الزمن ، الزمن عربة الموت السريعة


*سيف الرحبي

لا يستطيع وصفَ ألمهِ

لا يستطيع وصف ألم العالم
والمذبحة
ويعجز عن ملامسة
السماء الغائمة
والحنين إلى المطلق
وحين يشدُ من عزمه كمقاتل
في لحظة الاقتحام
يتعثّر في شباك الكلمات
يتعثّر في شِراك عنكبوت
سامّ.
****
حين جاءته الهزائم والانهيارات
تترى من كل جهةٍ وصوب..
خاطبها قائلاً:
مالكِ ومالي
(أنا الميت) حتى قبل أن
تولدي في الزمان
****
أيها الرجل المدفوع على عَربة
المُقعَدين
في أعماقي حشود مثلك
تحلم بالخروج إلى الهواء الطلق
والحريّة
****
يتعثّر
مُغرماً بنفسه (بنفسها)
(نرسيس محدِّقاً في صورته…)
ذاك الذاهب إلى حتفه
عبر ولائم المرايا والوجوه..
****
يشنُّ الزمن غاراته دائما، لا تكاد تهدأ هذه الغارات، في النوم واليقظة، في لهاث اللذةِ والجري نحو اللاشيء وفي المنامات.. كل شيء يذكر بالزمن، وعلاماتِه وتضاريسه، تجاعيد النسر تذكر باقتراب شيخوخته حين يحدق فيه فرخُه وهما يستريحان على قمّة أو هضَبة.. كل شيء يذكر بهذا العصيّ على التعريف.. يقصف أعمار البشر والشجر، ذلك النخلُ الذي لم يعد يستطيع مواجهة الريح فيحدودب وينحني حتى الانكسار النهائي..
الزمن، الزمن، كل شيء يذكر به وبسطوته العادلة، ففي المحصلة الأخيرة الكل واقع تحت هذه الهيمنة المراوغة والشرسة وهذه السطوة التي يتجدّد عنفوانها وحيويتها باستمرار، كل شيء يذكر به، الأماكن، وجوه البشر.. آه كم كانت هذه الأماكن، هذه البيوت، ضاجّة بالأحبة والحيوات التي طواها الغياب تحت جناحه المعتم، كم كانت هذه الأشجار مورقة تعبرها الفصول ونرى في مراياها وجوهنا المتدفقة بالحياة، هذه السهول وتلك الجبال التي تتسلقها الآزال كالوعول الشبِقة..
يشن الزمن غاراته في اليقظة والنوم، في الأحلام حين نغرق في مياهها المضطربة بالوحدة والأزمنة، دوماً نجد تلك الوجوه التي طواها الغياب والنسيان، في مكان ما على نحو من صحو وغيم يوشك أن يكون مظلماً، نجري باتجاهها لكن ما أن نقترب حتى تتلاشى في الغيم والضباب.. تلك المدن والطرقات التي لا تفضي إلى شيء، تمضي فيها هائما من غير هدف، ودائما هناك البحث عن المنزل الافتراضي، تمضي نحوه لكن ما ان تقترب منه حتى تكتشف أنك أضعت المفاتيح.. تبقى هكذا هائما في الطرقات والأماكن التي لا يدل فيها الغريبُ الغريبَ ولا يلقي حتى إيماءة تحية نحوه.. لكن بضربة الحلم الخاطفة، تعثر على المفاتيح في زقاق ما، تركض جذِلاً نحو المنزل، لكن الطرق لا تقودك اليه، تعثر ربما على مكان، على ما يشبه منزل، الحلم والواقع، لكنه ليس هو يقينا، مرتبكاً تتعثر ممعنا في الغرق والتيه.. الزمن الزمن .. مركبة الموت السريعة..
****
الى كنوت أوديجارد
غبار هي الكائنات، منه بدأت، وإليه تصير، وأعمالها جميعها, مجبولةٌ من الغبار، ولو اتخذت مظاهر البذخ والصلابة.
الغبار الغبار 
الهباء الهباء
في المسيرة الحزينة، نعفّر وجوه بعضنا وأرواحنا بالوحل والغبار والافتراس.. (الحيوانات أقل قسوة بالطبع) تتبع غرائزها في المنحى الضيّق لوادي الطرائد والفرائس… حاجتها البيولوجيّة، ومن ثم الصمت والسكون والسفاد، البشر يذهبون بعيدا في هتك حرمة الغبار، السيّد صانع الأرومة والمصير، بعيداً يذهبون في التعفير والافتراس بالكلمات والأسلحة المهيبة، التي تنتمي في نهاية المطاف إلى الأرومة نفسها، أرومة الهباء والغبار والبراز…
لا شيء يدثر عري هذا المسكين في هذا الاسطبل الدموي الشاسع في الصحراء المصنوعة من شقاء وغبار، ولا حتى ورقة تسقط من شجرة ميتة، الورقة الأخيرة من الشجرة التي خضّتها الرياح العاتية والجفاف.
****
لا أعرف ماذا يخبئ هذا المساء في هذه المدينة، عدا الحزن والكآبة… أتطلع في وجوه الغرباء والسياح المعفرة بالوحل والغبار والمازوت، في جذوع أشجار شاختْ ونساء يتخبطن في عنف ظلمةٍ مريعة.. لا أعرف ماذا يخبئ لي هذا المساء، بعد فراق (ناصر وعزان) بالأمس مرّا على مكتبي، كانت صورهم تعلو رفوف الكتب، ضحكا من فرط المفاجأة، كان الفرح الناضح كغناء نبع جبلي في الوجوه البريئة، يغمر الكون بموجة من رضا وحنان.. وكانت رسوماتهما تعلو إطار الصور حديقةً من الفوضى والورود في تفتحها الصباحي الأول.. أشار (ناصر) أن أرفع صورته إلى أعلى رف في المكتبة، ففعلتُ، كان وجودها أجمل هكذا. وعزان يتشعبط على إفريز النافذة، بصخب يحيي العصافير المرفرفة والغيوم الموشكة على المطر في سماء عُمان..
لا أعرف ماذا يخبئ المساء وكذلك الصباح والليل بعيداً عنكما في هذا الصقع البعيد..
****
حين يرحل المرء عن من يحب، من منبذه البعيد، بلهفة، يسأل وبكل الوسائل الكثيرة المتاحة للتواصل الأثيري (كيف أحوالكم، هل الجميع بخير، أنا بخير والحمدلله، قريبا سأكون معكم)، كذلك حتى في الحروب ، بوثوقية يسأل ولهفة، وهو لا يعرف أو يتظاهر بعدم المعرفة، بما يخبئه القدر العاتي كإعصار غامض ينفجر في أي لحظة ومكان، ما تخبئه العناية التي تنقلب إلى انتقام يطيح برؤوس الجميع، يبعثر الأحبة أشلاء وغباراً. هذه العناية التي صُنع الكائن على صورتها من قسوة وخيانة ونزوع أصلي إلى المحو والافتراس..
أرى أينما رحلتُ حيوات طواها النسيان، أحبةً غيّبهم الموت… وكارثة تجعل الأجنّة عالقة في أرحام الأمهات الدامية.. فلا أرى إلا الحقيقة ساطعةً في برزخ المغيب.
****
كفيّ أيتها المرأة عن ترجيعك التبشيري الذي يمزق أكثر الحيوانات إذعاناً وطمأنينة.. كفّي عن ترديدك الدائم:
(الأمور طيبة… كل شيء على ما يرام)
الأمور طيبة يرددها «الخليجيون» كثيرا، بمناسبة ومن غيرها… كفي أكرمينا بصمتك المفقود/ فالأمور لم تكن كذلك في يوم من الأيام ولن تكون.
****
نحن الذين وُجدنا على هذه الأرض، لنوفي نذوراً قطعتها الآلهة على نفسها، بعقاب مخلوقاتها.. أين منها، عقاب(بروميثوس) سارق نار الآلهة الاغريقيّة وسرِّها الحصين، وهو مصلوب على صخرة في جبال القفقاس الذي ما فتئ (الرخ) ينهش منه الكبدَ والأحشاء، على مدار الأحقاب.
وإذ يشرف على النهاية ويلوح خيط فجر الموت المخلّص، يتجدد كبدُه ويكون أكثر نضارةً وحيويّة لتشغيل دورات العذاب الأولى .. كما تتجدّد جلود العصاة في الجحيم ليعيشوا دورات الألم والتنكيل التي لا تملّ ولا تكلّ من صراخ الضحايا وأنين المنكوبين، وتقول هل من مزيد..؟
****
مهما حاولتَ واجتهدتَ، سافرت وأقمت، لا شيء يغير نظرة هذا القطيع البشري الموغل في الدناءة والنميمة تجاهك كي تعيش بهدوء وسلام.. لا الرأفة ولا الحب والدماثة.. ولا القسوة والحذر والوضوح الصارم.. هو هكذا خُلق لتعذيبك ودفعك إلى الهروب الدائم، في خضمّ المتاهة واللامكان.
****
بغيابكما (أيتها القطرة الصافية التي انفصلت عن نهر الجحيم) أعزي نفسي بالنظر إلى الأشجار والفراشات وهذه السُحب المتدافعة في غير اتجاه، وعلى مقربة طائر يرفّ على عشه في غدران الشجرة بهناءة الأبديّة، انكما تشبهان هذه الحيوات، وتشبهكما، في إنعاش الغبطة واللطافة في نفوس أضناها الألم والتحديق في العَدَم الماثل في كل التفاصيل والمخلوقات.
****
أيتها اللحظة، الهنيهة التي توشك على الانفراط على عجل، غبطة الكائن العابر الذي لا يحلم بشيء ولا يفكر في الأبديّة.
****
لا شيء يبهج ويبعث الحبور في نفسك التي لم تعدْ تبحث عن شيء، عدا صراخ الثكالى ولعنات الحشود المُساقة إلى معسكرات الاعتقال والموت. تتنفسه مع قهوة الصباح ونبيذ المساء، حينذاك أيقنت أن روحك انحازت إلى مطلق الشر كخيار وحيد. لم تعدْ تفلسف بشكل سخيف أعمالك الإجراميّة في محكوميك. لقد جاءك الكشف كإشراقة مبهرة، انجلت من أكوام الخطابات والتبريرات… والأسخف حلم العلاج والنجاة.. هكذا منسجماً مع نوازعك الحقيقيّة متوحداً مع ضحاياك توحد الناسك بالمطلق..
****
أبصرت ضوءاً يعبر الظلام، في آخر النفق، أيقنت أن المجرم قادم مع أسلحته، ذلك هو الضوء الوحيد، المقبل بفأسه الحجري أو بندقيته الأوتوماتيكيّة.
****
قال لي : سأنسحب من الحياة سألته، إلى أين؟ قال لا أعرف على الأغلب سأقذف نفسي في أعماق هذا اليمّ الهائج، من غير عودة، أو من أعلى منحدر سحيق مهشماً رأسي بين الصخور… عرفت أنه وقع ضحيّة تفلسف مجاني بالنسبة لذلك الذي طوح به الألم والقرف بعيداً في الكهوف التي يتوحد فيها، الموت والحياة الحب والكراهية، كهوف أسلافنا الديناصورات وسائر الزواحف والأسماك والقرود.
****
لا شيء يمضي في هذا العالم، لا شيء يتحرك، قوانين الحركة والضوء، قوانين الجاذبيّة، الأرض والفضاء…الخ تعطلت.. الحركة الوحيدة الجديرة بالتبجيل والتعظيم هي مضيّ الكائن في حركته السريعة إلى الاضمحلال الأكيد.. كل حركة تبدو نظريّة بلهاء، أمام هذه الحقيقة الوحيدة الصادمة.
****
لا نكره شيئا إلا ونعود إليه أكثر نهماً من ذي قبل… ربما لأننا كائنات خُلقنا من طينة الغباء والاتضاع، وما ادعاء الذكاء والعبقريّة إلا تحريف للطبيعة الأصليّة.
****
إنني لا أكتب أدباً او فكراً، ذلك صعب بالنسبة لي. ولا أمتلك موهبة الكتاب البارعين وتقنياتهم وحيلهم الذكيّة… فقط، أفرغ حمولة ناء بها هذا الليل العتيق، إرثاً داخلياً راكمه الأسلاف من الغيابات والجراح، أنواعاً جديدة من الدم المتخثّر والقيء..
****
لا أرى في هذه الأرض الثكلى، إلا أثر اللعنة الأولى ، علامتها المسجلة في صلب مبررات الوجود… ولا شيء يذكر، حتى كأثر شاحب، أو شبح ناحل يمرق في الظلام القاسي، بالنعيم والحبور الذي كان والذي سيكون.
****
تلك الوجوه المكفهرة، الملفّعة بأكفانها السوداء، ستصافحك بالطيبة الخبيثة نفسها، سُمِية الزعاف، أينما كنت، حتى في قلب الأبد المزعوم، ستتسلل إلى نومك البحري، إلى الشاطئ والأشجار، إلى لهفة الطفل وهو يحاول المشي، إلى أشعارك وكتاباتك، التي لم تعدْ أشعاراً، إنما كلمات- كائنات طالعة من أعماق جهنميّة مظلمة، سافحة دماء سوداء، أنهار دموعٍ مسكونة بالزلازل والانهيارات.
****
نعم أنت المنبوذ الزائل المهزوم الذي تطاردك لعنات الخليقة، بطش الجدّ الأكبر… ولا أمل ولا ملاذَ.
****
ينوح الطائر حول أفراخه الوليدة، مولولاً على عشه الذي بناه غصناً غصناً، يرتفع نواحه، إلى سقف سماء صمّاء قاحلة… ينوح الطائر محدساً بالإعصار القادم الوشيك الذي لم ترصده مناظير الفلكيين وأبراجهم العالية.
****
ما تفتأ صورة ذلك الثور في المرويّات العُمانية، ثور الجفاف والقحط، حين اشتد هلاك الزرع والضرع والنسل… قطع خيّته، كانت القائلة في أوجها، حين غمره ذلك الإشراق الحزين.. ذهب إلى آخر الوادي حيث تقع منابع الأفلاج الجافّة… وجدوه شاخصاً نحو السماء، والدموع، شلال الدموع تملأ الوادي في صلاة استسقاء إلى العليّ القدير..
أتخيل نفسي أحياناً انني ذلك الثور، أحلم أن أكونه، أو أكون الحكاية ، ظل الثور والحقيقة.
****
إنـا نــورد الرايــات بيـضـاً
ونصدرهن حُمرا قد روينا
ملأنا البر حتى ضاق منا
وماء البحر نملـؤه سفينا
وماذا بعد يا قاتل الملوك، وفي طليعتهم «مضرط الحجر الأصم» عمرو بن هند ماذا بعد يا حفيد المهلهل ، الزير سالم، وكليب الفارس الملك الذي لا يُشق له غبار؟ ماذا ستفعل بكل هذا؟ لقد تحقق حلمك عبر ذريتك العتيدة، ذريّة المجد والشرف والكرامة … لقد ملأت الآفاق، الفضاء والبحار، لكن بالدمع والهزائم والانهيارات.
****
مَن ذلك الأريب الذي تخيّل ربطات العنق، انشوطات ومشانق… هيتشكوك.. على الأرجح.
****
العين العزلاء الوحيدة الموَثقة أمام الجلاد، كيف تواجه المخرز، كيف تروم الدفاع عن وجودها، هبة الله؟
أي شجاعة ، عدالة، حقيقة، تفيد في مثل هذا الموقف؟ أي حقيقة تشرق وتصنع المعجزة؟
****
كان الماء ملاذه، حضنه الحميم من قيظ العالم، كان حبيبته الأولى، رائحة الطلع في تفتحاته النديّة، رائحة الزعتر البريّ في الجبل الأخضر وأشجار البتولا. كان قبس من إلهٍ وروح… وكصاعقةٍ نزلتْ على روحه وكامل حواسّه وهو يبحر في ليل أحلام المياه، كأنما تبخّرت المحطات والبحار وارتفع المدُّ إلى كوكب آخر حيث الأرض استحالتْ قاعاً صفصفاً.. هاجرتْ أو أودتْ بها المعجزات العلمية والخطايا السبع التي أطبقتْ على عنق العالم في رؤيا يوحنّا.
لم يعدْ يبحر في حلم المياه، جنانِها
وحزنها العميقٍ..
صار أكثر وحدةً
أكثر متاهة وظلمةً
أكثر انهياراً وانعدام حيلة
****
وقف الأب أمام أطفاله وعائلته الشهيدة، وقف وفي يده ما تبقى من ألحفة وأسمال بعد طول حصار خانق، ليحمي العائلة المذبوحة من الوريد إلى الوريد ، الممزقة أشلاءً صغيرةً، ربما مازالت تنبض فيها بعض عروق، الممزّقة بالحقد الرخيص المتراكم والسكاكين والحراب..
وقف الأب ليصدّ حرارة الشمس عن العائلة المذبوحة. لابد أن الواقعة أُنجزتْ في عزّ الصيف والقائلة وعار التواطؤ والصمت..
الأب المنكوب ماذا يعمل في هذه الحالة المحتشدة بالألم والفجيعة، حيث تعجز جميع لغات الكون عن محاولة وصفها والاقتراب من تخوم جلالها المهيب…
تلك كانت حكاية واقعية من آلاف حكايات المجزرة السوريّة المتناسلة في الزمان والمكان – رواها الكاتب والمهجّر من أحد أحياء حمص، نور الدين الهاشمي. 
****
الحشود تهتف لجلاّديِها وقتلتها
طلاّب الحريّة يعبدونها كوثن أو إله
المؤمنون يعبدون خالقهم طمعاً في ثواب
أو خوفاً من عقاب
العشاق الحالمون يقّدِسون الحبّ والشعر،
التوحِد والعناق
العَدميّون يحدّقون في السديم الأول
للخليقة
****
إلى طاغور
حين ينظر النهر المتدّفق عبر الأودية الوحشية والقنوات
النهر المغْدق على الأرض والبشر
وقد جفّ وعلاه الطحلبُ والنسيان
بتأوه يقول: لقد متّ لكن روحي، روح المياه السرِّية ما زالت تسري في عروق الأرض والكائنات.
لقد نسيني الجميعُ عدا شجرة وحيدة في خضمّ الصحراء 
مورقةً وسط الليل واليباب:
إنها ذاكرة النهر والحياة
****
ظلّ يحفر في جرح المسافة
حتى تلاشى من غير أثرٍ
في هيجان الفضاء والنسيان
****
النسيان، النسيان، صرتَ كل شيء: يقول العجوز لصديقه القديم.. النسيان يا صاحبي لمن يستطيع، هو هديّة الزمن الوحيدة الجديرة بالتبجيل والامتنان (صرتُ أنسى وجوه الأصدقاء، الأقارب، سُحناتهم ملامحهم، لا أكاد أفرق بين وجه وآخر أنسى الطُرقات، والعصا التي تدلني في متاهاتها، أنسى حتى أسماء أولادي وتلك التي كانت حبيبتي)..
****
نسيان نسيان، أيام تتلوها أيام وأزمان، قطعان الوحش الضاري تقضم عشبَ الذاكرة حتى قعر الهاوية..
****

نسيان يقطع حبل السُّرة بين الكائن والعذاب، نسيان السمكة للماء، بعد أن نُفيتْ إلى اليابسة، نسيان الليل لشقاء النهار. نسيان الظلمة للضوء ، بعد انطفاء السجين في زنزانته. نسيان المحارب لأهوال المجزرة، حين يداهمه الخرفُ والجنون..
نسيان معقود على نواصيه الخلاص مثل الفناء والاضمحلال..
نسيان يمجّد نفسه ولا يتذكر شيئاً من ماضي الضحية والانهيار..
****
(فالنسيا ردجريف) الناشطة اليساريّة الممثلة الطليعية طويلة الطلة والقامة (حضرتُ تكريمك ذات زمن في مهرجان دمشق الدولي) أراك اللحظة في مشهد على الشاشة وقد نال الزمن والشيخوخة منك، رغم تلك القوّة الخفيّة التي تشع من عينيك المنطفئتين. 
****
عزّان، عزّان، هذه لحظة نومك، وعيناك نصف مفتوحتين مثل جرو ذئبٍ في بوادٍ منسيّة.
قبل نومك بقليل تصخب صائحا، رافضاً كل شيء، حتى تهدأ في نومك الذي ما زال وردياً عميقاً..
****
البركان نائم منذ زمن
يتلوّى باشتياق
منتظراً لحظة الانفجار..
****
سرّة امرأة
تضيء القمر في خسوفه الليلي
تمنحه النور والجمالَ
تشفيه من مرضه العابر والظلام
****
في ذلك اليوم الشتوي، أصطحب (ناصر) إلى البحر، بحر (العذيبة) الذي كان هادراً ومزبداً… ركض بحريّة الطفولة وشغبها حتى خشيتُ أن يضيع مني بين الأثلام والثغور، حتى عاد حاملا طرحَ بحر ومحّار، وتلك الأحجار التي تشكلت عبر الأوقات، بأشكال وتماثيل، من نحت الطبيعة بعبقريتها الفريدة..
نزل المساء، وكانت الغيوم تتراكض والبروق تضيء ذؤبات الليل.. وهناك في البعيد ناقلات نفط عملاقة متجهة إلى ديار الحضارة، أضواؤها وصفيرها يختلط مع جلَبة الرعود والبروق.
قال ناصر: انظر بابا (الصبح دخل في الليل والليل صار صبحاً) من فرط لفح البروق وسرحانها في الفضاء المترامي والمكان… بالطبع، لم يقرأ ناصر (أبا تمام) ولا يعرفه. لكن الطفولة بخيالها الجامح، بما قبل المعرفة… جمال ما قبل المعرفة والوعي. بريّة الكائن الأولى، جمال مرئيّاته الطازجة، حدسة البدئي مثل انسان ما قبل التاريخ، الذي ستدمره المعرفة لاحقاً مهما كانت عظمتها…
ثمة استعارة لصورة الشاعر العباسي في موقعة (عموريّة)..
تلك صورة حرب ومعارك، وهذه صورة بحر وطفولةٍ وسلام.
****
الى المتنبي
أصخرةٌ رأسي هذا الصباح؟
لا يحركه النسيم العذْب ، ولا النساء الفاتنات، لا خراب العالم ولا الذكريات
صخرةٌ
جلمود صخر يترنّح في سقوطه من ذروة (جبل الفجّ) حتى أعماق ذلك الوادي السحيق..
****
تلك المرابع (التي كان حاديهن مرنانُ) وتلك الأشجار المزهرة، أحالتها الأعاصير إلى أسمال أقوام بائدة.
****
ثمة جبل يتسلل من شغاف الذاكرة الملفّعة بالحُجب والدماء.. أراه اللحظة في وضوح يشبه الأصل، حين كان الصِبية يتسلّقون أضلاع صخوره الحادة ومنحنياتها من الأسفل إلى الأعلى ، حين تظهر قمم أخرى تتناسل حتى اللانهاية، يرتد منها البصر خاسئاً.. ومن الأعلى إلى السفح حيث تُنصب الشباك لمِختَلف الطيور البريّة المقيمة والمهاجرة، خاصة طيور (الصبّا) التي تنزل من الأعالي في برد شتاء (الصردا) أسراباً، يعْلق بعضها مثنى وثلاث في المشابك المنصوبة بحنكة الطفولة الجبليّة ومكرها البريء.. وتحت السفح تقع القرية الغافية وكأنما خارج الزمن والتاريخ، بصفوف نخيلها الباسقة وأفلاجها الخصيبة التي تتآخى مع (غيول) الوادي على مدار الأعوام.. القرية المسوّرة بجبال الذاكرة والطفولة والأحلام.
****
وحيداً يأكل الرجل العجوز تحت الشجرة، محمولاً على ذكريات العائلة والأولاد والأحفاد الذين قضوا في المعارك والحروب..
بالكاد يستطيع ابتلاع اللقمة، كسْرة الخبز بالزيت، بالكاد يستطيع سدّ رمق، غارقاً في هاوية الأعماق والألم..
****
قالت له الشجرة: إلى أين أنت ماضٍ في هذه الرحلة الطويلة التي بلا استراحة ولا نهاية؟ ركبتَ في سبيلها كل الوسائل والمواصلات، من الجمال والحمير، حتى القطارات والطائرات وتجشّمت كل مسالك الخطر والموت، ولا من أمل وصولٍ يلوح في الأفق..
إبقَ معي، بصحبتي، فَتحتَ جذوري الملتفّة كغيوم حبلى دائما بالأمطار، ربما تجد ضالتك المنشودة، كنزك الذي طمره السحَرة في أراضٍ وعرة مستحيلة..
****
تلك الفصيلة النادرة من طيور الأدب، وقد بنتْ أعشاشها وسط خرائب أكوان منقرضة وفي الخيال العابر للهواجس والأزمات.. ها هي الحرب من جديد، تقترب من منازل الأحلام على الشواطئ المعزولة، بعيداً عن العالم وقطعان البشر.
****
أصدقاء ، أصدقاء نحلم باللقيا، بالمرح وعودة الزمن الأول، ما إن يتحقق ذلك حتى نتمنى على الفور صحبةَ الأبالسة والشياطين في ظِلال جهنّم الوارفة.
****
قالت الشجرة لجارتها الشجرة: أتمنى للغيمة أن تمطر في واحتك قبلي.. فقد لاحظتُ بعض أغصانكِ آخذاً في الاصفرار، يا صديقة الحب الأزلي..
****
نواحكن، يا بنات آوى، خلائق الفجيعة والغموض في الجبال البعيدة، حبلٌ، يلاحقني عبر المسافات والآماد ملتفٌ على عنقي، أناشيط مصير.
****
أكواخ مهجورة، كانتْ ذات دهر، لصيادين أشاوس، لا يخشون العواصف والبحار.
تصطفق الريح في جنباتها
على شاطئ (الغبرة) القديم
بشباك مهترئة
ومجاديف مكسورة
كلاب مذعورة لا تتوقف عن النباح
كأنها بانتظار الغائبين الذين لن
يعودوا أبداً
لكن النباح ما زال على حالِه
منذ بدء الخليقة
حاملاً تلك النبرة
من أملٍ وحنين
j h j
هذه الفتاة التي تقدم لي القهوة، أي وجهٍ للرضا والبشاشة، أي حلم سعيد حلمْته ليلة البارحة، أو حلم يقظة فردوسي جعلها على هذا النحو من طيبةٍ ملائكيّة؟
****
أيها الطائر على فرع الشجرة الهرمة 
هذا الصياح الذي يمزق قلبَ الصحراء والضمير
هذا الصياح الجارف
على أفراخك وقد دهسهم الماموثُ
العائد إلى الحياة قبل قليل..
****
وجهك أيها الذئب الكسير 
وقد انهالت عليك العزلة
والسنون
لا يقل حزنا
عن ذلك الحالم من أجل الكرامة
المهدورة والحريّة
وقد خذله العالم والرفاق
وصار شريداً، بين المغاور والكهوف
يتوسل العونَ الإلهي
والملاذ..
****
أيها الرجاء، أيها الأمل
وقد ذهبتَ بعيداً
عن الجديرين بك
عليك أن تختفي من المعاجم والحياة
وتترك هذه البلاد التي بسِعة الكون والتابوت
تتركها هكذا…
مقبرةً عارية الكفن والعظام 
تسفوها الرياح الهُوج
من كل الكواكب والجهات
****
تلبس الأشياء والحيوات
أحلى حُلة وجمالٍ
لحظة الانفصال والرحيل..
بداهة طالما
ردّدها الأدباء وكذلك
الموتى والضباع..
****
رغم صخب الأقوام
وقعقعة السلاح
رغم الرطانات
والأناشيد
لم يسمع
إلا صوت الغافة والنبع
j h j
تتضرع الخلائق
في ليل النجوم والفراغ
تتوسل إلى بارئها
وهي تتدلى من حبال مقصلة لا مرئية.
إشارات وردت في النص
j (تلك المرابع حاديهن مرنانُ) إشارة إلى بيت الشاعر العُماني الكبير أبي مسلم البهلاني:
تلك البوارق حاديهن مرنان
فما لطرفك يا ذا الشجو وسنانُ
j مسجد الفج: مسجد في قرية سرور بوادي سمائل.
j ناصر وعزان: ابنا كاتب هذه الكلمات.
j (أصخرةٌ رأسي هذا الصباح) اشارة إلى بيت أبي الطيب:
أصخرة أنا مالي لا تحركني
هذي الأغاني ولا هذي الأغــاريدُ
j أبو تمام ، في ملحمته الشعريّة حول موقعة عموريّة:
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى
يشلّه وسطها صبحٌ مــن اللهبِ
حتى كأن جلابيب الدجى رغبتْ
عن لونها وكأن الشمس لم تغبِ
الغيول: جمع غيل المياه المتبقية بعد سيلان الأودية والشعاب وهي مياه جارية.
_
*شاعر من عُمان/ مجلة نزوى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *