*العادل خضر
يعدّ بول فيريليوPaul Virilio (ولد 1932) آخر كبار المفكّرين الفرنسيّين بعد رحيل فوكو ودريدا وريكور. ولكنّه لم يبلغ درجة النّجوميّة الّتي بلغوها. ورغم ذلك كان معروفاً وذائع الفكر في زمانهم. فهو رفيق درب إيريك رومر Rohmer (مخرج سينمائي، وأحد رموز الموجة الجديدة في السينما الفرنسيّة) وغواتاري، ودولوز، وجون بودريار، وليوتار، وإيفان إليتش Ivan Illitch وآخرون. يجمع في فكره معارف وعلوم شتّى تتراوح بين علم العمران والفلسفة، والاقتصاد والسّياسة.
فيريليو في الأصل مهندس معماري urbaniste، إلاّ أنّه من فرط تأمّله في السّرعة وتأثيرها في الفضاء والحياة والسّياسة، أصبح عالم اجتماع وفيلسوفاً من الطّراز الأوّل، واختصاصيّاً في المسائل الإستراتيجيّة المتعلّقة بالتّكنولوجيّات الجديدة. فهو منذ أربعين سنة، يفكّك ويلطّف النّظر في مسألة السّرعة إلى حدّ أنّه تمكّن من تأسيس حقل من التّفكير النّوعيّ في تلك المسائل الّتي ظلّت طويلاً تعتبر هامشيّة قبل أن تصبح إشكالات مركزيّة في زمن التّنقّل السّريع والتّواصل الفوريّ. هذا الحقل أطلق عليه اسم «درومولوجيا» dromologie، وهو لفظ قد نحته فيريليو ليحدّد به مجال دراسته الّذي يعني تقريباً بـ «علم السّباق» إلى الأمام. هذا المجال المهمل يرمي إلى فهم الإنسان الجديد (إنسان النّصف الثّاني من القرن العشرين) من خلال العلاقات الّتي يعقدها مع الزّمن، لا من منظور المدّة كما كان يدرس من قبل، وإنّما من زاوية السّرعة. فما الّذي يجعل «الدّرومولوجيا» ضروريّة في فهم ما آل إليه الإنسان؟ هل نعتبر سباق الإنسان المجنون ليتنقّل أسرع فأسرع مجرّد نزوة أم هي منبئة بتحوّل أنتروبولوجيّ عميق؟ فبعد أن ساءل فلاسفة القرن الماضي جوهر التّقنية على غرار هيدغر، يرى فيريليو أنّه قد آن الأوان للالتفات إلى جوهر السّرعة، لتقييم فعلها وأثرها في البيئة وانعكاساتها العميقة في رؤيتنا للعالم بالمعنى المادّيّ للكلمة (نظرة) أو بالمعنى المجازيّ (تمثيل). ويبدو أنّ الثورات العلمية وراء هذا التّحوّل الأنثروبولوجيّ. فاختراع المحرّك المتفجّر والهاتف، أي التّنقّل السّريع من مكان إلى آخر، والاتّصال الفوريّ، قد مثّلا أصل انبثاق ظاهرة السّرعة وتحوّلها إلى موضوع للتّأمّل الفلسفيّ جدير بالعناية والاهتمام.
نظرة رؤيوية
كتب فيريليو مقالات عدة ذات صبغة رؤيويّة في موضوعي السّرعة والتّقنية. فمنذ كتابه الأوّل (السّرعة والسّياسة، مقالة في الدّرومولوجيا dromologie) الصّادر سنة 1977، ما فتئ بول فيريليو يفكّر في سرعة العالم وتبعاته واستتباعاته على الإنسان والاقتصاد والبيئة والجيوسياسة. فهو يربط المجال بالتّكنولوجيّات الّتي تسمح باستجلائه وعبوره ومراقبته. فالقطار السّريع TGV، والإنترنت، والطّائرة والمينتال، وكلّ التّكنولوجيات المتخصّصة في التّواصل وجميع تقنيات التّنقّل، تسهم متضافرة في التّعريف بالمجال بوصفه فضاء – زمان ما فتئ يتضاءل ويصغر. لقد فاجأ فيريليو العالم منذ عشرين عاماً لمّا دان هيمنة السّرعة، مناهضاً قواها الهائلة الّتي تدمّر اندماجنا في الفضاء والزّمان، محذّراً الرّأي العامّ من مخاطر السّرعة الّتي بدأت تزيّف طرائق تمثيلنا للعالم. لم تعش المجتمعات القديمة ما نعيشه اليوم من إفراط عظيم في السّرعة. فقد تقلّص العالم حتّى غدا مثل لا شيء، فلم يعد كبيراً كما كان من قبل، من فرط سرعة البثّ الّتي صارت تفوق سرعة الصّوت supersonique. ولا يتعلّق الأمر بالاعتقاد في نهاية العالم ولا بالقيامة، وإنّما بالاعتقاد في كوننا صرنا تلك الفرادة المطلقة. ولأجل ذلك صرنا نحتاج إلى رؤية كاشفة révélationnaire لا إلى رؤية ثوريّة révolutionnaire. فكيف يمكن بلوغ هذه الرّؤية؟
ممثلة المطلق النهائي
لقد جرى تقليص الفضاء وإلغاء الزّمن لا بفضل «بيان المستقبليّين» الّذين تغنّوا بالسّرعة وجعلوها في المقام الأوّل، وإنّما بمزيّة ابتداع نظريّة النّسبيّة سنة 1915. فبفضل إنشتاين صرنا نرى في سرعة الضّوء «المطلق النّهائيّ» لمّا أضحت سرعة الضّوء الّتي لا يمكن تجاوزها هي القطب الّذي يدور عليه نظام الكون. فجأة لم يعد الزّمن ولا الفضاء يمثّلان «المطلق النّهائيّ» كما في عصر نيوتن، وإنّما أضحت السّرعة هي الممثّلة لذاك «المطلق النّهائيّ» الجديد. وبتحوّل السّرعة إلى مطلق، أصبح من الممكن التّفكير في الواقع في علاقته بالسّرعة. فبات كلّ موضوع، بل كلّ ظاهرة، ينظر إليها من زاوية خفّتها وعجلتها وسرعتها. ومن ثمّة، صار مقياس القيمة الأوّل هو السّرعة. هذه الخاصّة الّتي كانت ملازمة فقط لمجال التّنقّل في الأزمنة القديمة قد غدت في الأزمنة الحديثة محايثة لكلّ المجالات الّتي أصيبت بنيتها وطريقة اشتغالها بعدوى السّرعة، بحيث أصبحت عبارات كـ «سرعة العمليّات العسكريّة»، و«سرعة المبادلات الاقتصاديّة»، و«سرعة التّراتيب السّياسيّة» وغيرها رائجةً في سوق المبادلات اللّغويّة. وحتّى المجالات المحصّنة من هذا «الفيروس» بسبب تحكّمها في إيقاعها الخاصّ وجهازها الفريد، لم تسلم من تلك العدوى، فقد صرنا اليوم نرى نباتات تنمو بسرعة تتجاوز سرعة نموّها الطّبيعيّ، بل صرنا نسمع بمناهج جديدة في التّعليم تضمن التّعلّم السّريع، ومسالك تضمن السّفر الأسرع بين أصقاع المعمورة. فأينما وجدت السّرعة كانت محمودة إلاّ في الطّرقات الّتي تعاقب كلّ إفراط في استعمالها. وماعدا هذا المجال فإنّنا لم نجد في التّاريخ من اخترع آلة لكبح السّرعة أو تقليص عجلتها. فكلّ الآلات الهيدروليّة والميكانيكيّة والإلكترونيّة إنّما هي آلات كانت طوال تاريخها تعمل على مضاعفة السّرعة. ولعلّه بسبب ذلك بات من الممكن الحديث عن إيديولوجيا السّرعة، وهيمنة مصطلح السّرعة على الوعي، لأنّ السّرعة قد غدت وإنْ كانت اصطناعيّة، جزءاً من طبيعتنا، أو طبيعة ثانية لنا. ذلك أنّه كلّما أمكن للتّكنولوجيّات من التّعجيل في الحركة، تمكّن الإنسان من تمثّل تلك العجلة وإدماجها في حياته واحتوائها في جسده، جاعلاً من السّرعة شيئاً منه، بحيث أضحى أيّ تأخّر في سفرات القطار أو العمليّات البنكيّة لا يطاق بسبب بطئه رغم سرعتها الفائقة.
