحية سببت لهن العقم”.
بعد أن عملت أليكيسيفيش كمراسلة صحفية بعد تخرجها من جامعة روسيا البيضاء، التحقت عام 1976 بالعمل في مجلة أدبية وثقافية في مينسك، وبعد عامين بدأت في الكتاب الأول الذي واجهت بسببه انتقادات لاذعة وهو “وجه غير أنثوي للحرب”، لكنه وزع مليوني نسخة وصنع لها اسما في الاتحاد السوفييتي، فهي من أجل إعداده قابلت المئات من النساء المقاتلات مع الجيش الأحمر بين عامي 1941 – 1945، ولم يتم تسجيل شهادتهن من قبل، كن في ذلك الوقت مجرد مراهقات، حاربن على الجبهة كقناصة وسائقات.
المشروع القادم لسفيتلانا هو “أولاد في الزنك”، الذي يحتوي مقابلات مع جنود من الحرب السوفييتية في أفغانستان، وكذلك الأرامل والأمهات، حيث يشير عنوانه إلى توابيت الزنك التي كانت تستخدم لإعادة القتلى بعد أدائهم ما أطلقت عليه “الواجب الدولي”.
بعد مسيرة إبداعية سجلت خلالها بدقة وقائع صعبة، تؤكد أليكيسيفيش أنها لم تعد قادرة على مواجهة الكتابة عن الصراعات، بقولها: “اكتشفت أنه من المستحيل الذهاب إلى ساحة حرب، فقد نفدت مني الاحتياطات اللازمة لحماية نفسي من الألم، لقد أرهقت عبر سنوات وسط تلك الأعمال الوحشية، لذلك أحاول إنجاز شيء جديد، حيث أعمل حاليا في كتابين؛ الأول عن الحب، يروي فيه الرجال والنساء حكاياتهم الشخصية من الحياة عن الرومانسية، والآخر عن التقدم في السن، حيث لا يوجد لدينا فلسفة للحياة في الشيخوخة، قبل اختفائنا النهائي في الظلام”.
وسط كل ذلك، هناك سؤال واحد يطرأ بشكل شبه دائم على ذهن سفيتلانا؛ هل كتبها نوع من الفن؟ فهي أحيانا تستغرقها الكتابة من خمس إلى سبع سنوات، ولديها ما يتراوح بين 300 إلى 400 بطل وبطلة، بعضهم قابلته مرة واحدة، وآخرون أصبحوا ركيزة أساسية في سردها الروائي مرات عديدة، طريقتها في التعامل لا تتغير، تستخدم الديكتافون في تسجيل حواراتها مع مصادرها وتنسخها فيما بعد، حيث لم تلجأ بعد لاستخدام الأجهزة الحديثة كالآيفون.
تشّبه أليكيسيفيش المرحلة التالية للعملية الإبداعية، بالنضال الفيزيائي، مثل تشكيل ونحت تمثال، أو حتى بناء كاتدرائية، فتصف كتبها بأنها روايات تعبر عن أصوات، وتضيف: “الكتابة بذلك النوع الأدبي غاية في الصعوبة، فهذا واقع يتم إنجازه بقوانين الأدب، وروسيا تمتلك ذلك التقليد، حيث أنه في إحدي المرات سئل رودان: كيف تصنع تماثيلك؟ فأجاب: أنا أتصارع مع الحجر، نفس الشيء بالنسبة لي، أنا أتصارع مع الوقت، أجمع النفايات التي تتركها الحياة خلفها، وأبدأ بتطهيرها، صانعة منها فنا”.
اختارتها الأكاديمية السويدية؛ لكتاباتها متعددة الأصوات، التي تعد أثرا باقيا للمعاناة والشجاعة في عصرنا، وتعلق أليكسيفتش: “نحن نعيش في واقع سريع التغير، وهناك أشكال فنية جديدة، لا أحد يشكك حاليا أن المنشآت البنائية فن، ولكن الحدود بين ما هو خيالي وما هو واقعي ضبابية وغير واضحة، وهذا أفضل وقت لالتقاط المتغيرات الحديثة لأنفسنا”.
يستشعر المرء أنها قانعة، ففي الصفحة الأخيرة من كتابها “وقت مستعمل” وتحت عنوان “ملاحظات من كل امرأة” كتبت حوارا من طرف واحد لسيدة في الستين من عمرها، توفي زوجها بسبب الإفراط في شرب الخمر، وتعيش وحيدة في مكان يبعد ألف كيلومتر من موسكو، غير مبالية بالسياسة أو بمن هم حمر أو بيض، اهتمامها ينحصر في زراعة البطاطس من أجل صنعها في الربيع، هذه هي سعادتها. فهل أليكيسيفتش أيضا سعيدة؟ تبتسم وترد: “لدي ابنة، وحفيدة في العاشرة من عمرها تدعوني سفتيا، ونحن صديقتان مقربتان”.
* أخبار الأدب.