محمد البرديسي
خاص ( ثقافات )
“فلو تُعُهِّدت مصر وتوفَّرت فيها أدوات العمران لكانت سلطان المدن ورئيسة بلاد الدنيا”
رفاعة الطهطاوي.. تخليص الإبريز في تلخيص باريز
يذكره الأزهريون على أنه ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم، كلهم يتوجع لفقده ويشيد بذكره. ولا يكون ذلك إلا لعظيم، فأخذ الأفاضل في رثائه بالقصائد، وبقيت آثاره خالدة تعظم وتتزايد وتتوالد، رحمه الله فقد صنع لأمته كثيراً.”
كان كما قيل عنه بحق: “أحد الجسور التي عبرت عليها الأمة العربية من القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، إذ حاول مع الطليعة الواعية أن يوقد نار الحضارة وأن يبعث من جديد أوارها العربي، وبالتالي أن يدفع في جسد الأمة العربية بدفقة دم حَارّة…”
“رائد التنوير في العصر الحديث”
كان للمصريين، بل للعرب، أباً، وكان الجسر الذي انتقل بالأمة من حال إلى حال، والذي كان عظيماً فيما علّم وعمِل وفيما ترجم وألف، فاهتزت مصر لموته كما لم تهتز لفقد أحد من قبله.
إنه رفاعة رافع الطهطاوي الذي يُعَدُّ رائداً من الرواد الذين أرسوا النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في القرن التاسع عشر في مصر، بعد أن عاشت فترة طويلة من التخلف الحضاري والجمود الفكري. وقد تميز عمله بأمور عدة جعلت منه رمزاً لليقظة الوطنية القومية، ذلك أنه أراد تخليص العقول من الجهل وبناء الإنسان الجديد، فقد عمل ذلك بصدق وعزيمة وإخلاص، لا تغريه منفعة ولا يرهبه تعسف، ولا يقعده عناء، وكرس حياته كلها لبلوغ القصد.
أية أرض أنبتت هذا الرجل، وأي زمان احتضنه، وأية ظروف اجتماعية وثقافية حاقت به، وماذا أخذ وماذا أعطى، وأي أثر رسم على خريطة المكان والزمان.
مصري صميم
ولد رفاعة رافع الطهطاوي في مدينة طهطا، محافظة سوهاج بصعيد مصر في 7 جمادى الثانية سنة 1216هـ الموافق 15 أكتوبر سنة 1801م،
نشأ في أسرة كريمة الأصل شريفة النسب، فأبوه ينتهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.
وأمه فاطمة بنت الشيخ أحمد الفرغلي، ينتهي نسبها إلى قبيلة الخزرج الأنصارية..
لقي رفاعة عناية أبيه، على الرغم من تنقله بين عدة مدن في صعيد مصر، فحفظ القرآن الكريم، ثم رجع إلى موطنه طهطا بعد أن توفي والده، فلقي من أسرة أخواله اهتماماً كبيراً حيث كانت زاخرة بالشيوخ والعلماء فحفظ على أيديهم المتون التي كانت متداولة في هذا العصر، وقرأ عليهم شيئاً من الفقه والنحو.
ولما بلغ السادسة عشرة من عمره التحق بالأزهر، وذلك في سنة (1232 هـ/ 1817م)، متسلحاً بما تعلمه على يد أخواله، الأمر الذي ساعده على مواصلة الدراسة مع زملائه الذين سبقوه في الالتحاق بالأزهر. وشملت دراسته في الأزهر الحديث والفقه والتصوف والتفسير والنحو والصرف… وغير ذلك. وتتلمذ عل يد عدد من علماء الأزهر العظام، وكان من بينهم من تولى مشيخة الجامع الأزهر، مثل الشيخ حسن القويسني، وإبراهيم البيجوري، وحسن العطار، وكان هذا الأخير ممن وثق الطهطاوي صلته بهم ولازمهم وتأثر بهم. وتميز الشيخ العطار عن أقرانه من علماء عصره بالنظر في العلوم الأخرى غير الشرعية واللغوية، كالتاريخ والجغرافيا والطب، واستفاد من رحلاته الكثيرة واتصاله بعلماء الحملة الفرنسية. وبعد أن أمضى رفاعة في الأزهر ست سنوات، جلس للتدريس فيه سنة (1237 هـ/ 1821 م) وهو في الحادية والعشرين من عمره، والتف حوله الطلبة يتلقون عنه علوم المنطق والحديث والبلاغة والعروض، وكان آسراً في الشرح فجعل الطلبة يتعلقون به ويقبلون على درسه، ثم ترك التدريس بعد عامين والتحق بالجيش المصري النظامي الذي أنشأه محمد علي إماماً وواعظاً لإحدى فرقه، واستفاد من هذه الفترة الدقة والنظام.
وكان أهم أستاذ تتلمذ على يديه رفاعة الطهطاوي هو الشيخ حسن العطار المولود 1766م – 1835م تولى الشيخ العطار مشيخة الأزهر سنة 1830م (1246هـ).. تلقى تعليمه على أيدي نخبة من العلماء منهم الشيخان الأمير والصبان وتخصص في علم المنطق وكانت له معارف واسعة في علم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى وكان شاعراً.. يعده البعض رائداً من رواد النهضة العربية الحديثة حيث تتلمذ على يديه جيل من الرواد كرفاعة الطهطاوي والأديب واللغوي محمد عياد الطنطاوي الذي هاجر إلى روسيا عام 1840م وتخرج على يديه عدد كبير من المستشرقين في مدينة بطرسبرج الذين تلقوا علوم اللغة العربية وآدابها وظل هناك حتى توفي في سانت بطرسبرج سنة 1861م
أنشأ الشيخ حسن العطار جريدة الوقائع المصرية ورأس تحريرها
وكان يتردد على المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون عقب احتلاله لمصر سنة 1798م وكانت له علاقة حميمة مع حاكم مصر محمد علي باشا وقد أدى ذلك إلى اتهامه من قبل بعض العلماء أنه مهادن لمحمد علي وكان يبرر ذلك أنه يريد مصلحة الأزهر.
وكان لرفاعة الطهطاوي امتياز خاص عند أستاذه الشيخ العطار إذ كان يلازمه في غير الدروس ليتلقى عنه علوماً أخرى كالتاريخ والجغرافيا والأدب، وكان يشترك معه في الاطلاع على الكتب الغربية التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر. ومعلوم أن الشيخ العطار هو الذي رشح رفاعة الطهطاوي للسفر إلى باريس وزكاه عند محمد علي باشا.
في سنة (1826م) قررت الحكومة المصرية إيفاد بعثة علمية كبيرة إلى فرنسا لدراسة العلوم والمعارف الإنسانية، في الإدارة والهندسة الحربية، والكيمياء، والطب البشري والبيطري، وعلوم البحرية، والزراعة والعمارة والمعادن والتاريخ الطبيعي. وبالإضافة إلى هذه التخصصات يدرسون جميعاً اللغة والحساب والرسم والتاريخ والجغرافيا.
وتنوع تخصصات هذه البعثة يشير إلى عزم حاكم محمد علي النهوض بمصر والدفع بها إلى مصاف الدول المتقدمة، والوقوف على الحضارة الأوروبية الحديثة.
وحرصاً على أعضاء البعثة من الذوبان في المجتمع الغربي قرر محمد علي أن يصحبهم ثلاثة من علماء الأزهر الشريف لإمامتهم في الصلاة ووعظهم وإرشادهم. وكان رفاعة الطهطاوي واحداً من هؤلاء الثلاثة، ورشحه لذلك شيخه حسن العطار.
وما إن تحركت السفينة التي تحمل أعضاء البعثة حتى بدأ الطهطاوي في تعلم الفرنسية في جدية ظاهرة، وكأنه يعد نفسه ليكون ضمن أعضاء البعثة لا أن يكون مرشدها وإمامها فحسب، ثم استكمل تعلم الفرنسية بعدما نزلت البعثة باريس؛ حيث استأجر لنفسه معلماً خاصاً يعطيه دروساً في الفرنسية نظير بضعة فرنكات كان يستقطعها من مصروفه الشخصي الذي كانت تقدمه له إدارة البعثة، وأخذ يشتري كتباً خاصة إضافية غير مدرجة في البرنامج الدراسي، وانهمك في قراءتها. ومن شدة حرصه على مداومة القراءة والدرس تأثرت عينه اليسرى، ونصحه الطبيب بعدم الاطلاع ليلاً، لكنه لم يستجب لنصحه، واستمر في إشباع نهمه للمعرفة. وأمام هذه الرغبة الجامحة في التعلم قررت الحكومة المصرية ضم رفاعة إلى بعثتها التعليمية، وأن يتخصص في الترجمة؛ لتفوقه على زملائه في اللغة العربية والثقافة الأزهرية. ولقي الفتى النابه عناية العالم الفرنسي جومار الذي عهد إليه محمد علي بالإشراف العلمي على البعثة، ومن المستشرق الفرنسي الكبير دي ساسي، واجتاز كل الامتحانات التي عقدت له بنجاح باهر، وكانت التقارير التي ترسل إلى محمد علي تتابع أخبار البعثة تخص رفاعة بالثناء والتقدير.
وتتلمذ على أيدي أنبه علماء فرنسا في ذلك الوقت. وبعد خمسٍ سنوات حافلة، أدى رفاعة امتحان الترجمة، وقدَّم مخطوطة كتابه الذي نال بعد ذلك شهرة واسعة: تَخْلِيصُ الإِبْرِيزِ في تَلْخِيصِ بَارِيز.
وبلغ عدد من أرسلهم محمد علي باشا إلى أوروبا في زمنه 319 طالباً. واستطاع هؤلاء التلاميذ أن يكونوا قادة المجتمع وساهموا بشكل فعال في تغيير وجه المجتمع المصري على كل الأصعدة والميادين الحياتية، كما ساهموا في تغيير بنية المجتمع العقدية والفكرية هم وتلامذتهم الذين جاؤوا من بعدهم تماماً كما أراد محمد علي باشا ومستشاروه.
العودة إلى مصر..
عاد الطهطاوي إلى مصر سنة 1832م مع بعثته وكانت قد سبقته إلى محمد علي تقارير أساتذته في فرنسا تحكي تفوقه وامتيازه وتعلق عليه الآمال.
وكانت أولى الوظائف التي تولاها بعد عودته من باريس، وظيفة مترجم بمدرسة الطب.
وفي سنة 1833 انتقل رفاعة الطهطاوي من مدرسة الطب إلى مدرسة المدفعية (الطوبجية) بمنطقة (طره) إحدى ضواحي القاهرة كي يعمل مترجماً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.
وأنشأ أول صحيفة أخبار في الديار المصرية حيث قام بتغيير شكل جريدة (الوقائع المصرية) التي صدر عددها الأول في سنة 3 ديسمبر 1828م أي عندما كان الطهطاوي في باريس لكنه لما عاد تولى الإشراف عليها سنة 1842م وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية حيث جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وأول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع، وأصبح للجريدة في عهده محررون من الكتاب كان من أبرزهم أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين.
وفى هذه الفترة تولى رفاعة الطهطاوي المشروع الثقافي الكبير ؛ ووضع الأساس لحركة النهضة التي صارت إلي يومنا هذا، بعد عشرات السنين إشكالاً نصوغه، ونختلف حوله يسمى الأصالة أم المعاصرة! كان رفاعة أصيلاً ومعاصراً من دون إشكالٍ ولا اختلاف، ففي الوقت الذي ترجم فيه متون الفلسفة والتاريخ الغربي، ونصوص العلم الأوروبي المتقدِّم؛ نراه يبدأ في جمع الآثار المصرية القديمة ويستصدر أمراً لصيانتها ومنعها من التهريب والضياع.
وظل جهد رفاعة يتنامى؛ تخطيطاً، وترجمةً، وإشرافاً على التعليم والصحافة.. فأنشأ أقساماً متخصِّصة لترجمة (الرياضيات – الطبيعيات – الإنسانيات)، وأنشأ مدرسة المحاسبة لدراسة الاقتصاد، ومدرسة الإدارة لدراسة العلوم السياسية. وكانت ضمن مفاخره: استصدار قرار تدريس العلوم والمعارف باللغة العربية وهي العلوم والمعارف التي تدرَّس اليوم في بلادنا باللغات الأجنبية، هذا إلى جانب عشرين كتاباً من ترجمته، وعشرات غيرها أشرف على ترجمتها.
مشروع المدرسة العليا لتعليم اللغات الأجنبية..
كان رفاعة الطهطاوي يأمل في إنشاء مدرسة عليا لتعليم اللغات الأجنبية، وإعداد طبقة من المترجمين المجيدين يقومون بترجمة ما تنتفع به الدولة من كتب الغرب، وتقدم باقتراحه إلى محمد علي ونجح في إقناعه بإنشاء مدرسة للمترجمين عرفت بمدرسة الألسن، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات، تزاد إلى ست. وافتتحت المدرسة بالقاهرة سنة (1835م)، وتولى رفاعة الطهطاوي نظارتها، وكانت تضم في أول أمرها فصولاً لتدريس اللغة الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والتركية والفارسية، إلى جانب الهندسة والجبر والتاريخ والجغرافيا والشريعة الإسلامية. وقد بذل رفاعة جهداً عظيماً في إدارته للمدرسة، وكان يعمل فيها عمل أصحاب الرسالات يشرح لهم الأدب والشرائع الإسلامية والغربية. وقد تخرجت الدفعة الأولى في المدرسة سنة (1839م) وكان عددها عشرين خريجاً، وكانت مترجمات هؤلاء الخريجين قد طبعت أو في طريقها إلى الطباعة. واتسعت مدرسة الألسن، فضمت قسماً لدراسة الإدارة العمومية سنة (1844م)، لإعداد الموظفين للعمل بالإدارة الحكومية، وقسماً آخر لدراسة الإدارة الزراعية بعد ذلك بعامين، كما ضمت قسماً أنشئ سنة (1847م) لدراسة الشريعة الإسلامية على مذهب أبي حنيفة النعمان لإعداد القضاة، وأصبحت بذلك مدرسة الألسن أشبه بجامعة تضم كليات تماثل كليات الآداب والحقوق والتجارة حالياً.
وكان رفاعة الطهطاوي يقوم إلى جانب إدارته الفنية للمدرسة باختيار الكتب التي يترجمها تلاميذ المدرسة، ومراجعتها وإصلاح ترجمتها.
(عهد الخديوي عباس الأول)
ظلت مدرسة الألسن خمسة عشر عاماً مشعلاً للعلم، ومنارة للمعرفة، ومكاناً لالتقاء الثقافتين العربية والغربية، إلى أن عصفت بها يد الحاكم الجديد عباس الأول، فقام بإغلاقها لعدم رضاه عن سياسة جده محمد علي وعمه إبراهيم باشا وذلك في سنة (1849م)، وأمر بإرسال رفاعة إلى السودان بحجة توليه نظارة مدرسة ابتدائية يقوم بإنشائها هناك، فتلقى رفاعة الأمر بجلد وصبر، وذهب إلى هناك، وظل فترة دون عمل استغلها في ترجمة رواية فرنسية شهيرة بعنوان “مغامرات تلماك”، ثم قام بإنشاء المدرسة الابتدائية، وكان عدد المنتظمين بها نحو أربعين تلميذاً، ولم يستنكف المربي الكبير أن يدير هذه المدرسة الصغيرة، ويتعهد نجباءها برعاية خاصة.
“عهد سعيد باشا”
وبعد وفاة عباس الأول سنة (1854م) عاد الطهطاوي إلى القاهرة، وأسندت إليه في عهد الوالي الجديد عدة مناصب، فتولى نظارة المدرسة الحربية التي أنشأها سعيد لتخريج ضباط أركان حرب الجيش سنة (1856م)،عني بها الطهطاوي عناية خاصة، وجعل دراسة اللغة العربية بها إجبارية على جميع الطلبة، وأعطى لهم حرية اختيار إحدى اللغتين الشرقيتين: التركية أو الفارسية، مع إحدى اللغات الأوربية الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، ثم أنشأ بها فرقة خاصة لدراسة المحاسبة، وقلماً للترجمة برئاسة تلميذه وكاتب سيرته صالح مجدي، وأصبحت المدرسة الحربية قريبة الشبه بما كانت عليه مدرسة الألسن.
لم يكتف رفاعة بهذه الأعمال العظيمة، فسعى إلى إنجاز أول مشروع لإحياء التراث العربي الإسلامي، ونجح في إقناع الحكومة بطبع عدة كتب من عيون التراث العربي على نفقتها، مثل تفسير القرآن للفخر الرازي، ومعاهد التنصيص على شواهد التلخيص في البلاغة، وخزانة الأدب للبغدادي، ومقامات الحريري، وغير ذلك من الكتب نادرة الوجود في ذلك الوقت. غير أن هذا النشاط الدؤوب تعرض للتوقف سنة (1861م)، حيث خرج رفاعة من الخدمة، وألغيت مدرسة أركان الحرب، وظل عاطلاً عن العمل حتى تولى الخديوي إسماعيل الحكم سنة (1863م)، فعاد رفاعة إلى ما كان عليه من عمل ونشاط على الرغم من تقدمه في السن، واقتحم مجالات التربية والتعليم يأخذ بيد أمته إلى مدارج الرقي والتقدم، فأشرف على تدريس اللغة العربية بالمدارس، واختيار مدرسيها وتوجيههم، والكتب الدراسية المقررة، ورئاسة كثير من لجان امتحانات المدارس الأجنبية والمصرية.
(عهد الخديوي إسماعيل)
ومن أبرز الأعمال التي قام بها رفاعة في عهد الخديوي إسماعيل نظارته لقلم الترجمة الذي أنشئ سنة (1863م) لترجمة القوانين الفرنسية، ولم يكن هناك من المترجمين سوى تلاميذ الطهطاوي من خريجي مدرسة الألسن، فاستعان بهم في قلم الترجمة، ومن هؤلاء: عبد الله السيد وصالح مجدي ومحمد قدري. وكان مقر قلم الترجمة حجرة واحدة بديوان المدارس، فترجموا القانون الفرنسي في عدة مجلدات وطبع في مطبعة بولاق، ولم تكن هذه المهمة يسيرة، إذ كانت تتطلب إلماماً واسعاً بالقوانين الفرنسية وبأحكام الشريعة الإسلامية، لاختيار المصطلحات الفقهية المطابقة لمثيلاتها في القانون الفرنسي.
وعهد إلى الطهطاوي إصدار مجلة روضة المدارس، سنة (1870م) فجعلها منارة لتعليم الأمة ونشر الثقافة فنظمها أقساماً، وجعل على رأس كل قسم واحداً من كبار العلماء من أمثال الأديب الكبير عبد الله فكري، والعالم الرياضي والفلكي إسماعيل الفلكي، والقانوني الضليع محمد باشا قدري، وصالح مجدي، والشيخ الفقيه الحنفي المعروف حسونة النواوي، وغيرهم. وكانت المجلة تنشر مقالات تاريخية وجغرافية واجتماعية وصحية وأدبية وقصصاً وأشعارا، كما كانت تنشر ملخصاً لكثير من الدروس التي كانت تلقى بمدرسة دار العلوم.
واعتادت المجلة أن تلحق بأعدادها كتباً ألفت لها على أجزاء توزع مع كل عدد من أعدادها بحيث تكون في النهاية كتاباً مستقلاً، فنشرت كتاب “آثار الأفكار ومنثور الأزهار” لعبد الله فكري، و”حقائق الأخبار في أوصاف البحار” لعلي مبارك، و”الصحة التامة والمنحة العامة” للدكتور محمد بدر، و”القول السديد في الاجتهاد والتجديد” للطهطاوي.
كان رفاعة في السبعين حين ولي أمر مجلة الروضة، لكنه ظل مشتعل الذكاء وقاد الفكر، لم تنل الشيخوخة من عزيمته، فظل يكتب فيها مباحث ومقالات حتى توفي في 27 من مايو 1873م.
ومن الجدير بالذكر أنه أول من أنشأ متحفاً للآثار بمصر.
بدأ رفاعة إنتاجه الفكري منذ أن كان مبعوثاً في فرنسا، ومن أهم كتبه:
– مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية.
– المرشد الأمين في تربية البنات والبنين.
– أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل.
– نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز.
وهو آخر كتاب ألفه الطهطاوي، وسلك فيه مسلكاً جديداً في تأليف السيرة النبوية تبعه فيه المحدثون، وعشرات الكتب والأبحاث والقصائد والمنظومات الشعرية من علوم شرعية ولغوية وأشعار وطنية.
أما الكتب التي قام بترجمتها فهي تزيد عن خمسة وعشرين كتاباً، وذلك غير ما أشرف عليه من الترجمات وما راجعه وصححه وهذبه.
ومن أعظم ما قدمه الرجل تلاميذه النوابغ الذين حملوا مصر في نهضتها الحديثة، وقدموا للأمة أكثر من ألفي كتاب خلال أقل من أربعين عاماً، ما بين مؤلف ومترجم.
حمل العدد السابع من مجلة “روضة المدارس” الصادر في 29 مايو1873، نعي رئيس تحريرها رفاعة الطهطاوي، فكتب الأستاذ الكبير أحمد أمين في رثاء شيخه:
“اهتزت مصر لموته، واحتشد لتشييع جنازته الألوف المؤلفة من رجال المعارف وتلاميذ المدارس والعلماء.. وازدحمتِ الشوارع بالناس الذين جاؤوا لكي يردوا بعض جميله.