*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
خاص ( ثقافات )
هل من العجب أن نتطرق على استحياء إلى شاطئ الفلسفة في عصر سمته الرئيسة والأساسية هي السياسة ومشاهدها المتباينة والتي صبغت بألوان تشبه تباينها من إسلام سياسي ، وتيارات ليبرالية ، وفصائل مدنية ، وائتلافات ثورية شبابية ؟ لكن الإجابة لا تقترب من الدهشة ولا تعرف للعجب سبيلاً ، حيث إن السياسة ومظانها ومصارفها ومناشطها ما هي إلا انعكاس لفلسفة محددة ولطرح فكري أيديولوجي يجد في السياسة التطبيق والتنفيذ لمعالمه النظرية المجردة.
لكن ثمة حواجز اصطناعية تكاد تفصل بيئة الفيلسوف عن واقعه السياسي ، وهذه الحواجز هي التي تمثلها المشكلة الأخلاقية كمبحث فلسفي محض، والأخلاق كسمة تحدد بوصلة الفلسفة وهويتها قد نجدها غائبة نسبياً عن ممارسات المشهد السياسي الذي تشوبه الكثير من التجاوزات والنقائص ، بخلاف الفارق الواضح بين الفلسفة والسياسة من حيث التجربة ، فالفلسفة عادة ما تظل بمنأى بعيدة عن التجريب والتنفيذ الحقيقي والحرفي لها ، بيد أن السياسة التي لا تعترف بالنظرة الاستشرافية أو قراءة معطيات الماضي للانطلاق منها فهي قاصرة على الحدث الآني ولا تتعداه إلا من أجل تأكيد فكرة أو التنديد بفكرة أخرى.
وكثيراً ما لجأت السياسة إلى الفلسفة في حالات شتى لاسيما حينما يعاني الخطاب السياسي من الوصول إلى كسب تأييد شعبي أو جماهيري فإنه ساعتها كثيراً ما يلجأ إلى حيل الفسلفة وفتنة المعاني المجردة من أجل تحقيق مزيد من التضليل والتشويش على إخفاق محقق. كذلك وقتما تعاني السياسة وخطابها من انعدام الصراحة وهنا نجد معظم السياسيين يتهافتون بلغة الإمام الغزالي والفيلسوف ابن رشد تجاه الفلسفة وخطابها الغارق في الغموض والتسويف وتعطيل الحكم على أمر ما.
وكثيراً ما حاول المفكرون المعاصرون لاسيما بعد ثورات الربيع العربي أن يعقدوا المقارنات بين الفلسفة والسياسة ومن يمثل كل منهما لإثبات حقيقة فشل الخطاب السياسي أو للتأكيد على قصر نظر السياسي وبعده عن التصور الاستشرافي للأحداث ، وعادة ما تكون المقارنة في صورة مناقب ومثالب بينهما بالتناوب ، حيث توصف السياسة باليقينية في مقابل ظنية الفلسفة التي تميل إلى التشكيك في المظان والمسلمات على السواء ، كما أن السياسة تسير في اتجاه النقد وأحياناً النقض دون العمل على تطوير المذاهب أو التيارات السياسية المعارضة ، بخلاف الفلسفة التي تسير في نفس درب النقد والنقض ، إلا أنها تتميز عن السياسة في كونها تقيم مذهباً على أنقاض مذاهب أخرى .
وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير تغير موقف الفلسفة عن ما قبلها؛ بل إن الفلسفة التي صارت طيلة عقود بعيدة بمنأى عن المشهد السياسي مكتفية بمكانها المعتاد داخل الكتب أو مجرد مناقشات نظرية عقيمة لا تجد لها مكاناً سوى المؤتمرات الورقية أو قاعات المحاضرات الأكاديمية. لكن بعد فشل الخطاب السياسي نتيجة تعدد مشاربه ومذاهبه واختلاف كنه هذا الخطاب بتعدد الوجوه التي تلقيه.وباتت الفلسفة مهيأة للظهور بقوة وهي ترصد المشهد السياسي المصاحب لصعود تيارات الإسلام السياسي والتي لم تستطع بعد التخلص من عقدة تكفير الفلسفة والفلاسفة .
ولكن هذه المرة لم يلجأ الفلاسفة إلى استخدام الأحكام السابقة في كتاب الفلسفة وهم يواجهون تيارات الإسلام السياسي أو وهم يتقمصون دوراً جديداً عليهم ألا وهو دور الناشط السياسي. فقديما اعتاد الفيلسوف على توجيه بعض الاتهامات إلى صدر رجال الدين الدنيوي أو أصحاب التدين الظاهري غير الجوهري من حيث إنهم دنسوا الشريعة بالجهالات وخلطوا التعاليم الدينية الصحيحة بالضلالات ، وأن العودة الصحيحة للشريعة لن تتم إلا عن طريق الفلسفة التي هي حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية . وسرعان ما يسمع أنصار تيار الإسلام السياسي كلمات بعينها مثل اجتهاد وحكمة واعتقاد حتى تثور ثائرتهم وتموج أفئدتهم باضرابات تنتج عنها جملة من الاتهامات نحو الفلسفة والفلاسفة مصيرها الحتمي إلى تكفير كليهما.
وفي الوقت الذي يهاجم فيه شيوخ الفضائيات رجال الفلسفة وأساتذتها نجد هؤلاء يصدرون حكماً قاطعاً بأن رجال الدين الفضائيين نسبة إلى القنوات والمنابر الفضائية يستدرجون قلوب الحمقى بواسطة دعاوى باطلة. ويبدو أن الفلاسفة لم يريدوا اقتصار ظهورهم الاستثنائي عقب ثورة يناير على مهاجمة بعض رجال الدين فحسب ، بل امتد هذا الهجوم حتى طال رجال السياسة أيضاً ، فهم يؤكدون على أن مصر استيقظت بعد الثورة على حقيقة مفادها تخلفها السياسي بدليل غموض الخطاب السياسي وقصور الاتحاد في الكلمة والفعل والتوجه.
والمشكلة الحقيقية التي تواجه الفلسفة والفلاسفة الأيام الآنية هي عدم وجود تنظيم سياسي للفلسفة مما يجعلها في نظر كافة التيارات الدينية المنتشرة في مصر الآن فتنة وإغواء ومجرد محض أفكار نظرية لا تقدم للواقع جديداً رغم أن للفلسفة نظرة حاسمة في بناء الدولة وهو الأمر الذي يشغل المصريون اليوم ، فبينما يرى فلاسفة هذا العصر أن الدولة كائن حي له حياته ومراحله وهم في ذلك يعملون على فضح ومقاومة كل أشكال الهيمنة ، يجتهد الآخرون المناوئون للفلسفة على تهميشهما وتهميش أصحابها ويظنون أنهم بعيدون تمام البعد عن المشهد السياسي ، ولكن ثمة ظاهرة قوية توضح مدى المشاركة الفلسفية للمشهد السياسي الراهن وهي أنها وحدها دون السياسيين قادرة على صياغة الظلم والعجز الذي يعانيه المجتمع في صورة دلالات نظرية .
والحقيقة المشاهدة اليوم أن كثيراً من المشتغلين بالفلسفة قرروا النزول من أبراجهم العاجية بغير شروط مسبقة وهم على غير علم بالمشهد السياسي سوى ما تبثه الفضائيات من أخبار ولكن جاء قرار النزول هذا نتيجة طبيعة للمشاركة في النهوض بالبلاد والعباد لا سيما وأن المشهد السياسي اليوم ارتبط بقضية إمامة العقل وهيمنته على الإحداثيات السياسية التي لا بد وارتباطها بالأمور الدينية، وقرار ارتداء مستخدم الفلسفة لثوب الناشط السياسي بالفعل سيخدمه كثيراً حيث إنه الأجدر بالتأويل والتحليل واستقرار المشاهد واستنباط النتائج بخلاف سياسي الشارع الذي يتعامل مع الموقف السياسي تماماً مثلما يتعامل لاعب الكرة مع ضربة الجزاء المفاجئة.وليس من قبيل التحيز أن أجدني أكثر تعاطفاً مع مستخدمي الفلسفة حينما يقررون أن ينضموا إلى صفوف الناشطين السياسيين ذلك لأنهم أكثر كفاءة في قراءة وقائع الزمان واستقراء فن وقائع الحياة برمتها من ناحية التعيين والتوقيت.
