*أبو بكر العيادي
تعتبر مسرحية “طليقة هي الفراشات” التي تعرض حاليا على خشبة مسرح الضفة اليسرى الباريسي من الكلاسيكيات المعاصرة، وقد عرفت نجاحا كبيرا أول عرضها عام 1969 في برودواي، قبل أن يحولها المخرج ميلتون كاتسيلاس عام 1972 إلى فيلم سينمائي قام فيه بأدوار البطولة غولدي هاون وإيلان هيكارت وإدوارد ألبرت.
إريك إمانويل شميت، وهو قاصّ وروائي ومؤلف مسرحيّ أيضا، له عدة أعمال لا تزال تعرض بانتظام في مسارح فرنسا، مثل “الزائر”، “أوسكار والسيدة الوردية”، “جرائم زوجية صغرى” من بطولة الممثلة السينمائية شارلوت رمبلينغ، وخاصة “السيد إبراهيم وأزهار القرآن” التي تمّ تحويلها إلى فيلم من بطولة الراحل عمر الشريف، اختار أن ينزّل المسرحية في إطار باريسي وفي زمننا هذا.
صراع ثلاثي
تتميز المسرحية باحتوائها على مَلمَحيْن متقابلين يتراوحان بين الفرح والأسى، المرح والكآبة، بين مشاهد تنتزع البسمة والضحكة، وأخرى تدفع إلى التأثر والكآبة. تأخذ من مسرح ماريفو تصوير العلاقات الغرامية المتمنعة، ومن مسرح الأميركي مارك ميدوف مشكلات الإعاقة البدنية التي قد تقف حائلا دون قيام علاقة طبيعية، وتعالج في مجملها ثيمة لا تفقد راهنيتها، ما جعل تنزيلها في القرن الحادي والعشرين مسألة طبيعية.
بطل المسرحية شاب وفتاة لم تهبهما الحياة ما يشتهيان، فهو كفيف لا يبصر، وهي عاشقة مصدومة. جاران في مقتبل العمر هما؛ كنتان الذي يعيش في شقة باريسية صغيرة تحت سلطة أمّ تحبوه عطفًا فوق ما يلزم، يولّده خوف مقيم بسبب عاهته تلك، وتُخضعه لما يشبه الحراسة المشددة. وجوليا التي تقيم في شقة مجاورة لا يفصلها عن شقة جارها سوى باب جانبي، شاء له المؤلف أن يفتح بغير استئذان.
وهي فتاة تعيش حياة عاطفية متحررة على غرار بنات جيلها ولم تجن من ورائها غير الخيبات، ما جعلها تزداد من البشر حذرا وحيطة، دون أن تمنع نفسها عن محاولة التعرف عليهم، أي أنها تقربهم وتخالطهم، ولكنها تظل تقي نفسها بما يشبه الدرقة التي لا ينفذ منها أي شيء.
في فضاء مغلق، ذي ديكور كلاسيكي، سوف يصارع هذا الثالوث مخاوفه، كل على طريقته، لكي يدرب كل واحد نفسه على الثقة في الآخر، كي يتقدم في الحياة بنفس منشرحة وقدم ثابتة.
والحق أن الثلاثة يبدون في الظاهر طبيعيين، لا شيء يميزهم عن سائر البشر، ولكنهم ينطوون على أسرار سوف نكتشفها شيئا فشيئا، حتى إعاقة الشاب.
تبدأ المسرحية بحلول كنتان في شقته الباريسية، ثم تعرفه على جارته جوليا، الفتاة الحسناء ذات العشرين ربيعا، مثله، وهي متحررة، مرحة، تُعجب به وتريد أن تقيم معه علاقة، دون أن تكون على علم بأنه مكفوف، خصوصا أنه أعجب بها هو أيضا، فقد سحرته بروحها الخفيفة، وصوتها الناعم، وحضورها الدافئ، ولكنه ظل كثير التردد، يتهيب تلك العلاقة ويخشى أن تصدّه الفتاة لو عرفت إعاقته.
تهيب وحيطة
في العرض تقف الأم، فلورانس، لهما بالمرصاد، فهي لا تريد أن تترك ابنها، المعوق، نهبا لبنات باريس، وتريد أن تعيده إلى البيت، فيما هو، رغم إعاقته، يصرّ على قطع الحبل السُّرّي نهائيا، ليحلّق بجناحيه. أي أن الثلاثة يحبّون، ولكن بطريقة خرقاء تسيء إلى الطرف الآخر، ما ينمّي أحداث المسرحية، ويخلق مشاهد هزلية، ومواقف مضحكة، وردودا تنتزع ضحك الجمهور أو تأثره أو استياءه.
والعبرة في النهاية أن لكل إنسان نقاط ضعفه ومعوقاته ومخاوفه ومصاعبه، ولكن له أيضا قدرة على التحدي ومغالبة تلك الصعاب، حتى تلك التي تبدو عصية على القهر، ولا يحتاج منه ذلك إلاّ القليل من الإرادة، أي أن المسرحية دعوة إلى انعتاق الفرد من معوقاته. فكنتان وجوليا وكذلك الأم مدعوون إلى تغيير ما بطباعهم كي يقبلوا أن يحبّ بعضُهم بعضا، بلا عُقد ولا مخاوف، وأن يحلقوا كالفراشات، أي أن يكون كل واحد “طليقا كطيف النسيم” كما يقول أبوالقاسم الشابي.
وقد نجح هذا الثالوث العاطفي في خلق فسح من المرح في جوّ كان يمكن أن يتحول إلى التجهم والكآبة بسبب “خطورة” الموضوع المثار، ذلك أن المؤلف استطاع أن يحببنا في البطل حتى قبل أن نكتشف أنه “مختلف”، وبذلك لم يقدم حالة فريدة بل استعارة لشتى الاختلافات، ما يجعل ثيمته إنسانية كونية.
وقد استطاع الشاب جوليان دورانس في دور كنتان، وأنوشكا دولون ابنة النجم العالمي الشهير ألان دولون في دور جوليا، وكانا قد تخرجا معا من معهد فلوريان للتمثيل، والتقيا عام 2013 في
عمل أول عنوانه “حياة عادية”، وكذلك نتالي روسيل في دور الأم، وحتى غيوم بايلير في دوره الثانوي، أن يشدّوا الجمهور بأداء مقنع وممتع، بتوجيه من مخرج المسرحية جان لوك مورو.
_______
*العرب