نفي الزمن
لقد غدت وحدة القياس في التّكنولوجيّات الجديدة، أي عشر الثّانية nanoseconde، الوحدة الّتي نقيس بها كلّ شيء. فمنذ عقود حلّت محلّ الزّمنيّة القديمة زمنيّة أخرى مرتكزة على سرعة التّنقّل الحثيث والاتّصالات الفوريّة، محدثة اضطراباً في زمن الأسلاف وقلقاً في الفضاء – الزّمن التّقليديّ. ويرى بول فيريليو أنّ هذا التّحوّل الهائل قد حصل على مرحلتين: مرحلة قرضت فيها السّرعة الفضاء قرضاً، ومرحلة أخرى التهمت فيها الزّمنَ، مقلّصة منهما كما يتقلّص الجلد المجفّف، إلى حدّ انقلاب الأرض إلى قرية كونيّة، حيث يسكن كلّ فرد في الفضاء نفسه، ويقتسم مع غيره الأحاسيس بعينها في اللّحظة ذاتها. هذا النّفي المتصاعد للفضاء – الزّمن قد بلغ ذروته في النّقل الجوّيّ، حيث غدا الطّيران كالجيب الفارغ، ومجرّد مقطع زمنيّ يلغيه الفرد بانتظار ساعة نزول الطائرة. لم يعد المسافر يخوض مغامرة مثيرة كما كان يخوضها ابن بطّوطة أو ماركو بولو أو أصحاب القوافل…، وإنّما أصبح ملزماً على تحمّل فترة من الانتظار يمكنه أن لا يشعر بها، بالنّوم أو مشاهدة بعض أفلام الفيديو. فالسّفر بالتّنقّل قد بات شبيهاً بفترة استراحة مضنية. ومعنى ذلك أنّ لفظاً من ألفاظ السّفر الثّلاثة (الانطلاق، والتّنقّل، والوصول) قد اختفى منذ ثورة وسائل النّقل. فمقطع التّنقّل الّذي كان يتوسّط الانطلاق والوصول قد زال تماماً. بل إنّه منذ القرن العشرين لم يعد الأمر يتعلّق بثورة وسائل النّقل وإنّما بثورة وسائل البثّ، بحيث صرنا نشاهد اختفاء لفظ آخر هو الانطلاق. في البداية كان لنا ثالوث (الانطلاق، والتّنقّل، والوصول)، ثمّ ثنائي (الانطلاق، والوصول)، إلاّ أنّه مع ثورة البثّ مع التّلفزات والنّقل التّلفزيّ أضحى كلّ شيء يصل إلينا دون أن نرحل أو نسافر. إنّه عصر الوصول المعمّم. فقد غيّرت السّرعة من شروط السّفر والمسار إلى حدّ الاستغناء عن ألفاظ السّفر من ثلاثة فاثنين، ثمّ الاكتفاء بلفظ واحد معمّم، هو الوصول الّذي هيمن على كلّ انطلاق وسفر. فمن خلال غرفتنا، وشاشة التّلفاز أو الحاسوب ترد علينا صورا تسافر بنا في أرجاء الأرض دون أن نتحرّك، ونستقبل في زمن واقعيّ معطيات منقولة إلينا بتزامن مع زمن استقبالها. بل صرنا نتفسّح ونحن على الأرائك في بيوتنا في شاطئ تيلانديّ ناعم الرّمل يحتاج إلى ساعات طويلة من السّفر لبلوغه. هذا الضّرب من البثّ التّلفزيّ الّذي يكون بالضّرورة عن بعد، ويعرض علينا جزءاً من عالم بعيد إنّما هو طريقة في توقيع حكم الإعدام على الزّمان والفضاء بوصفهما إكراهاً طبيعيّاً لا يحتمل. فهذان الإكراهان البشريّان الأساسيّان في تمثّل العالم وإدراكه قد زالا تماماً لمّا زلزلتهما سرعة التّنقّل والبثّ، واعتصرتهما على نحو مكثّف في جزء من الثّانية من حاضرنا. فالسّرعة لم تغيّر بهذا الاعتبار من إدراكنا للعالم وطرائق وجودنا فيه فحسب، وإنّما غيّرت كذلك، وعلى صورتها، الأنظمة الاقتصاديّة والسّياسيّة والإستراتيجيّة بالمعنى العسكريّ للكلمة.
ففي مجال السّياسة، لم يعد المعوّل في معرفة نتائج الانتخابات على أصوات النّاخبين وإنّما على سبر الآراء. فالإيقاع القديم الدّوريّ للانتخابات قد تجاوزته حمّى الإعلام الّذي فرض إيقاعه الخاصّ. والنّتيجة أنّ سبر الآراء قد حلّ محلّ الانتخابات، فصرنا نرى الحدث قبل وقوعه، وصرنا نقبل على القصّة الكاذبة الّتي تأتينا على عجل ونفضّلها على القصّة الحقيقيّة الّتي تقتضي أجلاً معلوماً قبل حدوثها. وبذلك أصبحت السّياسة انفعاليّة قلقة، قائمة على ردود الفعل، في حين أنّ مهمّتها الأولى هي تنظيم الحياة الجماعيّة والحفاظ على نوع من الاستقرار فيها.
أمّا في المجال الاقتصاديّ، فقد بلغ جنون السّرعة حدّا تزلزلت بمفعولها أسس البورصات بأسرها، مغرقة إيّاها في أزمة دائمة. ويفسّر بول فيريليو انهيار البورصة بكونها النّتيجة المباشرة لسرعة العمليّات الماليّة الجارية بواسطة الحواسيب. توجد بطبيعة الحال أسباب أخرى موضوعيّة (اقتصاديّة) في تفسير هذه الكارثة، إلاّ أنّ النّاس في «وول ستريت» يقولون إنّ سرعة ترقيم الأسعار قد ساهم في التّعجيل في الانهيار. فقد تحمّلت الحواسيب المركزيّة الصّدمة بسبب اشتغالها بسرعة الضّوء، فكان تسارع ترقيم الأسعار حادثة لا معنى لها لا يمكن أن تؤخذ بعين الاعتبار. غير أنّ وسطاء البورصة يقولون إنّ هذه الحواسيب قد تخلّت عنهم لأنّها لم تعرض على شاشاتها من المعلومات إلاّ ما كان موافقاً لسرعة القراءة عند الإنسان. فإن عُرضت المعلومات بسرعة الضّوء، فإنّه لا يمكن رؤية أيّ شيء. فهي لا تعرض إلاّ عشرين أو ثلاثين أو ستّين صورة في الثّانية، لأنّه ما فوق ذلك لن نجد الوقت لقراءة ترقيم الأسعار. وبعبارة أخرى، كان بطء الرّقابة البشريّة المقترن بسرعة قراءة حواسيب الوسطاء غير متناسب تماما مع السّرعة المذهلة للنّظام الآليّ لترقيم الأسعار. فشاشات الوسطاء قد سوّيت لتكون على نسق إيقاع سرعة القراءة عند الإنسان، بحيث لم يكن من الممكن أن تجاري سرعة المعالجة في النظام، فكانت بعجزها مساهمة في الحادث ووقوع الكارثة المعلوماتيّة. ويصوّر هذا المثال تقريباً كيف أنّ الإنسان ليس عبداً للسّرعة فحسب، وإنّما هو أيضاً ضحيّتها الأولى حينما تحلّ محلّه في مراقبة الواقع.
أمّا في المجال العسكريّ الإستراتيجيّ، فإنّ هذه السّيطرة التّكنولوجيّة بالغة السّرعة قد غدت بدورها مبعث قلق وانشغال، لأنّها أفضت في النّهاية، حسب فيريليو، إلى استقالة الإنسان لصالح التّكنولوجيا. فالسّرعة مع التّقنية تمثّلان عصب الحرب. غير أنّه منذ 1900 تضاعف سلطانها. فالحرب الخاطفة الّتي دشّنتها ألمانيا هي أبلغ مثال. فقد آثر هتلر الرّهان على عامل السّرعة بدل المواجهة، في الحرب العالميّة الثّانية. فمدرّعات الهجوم الّتي صُمّمت خلال الحرب العالميّة الأولى لم تستخدم إلاّ في الحرب الثّانية بمساندة الطّيران لاكتساح مناطق كثيرة بسرعة مثيرة للإعجاب. فإن كانت المدرّعات الألمانيّة قد بلغت باريس بيسر، فلا يعني ذلك أنّ الفرنسيّين لم يحاولوا اعتراضها. إلاّ أنّ ذلك لم يكن ليمنع الألمان من اختراق البلاد واغتصابها دون الانشغال بمن سيصدّهم. وقد تحقّق ذلك بفضل مدرّعاتهم «البنزار»، «panzer»، الشّهيرة. ومنذ ذلك التّاريخ أصبح أخذ العدوّ بسرعة يعني القبض عليه. أمّا اليوم، فقد تغيّرت الوضعيّة تماماً، لأنّ السّرعة لم تعد سرعة السّهام، ولا سرعة قذائف المدافع، ولا سرعة المدرّعة، أو الطّائرة المهاجمة، وإنّما سرعة الصّواريخ المجهّزة باللّيزر، أي بسرعة الضّوء. وبناء على ذلك، أضحى مشكل الحرب يتمثّل في السّلاح الّذي بات أسرع من قرار الإنسان. وبذلك صرنا قاب قوسين أو أدنى من اختراع الآلة الّتي تعلن الحرب، أي القمر الصّناعيّ «الذّكيّ» القادر على التّصرّف بسرعة اللّيزر للرّدّ على هجوم العدوّ. وإذا ما استمرّت عسكرة العلم والتّقنية، فإنّ ملكات الإنسان لن تكون سريعة بما يكفي لاتّخاذ القرار الحاسم في شأن الحرب والسّلم، وسيوكل أمر اتّخاذ هذا القرار إلى الآلة الّتي ينبغي أن تقرّر مستقبل العالم. ومن ثمّة يمكن أن نتخيّل بلداً قد هُوجم لا لأنّ رئيسه قد اتّخذ قرار الحرب، بل لأنّ هذا القرار قد اتّخذته الآلة. ويعني هذا أنّ ربّ السّرعة لا يتحكّم فحسب في نمط عيشنا، وإنّما يمتلك حياتنا الخاصّة.
مخاطر تهدد البشرية
أمام هذا الوضع الّذي باتت فيه السّرعة تُملي قانونها على الإنسان والعالم، صار تطوير علم يُعنى بالسّرعة أمراً مستعجلاً، عند فيريليو لفهم منطقها ومراقبة تأثيراتها. فلم تعد العلوم الإنسانيّة الكلاسيكيّة (كالأنتروبولوجيا والاقتصاد وعلم الاجتماع والتّحليل النّفسيّ…) بقادرة على تفكيك شفرات العالم السّيبرانيّ cybernétique، وعالم ما فوق سرعة الصّوت الّذي ما فتئ ينتشر في كلّ مكان، ويتّسع أمام أعيننا سواء على صعيد اللاّمتناهي في الكبر كالأقمار الصّناعيّة الرّبوتيكيّة أو على الصّعيد اللاّمتناهي في الصّغر في الأنسجة العضويّة كالشّرائح الصّغيرة جدّاً les micro-puces. ولكن إذا كانت سوسيولوجيا بورديو هي المعتمدة في تشخيص آليات الهيمنة الاجتماعيّة، فقد آذن عهد «الدّرومولوجيا» بالظّهور. فإلى جانب رأس المال الاقتصادي (الثّروات) والاجتماعيّ (العلاقات)، والثّقافي (المعارف)، والرّمزي (الاعتراف)، وجب أن نضيف إلى كلّ رؤوس الأموال الأخرى ما يمكن أن نسمّيه برأس المال التّزامنيّ، أي إمكانيّة ردّ الفعل الفوريّ، أو القدرة على البقاء بالتّزامن، مع الزّمان الكوكبيّ، وأن لا نكون أبداً متأخّرين على الحاضر العالميّ، وأن نعيش على إيقاع اندفاعات العالم. فسكّان الأرض بهذا الاعتبار قد انقسموا إلى مخيّمين: الأوّل قادر على التّنقّل في كلّ الأمكنة وفي كلّ الأوقات، حيث يجري شيء مّا، لأنّ أناس هذا المخيّم مجهّزون بوسائل التّنقّل (كالطّائرة الخاصّة، والهيلوكبتر والسّيّارة الرّياضيّة السّريعة…) الّتي تسمح لهم بالحلول في أيّ مكان، وهم أيضاً الرّهط نفسه من النّاس القادرون على البقاء في العالم ومع بقية النّاس في جميع أصقاع الدّنيا بفضل الإيبوك Ibooks والإيفون Iphones والإيباد Ipads وآخر الصّيحات الإلكترونيّة. أمّا في المخيّم الآخر، فيوجد من أُكره على البقاء في مسكنه بسبب افتقاره لوسائل التّنقّل الفوريّ، والمكوث في محيطه المسيّج المحدّد. فهؤلاء يستخدمون وسائل النّقل العموميّة ويسيرون في طرقات الجميع، وهم أيضاً من يسعى للالتحاق بركب المخيّم الآخر بالتّفسّح في الإنترنت، وكتابة التّغريدات، ومتابعة أخبار س.ن.ن طيلة ساعات اليوم. فالشّرخ الاجتماعيّ نجد أصوله في تفاوت الثّروات، ولكن في النّهاية نجد أنّ السّرعة هي من يحدث الفرق بين سكّان المخيّمين، ويميّز بين المهيمِن والمهيمَن عليه. فما يميّز بين نجوم التّلفزة والسّينما والرّوك ورؤساء الدّول القويّة الثّماني وبين من لا يمتلك سكناً ثابتاً ويفرّق بينهما هو سرعة الضّوء مقابل بطء الخطوة الإنسانيّة المتمهّلة.
وفي الحقيقة يرى فيريليو أنّنا نعيش في مجتمع تنهض فيه سلّميّته الطّبقيّة على السّرعة أكثر من قيامها على الثّروة. والحقّ أنّ هذه العلاقة بين الجاه والسّرعة ليست جديدة. فقد عرفها الإغريق قبلنا في صورة السّيّد الحرّ أو صورة الفارس الّذي يمتلك السّيف والفرس. «قل لي ما هي سرعة اتّصالك وتحرّكك، أقل لك من أنت». فالإنسان اليوم غير المؤثّث بأسباب الاتّصال والتّنقّل إنّما هو نصف إنسان، أو عبد. فالسّرعة هي أداة هيمنة رهيبة أشدّ خطراً من أيّ وسيلة أخرى، ذلك أنّها تُقلّص الآخر إلى حدّ الامّحاء فيصبح تقريباً لا شيء، في حين أنّ من يمتلك السّرعة يصبح في مقام الآلهة.
إنّ «الدّرومولوجيا» بما تقدّمه لنا من دروس ومعارف في مجال الحوادث، قادرة على كشف قفا السّرعة وفضح وجهها السّحريّ. فقد كان فيريليو منذ البداية يستأنس بالقاعدة الّتي صاغتها حنّة أرندت بهذه العبارة: «التّقدّم والكارثة وجهان من العملة نفسها»، وهو مقتنع كلّ الاقتناع بأنّ السّرعة هي المسؤولة عن معظم الكوارث الإلكترونيّة الّتي أصابتنا. فأغلب الاختراعات التّقنيّة قد نهض على فكرة تيسير الأنشطة البشريّة وتسريعها، كتعويض اليد بالآلة. غير أنّه لا شيء يضمن أن يوافق التّعجيل من نسق السّرعة نموّاً مناسباً في التّطوّر العامّ. فعلى الخلفيّة المتغنّيّة بمزايا السّرعة، يضع فيريليو يده على الطّرف المقابل السّلبيّ للسّرعة، وهو يحمل اسم الحادث أو الكارثة. فالحوادث لا تقع بمحض الصّدفة، فهي الثّمن الّذي اختارت الحضارة دفعه حتّى تكون السّرعة في مقدّمة كلّ شيء. فحينما اخترع القطار للسّير على نحو أسرع، وحمل النّاس والبشر بكمّيات عظيمة، اخترعت في الآن نفسه كوارث السّكك الحديديّة. فاختراع المراكب قد رافقه اختراع الغرق، واختراع الكهرباء قد وازاه اختراع الصّعق الكهربائيّ، واختراع السّفن الفضائيّة قد صاحبه كارثة شالنجر Challenger. فعندما نخترع ثمانمائة مقعد في الطّائرة، فإنّنا نخترع آليّاً ثمانمائة ميّت بالقوّة. ويعني هذا كلّه أنّ الحادث لم يعد ما يمكن أن يقع بالصّدفة وعلى نحو عرضيّ، وإنّما الحادث هو ما يجب أن يقع وعلى نحو ضروريّ. فمهمّة «الدّرومولوجيا» هي بالضّبط إيقاظنا من غفلتنا على هذه الخلفيّة البديهيّة، وهي أنّ الكارثة هي وزرنا الجديد. فهدف «الدّرومولوجيا» هو أن تجعلنا على وعي تامّ بنصيب الخطر الموجود ضمنيّاً في قلب السّرعة ذاتها. فتطوّرها الدّائم لا ينفصل عن إنتاج الكوارث المتصاعد. ألا يريد فيريليو من راء كلّ هذا التّشخيص أن يجعلنا على حذر إنْ نحن أفرطنا في السّرعة باستخدام العلم والتّقنية دون كابح من العقل السّياسيّ. إنّ حالة الإفراط هذه تفضي بنا إلى وضعيّة تقتضي منّا أن نثير مسألة «إيكولوجيا الزّمن». وهي كما يبدو امتداداً لفكرة البيئة الّتي تتعرّض لمخاطر التّدمير المبرمج للغابات والمحيطات والأنواع، وربّما الإنسان بسبب ارتفاع حرارة المناخ. وهذا يفضي حتماً إلى تدمير ممكن للزّمن نفسه. فلا يبقى شيء سوى سطح الأرض الملوّث.
هل ينبغي أن نتّخذ التّدابير اللاّزمة لاتّقاء كوارث السّرعة الممكنة؟ أم ينبغي أن نراهن على قدرات الإنسان الهائلة على التّكيّف؟ ألا ينبغي أن نرى في هذه المخاطر الّتي يخشاها فيريليو سوى ظواهر لا يمكن أن يدركها إلاّ من عاش في «الزّمن القديم»؟ فالأجيال الجديدة الّتي فتحت عيونها، فوجدت الطّائرة والإنترنت قد سكنت في أدمغتها زمنيّة السّرعة الهستيريّة. فلا شيء يقلقها سوى انخفاض إيقاع السّرعة لا تهوّرها.
وراء كل سرعة.. كارثة
يرى بول فيريليو، أن الحوادث لا تقع بمحض الصّدفة، فهي الثّمن الّذي اختارت الحضارة دفعه حتّى تكون السّرعة في مقدّمة كلّ شيء. فحينما اخترع القطار للسّير على نحو أسرع، وحمل النّاس والبشر بكمّيات عظيمة، اخترعت في الآن نفسه كوارث السّكك الحديديّة. واختراع المراكب رافقه اختراع الغرق، واختراع الكهرباء وازاه اختراع الصّعق الكهربائيّ، واختراع السّفن الفضائيّة صاحبه كارثة شالنجر. فعندما نخترع ثمانمائة مقعد في الطّائرة، فإنّنا نخترع آليّاً ثمانمائة ميّت بالقوّة. ويعني هذا كلّه أنّ الحادث لم يعد ما يمكن أن يقع بالصّدفة وعلى نحو عرضيّ، وإنّما الحادث هو ما يجب أن يقع وعلى نحو ضروريّ. فمهمّة «الدّرومولوجيا» هي بالضّبط إيقاظنا من غفلتنا على هذه الخلفيّة البديهيّة، وهي أنّ الكارثة هي وزرنا الجديد.
___
*الاتحاد