المهم هو هل يقبل السياسيون مشاركة الفلاسفة أو بالأحرى مستخدمي الفلسفة في صناعة المشهد السياسي؟ ربما تأتي الإجابة الحتمية بالنفي بل وربما إعلان السياسيين العصيان بشأن هذه المشاركة ، لاسيما وهم يسأمون من منطقة الأمور وعرض القرار السياسي على موائد المناقشة حتى وإن كانوا ليل نهار ينادون بذلك لكن هم في الحقيقة يجدون حرجاً في تجاذب أطراف المناقشة السياسية لاسيما وأن أهل الفلسفة عادة ما يتسلحون بمعايير قيمية ترتبط بالماضي وتستشرف المستقبل.
واللافت للنظر في دخول الفلاسفة المعترك السياسي هو استمرار معاناتهم من أصحاب التيارات الدينية والمعممين الذين يجدون غضاضة في كلام الفلسفة ، فالمعلوم أن الفلسفة والفلاسفة عانيا كثيراً من الاضطهاد طيلة قرون مضت ، ولايزال الاضطهاد مستمراً حتى صار إلى اليوم في صورة استبعاد اجتماعي وسياسي بحجة أن للفلسفة إغواء وأفكاراً ضالة يجب محاربتها ، لذلك فليس بعجيب أن نرى بعض المتشدقين من الدعاة الذين فشلوا في الدعوة فلجأوا إلى حيل السياسة وأفانينها وهم يدشنون حملات التشويه ضد الفلسفة والمفكرين وكل ما يؤسس لدولة العقل لا النقل.
وكثيرا ما يلجأ السياسيون إلى رجال الدين الذين على شاكلتهم من أجل تعضيد موقفهم إزاء مشاركة المفكرين والفلاسفة في إحداثيات المشهد السياسي وهم على خوف من ما يمتلكه المفكرون من آليات قد تكشف سريعاً زيف السياسة وألاعيبها وبالتالي تقليص فرصة سيطرة رجال السياسة على عقول العامة ، لذا فالسياسيون كانوا مطمئين جد اطمئنان وهم يراقبون عزلة المفكرين وبعدهم عن عقول العامة ولكن عندما قرر بعض المفكرين ورجال الفلسفة الالتحام بقضايا الوطن وارتدائهم ثوب الناشط السياسي كان عليهم الترقب المحفوف بالحذر والحيطة مع قليل من تشويه آرائهم وأفكارهم بحجة أنها تضلل المجتمع وتفسد قيمه وأخلاقه واستندوا على ذلك بسير بعض الفلاسفة المارقين والمعترضين على بعض معالم الشريعة .
وثمة قلق آخر يعتري الساسة في مصر ، وهو امتلاك مفردات المصطلح السياسي وهذا الأمر هو ما ينفرد به المفكرون ، فرجال الفكر والفلسفة لهم اجتهاد خاص في وضع وتحديد المصطلح عامة والسياسي بوجه خاص ، ويكفي أن ثورة الخامس والعشرين من يناير ألجأت الكثيرين من الناس للتفتيش عن دلالات بعض المصطلحات السياسية التي ارتبطت بمشهد الثورة الجميل ، من هذه المصطلحات ائتلاف واستفتاء دستوري ، وتصويت ، وتكنوقراط ، والحقوق المدنية،وحكومة ائتلافية، وراديكالية،والشرعية،ووأخيراً النخبة.
ورغم أن هذه المصطلحات وغيرها من المصطلحات كانت متداولة أثناء عقود مبارك ونظامه الحاكم إلا أن المواطن العادي لم يكن مكترثاً وقتها بدلالة كل مصطلح ، لكن بعد تفشي السياسة بين عموم المصريين حتى كادت من أبرز سماتهم الحصرية بعد الثورة بات من اليقين أن ينهض كل مواطن للتنقيب عن دلالة المصطلحات من أجل تحقيق الكفاءة في استخدامها وسط الحديث اليومي له. وهذا أيضاً يشكل قلقاً لدى الساسة حيث إن قاموس المصطلحات لديهم يبدو عشوائياً رهن استخدامه ، بخلاف المفكر أو رجل الفلسفة الذي يسعى إلى ترتيب أولويات حديثه وتحديد المناطق التي ستناولها بالعرض والمناقشة واستخلاص النتائج ، وهذا الامتلاك من شأنه أن يعطي الفيلسوف قدرة فائقة على توصيف المشهد وعناصره بخلاف السياسي الذي عادة ما يخرج عن هدوئه النسبي ليهاجم خصومه وتوجيه الاتهامات إليه ، وكتب التاريخ نفسها تثبت مواقف رجال السياسة تجاه المفكرين والفلاسفة المُعادي.
________
*مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا