الفن الأدبي والدلالة الفكرية



د.عماد الضمور*



أوّل ما يُلفت نظر المتلقي في كتاب «عتبات المستقبل.. سيرة كفاح وسيرورة وطن» للكاتب فيصل غرايبة (دار يافا العلمية)، هو أدبية العنوانات الفرعية وشاعريتها. فالعنوان المؤسِّس «عتبات المستقبل.. سيرة كفاح وسيرورة وطن» ذو طبيعة شعريّة انتشارية مارس غرايبة معها انزياحات واضحة في التركيب اللغوي (عتبات المستقبل)، إذ يجعل للمستقبل عتبات، وهذا يُخالف ما هو مألوف في التركيب اللغوي كأن نقول مثلاً: «آفاق المستقبل»، أو إضافة كلمة «عتبات» إلى كلمة «البيت». لكن أن يكون للمستقبل عتبات، فهذا لا يتأتى إلا في لغة شعريّة تكشف عن وجد كاتبها وانفعالاته وآماله المسبقة التي حتّمت عليه أن يجعل للمستقبل عتبات.
وهذا يقود أيضاً –وضمناً- إلى المسافة بين الواقع والمستقبل، فمن الناحية الزمنية لا يلتقي الزمانان، بل يقود أولهُما (الواقع) إلى الثاني (المستقبل)، لذلك فإنّ وجود هذه العتبات يعكس مدى صعوبة المرحلة وضرورة الصبر والتحمّل بغية الوصول إلى المأمول.
وينعكس هذا العنوان المركزي في العنوانات الثانوية التي جعلها غرايبة في ثلاث عشرة عتبة لا تخلو من لغة تصعيدية ذات طبيعة انتشارية في مضامين الكتاب، فنقرأ مثلاً: «لدى عروس الشمال»، «من قاسيون أطل يا وطني»، «في عمّان موضع الطموح»، «في بيت العرب في تونس الخضراء»، «لا بدّ من عمّان وإن طال الغياب»، «في أعماق المجتمع»، «شموع على المسالك»، و»قبل أن يُسدل الستار».
يُفضي عنوان الكتاب إلى ما يشي بفن السيرة الذاتية (سيرة كفاح وسيرورة وطن)، وهذا ما يمنح الكتاب مشروعية الفن الأدبي ذي الدلالة الفكرية، فهو يُقدم الأفكار المتّقدة التي أفضت بها حصيلة تجربة حياتيّة وفكرية خصبة. فما أجمل أن يصيغ المبدع رؤاه وأفكاره في قالب إبدعي يحفظ للفكرة أصالتها وجذوتها، ويعيد صياغة الواقع برؤى معاصرة قابلة للتشكّل في وجدان المتلقي. و»عتبات المستقبل» تعاين وترصد سماتِ زمنٍ قادم انطلاقاً من تناقضات وإخفاقات زمن واقع، وهذا ما يضع النص المكتوب أمام سلطة الزمن وتحدياته.
ثاني هذه الإضاءات، الفكر الوطني المكلل بالقومية لدى الكاتب. إذ ينطلق غرايبة في «عتبات المستقبل.. سيرة كفاح وسيرورة وطن» من بُعد وطني واضح، فالوطنية هي حبّ الوطن ، والشعور بارتباط باطني نحوه. وبحسب ساطع الحصري، يضيق هذا المفهوم أو يتسع في الرقعة والمكان، فيرتبط أحياناً بمسقط الرأس أو الوطن الذي ينتسب إليه الإنسان، ويتفتّح أحياناً على العالم كله، ليكتسب طابع الإنسانية في معناها الواسع العريض، وكثيراً ما يربط بعضهم معنى «الوطنية» بمفهوم عرقي أو عقائدي، كالوطن العربي أو الوطن الإسلامي، ولكن كلمة «الوطن» تذوب معها كلّ الفوارق الاجتماعية عرْقاً وعقيدةً ولوناً.
لعلّ هذا الفكر القومي يضع النصوص المكتوبة ضمن دائرة الالتزام في الأدب والفكر معاً، هذا الالتزام الذي يجعل الكاتبَ ينطلق ليرسم ملامح المرحلة المقبلة راصداً وموجّهاً ومتلقيّاً للأحداث بكلّ يقظة متفاعلاً معها محاولاً إيجاد الحلول وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا يضع النصوص المكتوبة في دائرة المواجهة والتحدي بعيداً عن الخنوع والاستسلام.
من جهة أخرى، يقترب الكاتب في بعض أجزاء الكتاب من فن السيرة الذي يختطّه في عرضه للموضوعات، فهو يحكي سيرة ذاتية، وسيرة فكرية وسيرة مكانية، إذ اختزل الكاتب الأزمنة -الماضي والحاضر والمستقبل- في زمن واحد، هو زمن الإنجاز والتفوق بعدما وجد في الماضي أصالة، وفي الواقع انهياراً وإخفاقاً، وفي المستقبل وعداً وأملاً جميلاً بالنهوض.
إربد عاصمة الشمال الأردني بدأت تشيخ وتترهل بالتوسع والانتشار العمراني، حتى إن الكاتب أصبح يُسميها «عجوز الشمال». كذلك الجهاز الإداري للدولة، أخذ يترهل ويشيع فيه الفساد بعدما كان مثالاً للإنجاز. والوطن العربي بدأ بالتراجع والانحسار بعدما كان منارة حضارة. وهكذا، فإنّ الكاتب جريء بتعرية الواقع وكشف عيوبه، ومبدع في محاولة تحريره من كبوته.
ويعرض الكاتب لسيرة والده وعشيرته من خلال حديثه عن سيرته الذاتية وسيرة مدينته إربد، فنرصد ملامح مهمة لطفولته ويقظة المكان. ونقرأ في الكتاب سيرة الجامعة الأردنية في سنوات تأسيسها الأولى، وأفق التحولات الدولية في فترة الستينيات من القرن المنصرم.
إنّ تصنيف كتاب «عتبات المستقبل.. سيرة كفاح وسيرورة وطن» ضمن حقل معرفي مجرد، قد يقود إلى الإخلال بحقول معرفيّة أخرى، فلا يمكن الاطمئنان إلى عدّه كتاباً في فن السيرة رغم توافر عنصر السرد، وسطوة ضمير المتكلم، والبوح، إذ إنّ الحصيلة المعرفية تبدو أكثر خِصباً وتوغلاً في حقول معرفية أخرى كالسياسة والاقتصاد والاجتماع.
كما لا يمكن التسليم بأن الكتاب يمكن وضعه في حقل التاريخ والاجتماع بوصفهما علْمين مجردين. لكن هذا الكتاب يأتلف فيه الشخصي الذاتي بالموضوعي الوطني حيناً، والقومي حيناً آخر، والإنساني بشكل عام. 
إنّه مزيج من فكر ومعرفة وأدب وعلوم أراد له كاتبه د.فيصل غرايبة أن يكون شهادة حيّة على عصر كان هو أحد الفاعلين فيه من خلال سرده سيرةَ مكان حيناً وسيرته الذاتية حيناً آخر.
إن ّ»عتبات المستقبل» كتاب في الفكر والأدب والتاريخ والمجتمع المدني يدافع عن الموضوعية والعقلانية وسلطة العقل وقيم العدل والمساواة بعيداً عن الاختلال المجتمعي والاقتصادي والسياسي الذي يحياه العالم.
لقد جاء كتاب «عتبات المستقبل» علامة مميّزة في رحلة فيصل غرايبة الإبداعية في مجال الكتابة والتأليف، وبخاصة في الخدمة الاجتماعية وتخصص الكاتب في شؤون الشباب وقضاياه، فالكتاب يكشف عن تفاصيل حياتيّة وفكرية مهمة عاشها، وانبعثت في فكره وإبداعه فيضاً دافئاً ووجداً صادقاً يلامس معاناة الواقع وهموم معاصريه، فضلاً عن أن الكتاب مدونة إبداعية تضم بين صفحاتها فكراً وعلماً ومعرفة تتطابق في مفرداتها مع فكر الكاتب ومنهجه الحياتي.
يتوقف القارئ عند محطات مهمة من حياة الكاتب، تفك مغاليق كثير من قضايا الحياة المعاصرة: الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية. إذ نهضت لغة الكتاب من وظيفتها الشكلية الظاهرة إلى وظيفة وصفية باطنية لما سيأتي من أحداث.
ويكشف غرايبه في كتابه عن مصدر مهم لإبداعه، وهو الواقع بإحداثه وتغيراته، والمكان بوجده وروحه وألقه، والوطن بمفهومه الشمولي المنضوي تحت نشيد «بلاد العرب أوطاني»، ممّا يعكس شعوراً متأصلاً في فكر الكاتب يوجّه كتابته ويطلق لعباراته العنان متجاوزاً اللغة التقريرية إلى لغة البوح المغلفة بالألم لما يجري والأمل بمستقبل يمكن للأجيال صياغته بعزيمة وهمة عالية.
يغطي الكتاب فترة مهمة من التاريخ الشخصي لـغرايبة، أو بالأحرى فترة مهمة من تاريخ الوطن العربي من خلال الحديث عن سوريا وعُمان والبحرين والمغرب وتونس وغيرها من البلاد العربية المرتبطة بالأحداث الدولية كما رآها الكاتب، إذ تمتد هذه الأحداث منذ الأربعينيات من القرن الماضي حتى وقتنا المعاصر، وهي فترة طويلة نسبياً يسترجع الكاتب أحداثها بعين متفرّسة ناقدة حاذقة تحاول القبض على ما يرسم رؤى المستقبل والغد الحالم. 
الأمة العربية حصن الكاتب المنيع، تتبدّى في كتابه بطابع مقدس تتجاوز طبيعتها الجغرافية إلى كينونتها الملهمة لتتخذ جانباً روحيّاً مقدساً. إنّه دائم البحث عن الأمة العربية لاستعادة وجودها، فالكاتب لم يستطع التخلص من وطأة الواقع وآلامه ممّا جعل كتابه يتوافر على قيمة فكرية واضحة. وعليه، فإن الكتاب يحقق جزءاً كبيراً من شروط السيرة الذاتية والمذكرات الشخصية، فهو يقدم نصا محكيّاً بأسلوب ذاتي، يستعيد فيه جزءاً من واقعه المسرود، يتطابق فيه السارد مع الشخصية المسرودة من منظور استعادي للكلام، فالموضوع أساساً هو الحياة الفردية وتكوّن الشخصية المبدعة للنص من خلال عرض محطات لحياتها، فضلاً عن اشتمالها على جانب مهم يتضمن عنصر التعاقب الزمني والتاريخ الاجتماعي والسياسي.
هذه بعض إضاءات حول كتابٍ لمفكر اصطبغت حياتُه بالرؤى القومية المتّقدة التي تتدفق حبّاً ووجداً للوطن والأمة العربية، فضلاً عن كونها منبع علم خصب تفجرّت ينابيعه في محافل العلم فكانت مشاعلَ أنارت الطريق للسالكين.

* الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *