مريد البرغوثي يلملم غربته في «رأيت رام الله»


* أحمد سراج


يكتب مريد البرغوثي روايته عن العودة بعد ثلاثين عاماً إلى وطنه الذي غادره ليدرس في القاهرة ويعود بشهادة تعلق على الجدار الذي زينه أبواه، لكنه يعود ولا يعود.. يعود بعدة شهادات لا تجد جداراً، يعود أباً دون ابنه، وابناً دون أمه أو أبيه.. يعود وقد انقض الجدار.. فلا دير غسانة كما هو ولا دار رعد على حالها.
يقف إدوارد سعيد في مقدمته لرائعة مريد البرغوثي «رأيت رام الله» على ما قدم نص مريد من شهادة لا تقبل المحو على عودة الفلسطينيين المؤقتة إلى بلدهم التي تمزقت وكادت معالمها تنمحي وسط المستوطنات التي تلتهم مساحات شاسعة من الأراضي الفلسطينية، وتحيل المدن الفلسطينية إلى أشلاء تنتظر الدف: «هذا النص المحكم، المشحون بغنائية مكثفة، الذي يروي قصة العودة بعد سنوات النفي الطويلة إلى رام الله في الضفة الغربية في سبتمبر/أيلول 1996 هو واحد من أرفع أشكال كتابة التجربة الوجودية للشتات الفلسطيني التي نمتلكها الآن، وإنه ليسعدني أن يتاح لي أن أقول بعض الكلمات كمقدمة لهذا العمل، أما وقد قمت بنفسي برحلة مشابهة إلى القدس (بعد غياب 45 سنة) فإنني أعرف تماماً هذا المزيج من المشاعر حيث تختلط السعادة بالأسف، والحزن والدهشة والسخط والأحاسيس الأخرى التي تصاحب مثل هذه العودة، إن عظمة وقوة وطزاجة كتاب مريد البرغوثي تكمن في أنه يسجل بشكل دقيق موجع هذا المزيج العاطفي كاملاً، وفي قدرته على أنه يمنح وضوحاً وصفاءً لدوامة من الأحاسيس والأفكار التي تسيطر على المرء في مثل هذه الحالات».
يذكر سعيد أنه عاد إلى القدس بعد خمسة وأربعين عاماً، وأن مريد عاد بعد ثلاثين عاماً بتمام الحزن وغصة القلب وندبته، ليكتب عام عودته رواية «رأيت رام الله» التي حصلت في عام صدورها على جائزة نجيب محفوظ القاهرية، ويدرك سعيد أن شعرية مريد مكنته من التقاط المفارقة.
يبدأ النص من الجسر الواصل الفاصل بين الأردن والجانب الفلسطيني، يتركه أهله ويعودون ليطل على بلاده وراء الجسر متذكراً لحظة خروجه التي ظنها مؤقتة مرهونة بتخرجه في جامعة القاهرة، لكن حرب 67 تشتعل وهو يؤدي اختباره، وفيما يسلم ورقة إجابته النتيجة قد أعلنت: لا عودة.. لا وطن، أيها الغريب.
الغريب كلمة لا تسمعها أيها الفلسطيني لكنك تراها في أسئلة الناس في ترحيبهم المبالغ، في الأوراق المطلوبة منك كل فترة، في الأختام، في الحواجز التي ترتفع فجأة ولا فجأة.. فلا تملك إلا أن تكمل إذعانك لهزائم لم تتسبب فيها، وإن حاولت فيما بعد أن تثبت أن للضحية نصيبها من الأسباب.
في انتظار البرغوثي لإذن عبور الجسر يسترجع حياته وحياة أهله ومواطنيه، يسترجع تاريخه وسفر شقائه الذي تجدد بسقوط قشر بياض من سقف مدرج الاختبار في الجامعة؛ سفر الغربة.. وهاهو الآن بين سفرين: العودة والغربة. هنا يرى ثلاثين عامًا من الشقاء، يرى كيف تشكل| تمزق الفلسطيني الجديد من حمأ مسنون بنار الفقد والضياع، هنا يولد الأخ الكبير أبًا وعائلاً، وهنا يموت دون عودة.. هنا مات منيف البرغوثي دون أن يسمحوا له بالعودة إلى رام الله.. وهنا لا يرى مريد سوى أخيه، وهو ينفق عليه، وهو يجمعهم في فندق، وهو يدفن في مقبرة كل من فيها غريب.
يدخل مريد رام الله فيجد من تبقى من أهله ينتظرونه على أهبة الاستعداد، كان هناك من يخفق قلبه خشية أن يتكرر معه ما حدث مع أخيه، إنها أمه التي يسارع مريد إلى طمأنتها هاتفياً، وما إن يفتح النافذة حتى يرى على قمة الجبل المواجه مستوطنة تمددت كالشيطان، ويبدو أن عين العائد لا تبحث عن وطنها المفترس لكنها رغماً عنه وعنها تفعل ذلك.
ورام الله مدينة جبلية، مبنية على جبال مطلة إلى الغرب على الساحل الفلسطيني، أما من جهة الشرق والجنوب فهي محاطة بالجبال. تبعد رام الله حوالي عشرة 15 كم إلى الشمال من القدس وعن البحر المتوسط الذي يُرى من تلالها حوالي 45 كيلومتراً، وتبعد عن نهر الأردن قرابة 33 كم غربا. ويتوسط موقع رام الله فلسطين التاريخية تقريبا، حيث تبعد عن نابلس 36 كم إلى الجنوب، وجنين 63 كم إلى الجنوب، والخليل 82 كم إلى الشمال، وغزة 82 كم إلى الشمال الشرقي، ويافا 45 كم إلى الشرق، وحيفا 105 كم إلى الجنوب الشرقي.
إلى «دير غسانة» حيث ولد مريد يتحرك وهو يقارن بين ما كان وما سيكون، وكعادة الأمم حين تكون على خطرٍ؛ فإنها تضع في يد بنيها قلم التوثيق والتأريخ فيتحرك مريد على خطا لا يدرك أنها عبدت له، فيتحول الخاص الهامشي إلى عام متني، فدار رعد التي ولد فيها، هي جزء من دير غسانة مركز قرى سبع تضم آل البرغوثي تسمى «قرى بني زيد» هكذا إذن يتقمص العائد دور النسابة والرحالة والمؤرخ، ويكمل بحياد الأخير سبب تسمية أسرته بهذا الاسم: «البرغوثي. فيدحض مقولة الاسم المزجي الذي ألفت العرب استخدامه على نحو: حضرموت وبورسعيد. واستحسنه وجهاء العائلة ليقولوا: إن البر غوثي هي مركب مزجي من كلمتي: البر (جماع الخير) والغوث (نجدة الملهوف).. ويرى مريد أنها بناء على شواهد تعود إلى: البرغوث».
«بدلاً من التينة رأيت مصطبة من الأسمنت»
«هنا ولدتني أمي.. قبل ولادة «إسرائيل» بأربع سنوات»
«امرأة عمي هي كل سكان دار رعد.. الأزواج والبنات توزعوا بين القبور والمعتقلات والمهن والأحزاب وفصائل المقاومة وسجلات الشهداء والجامعات ومواطن الأرزاق في البلدان القريبة والبعيدة»
«منذ ال 67 والنقلة الأخيرة في الشطرنج العربي نقلة خاسرة!»
يمشي مريد في شوارع رام الله، يدخل قريته متسائلاً: كيف كتبنا عن بلاد لم نعد نراها، يصافح وجوه الباقين، يشعر بالخجل أمام الصغار الذين أثقلت قلوبهم الانتهاكات المستمرة، يعمل معوله قدر إمكانه ليحفر لوطنه دربا لا يغيب، يتجمع الناس ليشاهدوا هذ الفارس الذي قهر الغربة، فيما ينحني مريد لكل واحد منهم ألف مرة.
قسم مريد النص إلى تسعة فصول أولها الجسر، وآخرها يوم القيامة الأزلي، ويلحظ في العناوين جميعها أنها متكأ أو سن فرجار يدور حولها السارد ليصنع دائرة يبدأ رسمها من لحظة آنية إلا أنها تتحرك بين الأزمنة والأمكنة دون حواجز أو إطارات يجمعها تداعٍ سببي كأنه خيط العقد، وما إن ينتهي الفصل| الدائرة لتجد نفسك أمام لوحة متكاملة لمكان أو حدث أو رؤية وبضم الوحدات التسع تجد نفسك أمام رام الله كما رآها الغريب العائد بعد رحلة مضنية له ولها.
لا أصدق من مقدمة سعيد: إنه لأمر حتمي أن يكون في كتاب البرغوثي قدر من السياسة، لكنه لا يقدمها لنا في أي لحظة من قبيل التجريد أو الدوافع الإديولوجية، كل ما هو سياسي في الكتاب ناجم عن الأوضاع المعيشية الحقيقية في حياة الفلسطينيين المحاطة بقيود تتعلق بالإقامة والرحيل، فبالنسبة لمعظم شعوب الأرض الذين هم مواطنون لديهم جوزات سفر وبوسعهم السفر بحرية من دون تفكير في هويتهم طوال الوقت، فإن مسألة السفر والإقامة تعد أمراً مفروغاً منه، بينما هي أمر مشحون بتوتر عظيم لدى الفلسطينيين الذين لا دولة لهم، وهكذا، فبالرغم من الفرح ولحظات النشوة التي يحملها هذا النص، فإنه في جوهره يستحضر المنفى لا العودة.
لا يفوت مريد قبل أن يخلد إلى نومه في «يوم القيامة اليومي» أن يقض مضاجعنا في «لم الشمل» الذي يكتشف في حضرة أهله أين تكمن المصيبة؛ إنها في حذف «أولاً» وهو ما استطاعته «إسرائيل» ببراعة وفشل فيه العرب ببراعة أكبر؛ فعلى حين يقول إسحق رابين في حديقة البيت الأبيض أمام مليارات البشر: «نحن ضحايا الحرب والعنف، لم نعرف عاماً واحداً أو شهراً واحداً لم نبك فيه أمهاتنا أبناءهن» تسري في بدن مريد قشعريرة لأنه يجد أن القاتل يقلب الحقيقة ويغير الترتيب: «فها هي منازلهم المبنية فوق منازلنا تعلن بشهامة نادرة استعدادها لتفهم هوايتنا الغريبة في سكنى المخيمات المبعثرة في شتات الآلهة والذباب».
ينتهي النص باستعداد العائد للغربة مرة أخرى بعد أن يكتشف أنه بعبوره الجسر انحنى «ليلملم أشلاءه» وسيعود بابنه ليفعلا الشيء نفسه، وحين يخلدان إلى المخدة التي لا تكذب سيسألان السؤال نفسه:
ما الذي سلب الروح ألوانها؟
ما الذي غير قصف العراة أصاب الجسد؟ 
___
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *