الإسلام والحضارة


*أ.د. بركات محمد مراد


خاص ( ثقافات )
من آيات عظمة الإسلام أنه دين الحضارة الحق وإن بلغ فجره من آفاق البادية ، وهو دين المدنية السليمة وإن كان دعاته الذين حملوا لواءه إلى العالم تغلب عليهم البداوة ، كما هو دين العلم الذي يسمو بالإنسان ويرفع منزلته فى الكون . ولعل سر نجاحه فى رسالته الإنسانية عامة غير محدودة بعصر ولا جيل ، ولا بمكان ولا زمان ولا طبقة ، حيث أن دعوته تخاطب كل الأمم والأجناس ، كل الشعوب والحضارات. 
ولا شك أنه لا قيام للحضارة دون الإنسان ، فالإنسان هو صانع الحضارة ومبدعها ، ولقد وجدنا الإسلام يعوّل في هذا الأمر على الإنسان ،حيث وجدنا الخطاب القرآني خاطب العقل الإنساني بالإطلاق ودعاه إلى التأمل والتدبر والنظر ، كما تضمنت آيات القرآن كثيرا من القيم الأخلاقية والاجتماعية والثقافية ، التى تساهم بشكل فعال فى تكوين الوجدان الإنساني للمسلم. وفى تربيته وتهذيبه ليحقق التوازن بين المعقول وبين حقائق الوجدان والشعور. 
إضافة لاحتواء الإسلام (قرآن وسنة) على كثير من قيم العدل والتعاون والمساواة وحرية العقيدة وحرية الرأي وغيرها من القيم الإنسانية العالمية والتى استحسنها العقل البشري دائما فى مختلف الأزمان ، وتلائم معها عبر مختلف الحضارات والثقافات. 
وإن الرؤية الإسلامية للعالم تنبع من أصل عقيدي إيماني هو التوحيد ، الذي يعني الإقرار بوجود الله وبوحدانيته سبحانه وتعالى ، وأنه هو خالق الكون ومالكه الحقيقي ، وهو الذي خلق الإنسان وكرّمه وجعله خليفة فى الأرض ليعمّرها ، امتثالا لأمره ، وتأت قيمة الإنسانية مستمدة من ذلك التكريم الإلهي للإنسان ، وأسلوب القرآن واضح على ذلك التكريم “لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم”(التين آية 4) ،”يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك فى أي صورة ما شاء ركبك”(الانفطار 6ـ8)
لا أدل على مكانة الإنسان فى الإسلام ـ على الرغم من اختلاف دياناته ـ من تلك الواقعة التى حدثت ، حين مرت جنازة فقام النبي ـ تصلى الله عليه وسلم ـ فقيل :إنه يهودي ، فقال :أليست نفسا ؟ “. ولقد أكدت النصوص القرآنية على مظاهر هذا التكريم : فى النواحي المادية والمعنوية معا ، وبخاصة اعتدال قامة الإنسان ، ورقي أجهزة الجسم المختلفة ووظائفها المعقدة ، وكذلك بقدرات الإنسان من حيث التمييز والتذكر والتصور وباقي الوظائف العقلية ، إضافة إلى الأمانة التى حملها الإنسان ولم تستطع الجبال والأرض والسماوات أن تتحملها وتحملها الإنسان وهي المتمثلة فى حرية الإرادة والقدرة على الاختيار. 
واختلاف اللغات والألوان ليس مانعا من وحدة الإنسانية ، بل هو آية من آيات الله تعالى كي يتعارف البشر ويتعاونوا رغم تنوعهم” ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن فى ذلك لآيات للعالمين”(الروم آية 22) و”يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”(الروم آية 13) 
وفى المنظور الإسلامي وعلى الرغم من أن الإنسان جزء من الكون ، ولكن فى التفاضل القيمي يبقى الإنسان متميزا على الكون تميز استعلاء ورفعة ، وهو الأمر الذي جاء القرآن الكريم ليبرزه ويؤكده كلما ذكر الإنسان فى معرض الموجودات “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”(الإسراء آية 7.).
فإذا توقفنا عند عنوان البحث “الإسلام والحضارة” فإننا نجده يمس ويتقاطع مع كثير من القضايا والمفاهيم والأسس التي تخص الإسلام من ناحية وتخص الحضارة من ناحية أخرى ، وهي موضوعات تحتاج لتحريرها إلى مؤلفات وبحوث كاملة ، لا موضع لها هنا ، ولذلك نتوقف عند بعض القضايا الرئيسة والتي قتلت بحثا من قبل على يد كثير من المتخصصين والمستشرقين شرقا وغربا ، ولكننا نلفت النظر إليها على سبيل الإجمال وليس التفصيل. ومن أهم هذه القضايا مايأتي : 
(1)
أ ـ المسلمون والحفاظ على التراث الإنساني :
بعد أن استقرت الدولة الإسلامية وانتشر الإسلام في أنحاء العالم أخذ المسلمون على عاتقهم الحفاظ على تراث الثقافات والعلوم الآسيوية والإغريقية الكلاسيكية والرومانية والبيزنطية والأفريقية المبكرة ، وزادوا على ذلك بأن نقلوا وترجموا معظمها ، وكان لممارساتهم الثقافية والسياسية والعلمية تأثير بالغ على أوربا الغربية في العصور الوسطى المتأخرة ، حيث لعبت المنجزات الإسلامية دورا رئيسا في تطوير عصر النهضة ، وبالتالي في تشكيل المجتمعات فيما بعد ، بما في ذلك مجتمعنا الحالي.
لقد نجحت الجهود التي بذلها المسلمون في الترجمة على مدى قرنين من الزمان في إتاحة الأعمال الكبرى لأفلاطون وأرسطو وإقليدس وأرشميدس وهيبوقراط وجالينوس وبطليموس وآخرين للمفكرين المسلمين في مواقعهم من فارس وحتى أسبانيا . لم تكن كل الترجمات على درجة كبيرة من الدقة أو الجودة ، إلا أنه بزيادة خبرة المفكرين تواترت التحسينات عليها. وأثبتت اللغة العربية أنها معين لا ينضب بمرونتها وقدرتها على إستيعاب المفاهيم الجديدة والعمليات والتفاصيل العلمية والفلسفية. 
وفي بداية هذا العمل ظهر مترجمون عظام مثل حنين بن إسحاق ، المسيحي النسطوري في القرن الثامن والذي كان يجيد أربع لغات ، وقام بإنجاز أعمال ضخمة غطت الكثير من الفلسفة الإغريقية والطب. كما يتميز العالم المبّرز ثابت بن قرة على وجه الخصوص بترجماته وإضافاته التحسينية للمنطق والرياضيات والفلك. ولم يعتنق ثابت بن قرة الإسلام ، فقد كان من أسرة متميزة من العلماء والمفكرين ، وكان من الصابئة الذين ذكروا في القرآن الكريم ، ولذا تمتعوا بحماية خاصة. 
حظيت علوم الطب والرياضيات والفلك بصفتها ذات فائدة منظورة مباشرة بأولوية في الأعمال المختارة للترجمة ، وكان الاهتمام بالرياضيات والفلك ينبع من حاجات المسلمين إلي تحديد اتجاه الصلاة والتنجيم. غير أنه في خلال قرنين من الزمان أصبح الكنز المعرفي الكلاسيكي متاحا باللغة العربية متضمنا المعارف الإغريقية والمساهمات الهلينية. 
كان هذا المخزون من الثراء الثقافي قادرا على الوفاء بالحاجات الثقافية لتلك الحضارة الجديدة ، حتى وإن كانت هذه الحضارة تتبع أهدافا روحية وسياسية وثقافية تختلف جذريا عن أهداف الحضارة الإغريقية والرومانية القديمة. وبحلول القرن الحادي عشر ، كان حكام المسلمون قد أرسوا قواعد مؤسسات خاصة صممت للحفاظ على هذه الكنوز والتعامل معها ووضعها في خدمة المسلمين .
وفي خلال القرون الثلاثة الأخيرة أصبح العالم الغربي أكثر دراية بكثير من الأعمال العلمية والفنية والأدبية التي أنتجت في المراحل والأماكن الإسلامية المتنوعة. وما تاج محل والمساجد العظمى في القاهرة ودمشق وأسطنبول وأصفهان ، واللوحات الفخمة التي تعظم القصص الأسطورية لملوك الهند وفارس ، وحكايات ألف ليلة وليلة الرائعة ورباعيات عمر الخيام إلا قليل من كثير من الإبداعات الإسلامية ، والتي اعترف الغرب الآن كأجزاء متكاملة من ميراثه الثقافي والحضاري.
لقد بدأ العرب بدراسة التراث اليوناني في مطلع القرن الثاني للهجرة ، واستمرت الدراسة والترجمة أكثر من قرن ، فاستوعب علماء العرب والمسلمون ، ما جاءهم من التراث اليوناني علما وفلسفة واجتماعا ، وأضافوا إلي ماجاءهم من العلم والمعرفة وبرز منهم عدد كبير في مختلف شؤون المعرفة كالفلسفة والفلك والطبيعة (الفيزياء) والرياضيات والكيمياء ، وقدم العرب تراثا جديدا وغزيرا ، فالعرب والمسلمون حافظوا على التراث اليوناني ، وكان هذا بعض فضلهم ، غير أن فضلهم الكبير تجلى فيما طوروا من أساليب البحث العلمي مثل اعتمادهم الطرق التجريبية في الوصول إلي الحقائق العلمية ، هذه الطرق التي أغفلها اليونان واستبدلوا بها الاستنباط الفكري ولعل جابر بن حيان أول رائد في هذا الباب ، وحذا حذوه كل من الكندي وابن الهيثم والبيروني وابن النفيس وغيرهم.
ولا شك أنه فيما بين القرنين الثامن والرابع عشر الميلاديين اكتمل عقد البحث العلمي بشخصيات علمية بارزة كالخوارزمي أول من كتب في علم الجبر ، وابن الهيثم الذي ندين له بأول ثورة علمية في مجال المناظر خصوصا والفيزياء على وجه العموم ، وعمر الخيام الذي وضع أسس فروع جديدة في علم 
(2)
الرياضيات وهو الهندسة الجبرية. وحتى وقت قريب ، ظل قسم من التراث الإسلامي غير مألوف لنا وللغرب ، إلا أنه كان ذا تأثير أساسي على مجمل الحياة بعد العصور الوسطى ، إنها الإنجازات التاريخية للفلاسفة والعلماء والأطباء والفلكيين وعلماء الرياضة والتقنيين وعلماءالطبيعة الإسلاميين ، حيث تكوّن مجتمع النخبة الذي ضم مسيحيين ويهودا ومسلمين مشّكلا بذلك أول مجموعة متعددة الأعراق والأجناس في تاريخ العالم. 
ومنذ القرن التاسع الميلادي امتلك العلماء في البلاد الإسلامية ـ بواسطة الترجمة إلي العربية ـ كنوزا من الفكر الفلسفي والعلمي الإغريقي والهندي والفارسي والبابلي ، وبينما كان هؤلاء العلماء يقومون باحتواء وتنسيق هذه الكنوز فإنهم قاموا كذلك بالتجديد والابتكار ، وعلي وجه الخصوص في مجالات الرياضيات والبصريات والطب والصيدلة والفلك. وتمكنوا في النهاية من تشييد صرح متجانس وغير مسبوق من المعرفة ، أصبح في الحقيقة أول علم عالمي وإنساني في التاريخ. 
وعلى الرغم من عظمة هؤلاء العلماء والفلاسفة والفنانين المسلمين الذين شادوا كل ذلك بعزيمة شديدة وببصيرة نافذة ، إلا أن البحث العلمي عند المسلمين لم يتخذ طابعا فرديا فحسب ، بل قامت به هيئات منظمة من العلماء مثلت مجموعات بحث تنتمي إلي مدارس قائمة ، وهذا نجده واضحا في الآثار العلمية لمجموعة بني موسى بن شاكر في الرياضيات والفلك والميكانيكا في القرن التاسع الميلادي ، ومدرسة مراغة بمراصدها وأجهزتها الدقيقة وفئات باحثيها في علم الفلك في القرن الثالث عشر الميلادي . لقد انتقل التراث العربي والإسلامي إلي أوربا عن طريق الترجمة التي نشطت عندهم من القرن الثاني عشر حتى القرن السابع عشر ، وحصلت أوربا على عدد كبير من المخطوطات العربية من المكتبات التي لم تتعرض للدمار والحريق ، كما كان حال المكتبات في بغداد ، وترجم التراث العربي والإسلامي إلي عدد غير قليل من اللغات الأوربية ، فلا غرابة ان نجد التراث العربي الآن بلغات غير اللغة العربية.
ولا ننسى أن الفتوحات العربية بداية حقبة تاريخية دامت ألف سنة ، منذ القرن السابع وحتى القرن السابع عشر ، وهذه الحقبة شهدت فيها أبرز حضارات العالم القديم اتصالا فيما بينها للمرة الأولى في إطار حضارة رئيسية متسعة واحدة وعن طريقها .
واستخرج المسلمون عناصر من هذه الحضارات المختلفة ـ وبالأخص منها الإغريقية والفارسية والهندية ـ وأضافوا إلي تراثهم العربي لإنشاء حضارة مميزة مثلت إحدى أكثر الحضارات التي شهدها العالم ـ حيوية وقدرة على البقاء. وهنا نشطت عوامل عديدة هي : ظهور مؤسسات الدولة والمراكز المدنية التي مثلت بؤرا لنمو الحضارة الإسلامية ، واهتداء الشعوب الخاضعة للحكم الإسلامي إلي الإسلام ؛ وقدرة الحضارة الإسلامية على استيعاب وتكييف وتحويل ثقافة الحضارات المجاورة ؛ وإنشاء المؤسسات الاجتماعية الدينية التي مّكنت الحضارة الإسلامية من البقاء ، وحتى الازدهار ، بعد أن آلت السلطة السياسية المركزية إلي الزوال.
ويشهد التاريخ لأمتنا الإسلامية أنها أحتضنت حضارة عريقة خلال حقبة من الزمن هي عشرة قرون أو يزيد وغذتها بالكثير من العلوم والنظريات والفلسفات فرسمت بذلك للعالم أجمع مخططا كبيرا للعلم والمعرفة في شتى المجالات في وقت كان فيه الغرب يرزخ في دياجير الظلام والجهالة ، ولما قُدر له أن يستيقظ من سُباته العميق ظهر أمامه بصيص من نور العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية ، فعمل على ان ينهل من هذه الحضارة بشتى الوسائل. وقد انتقلت العلوم العربية إلي أوربا من خلال مسالك كثيرة ، حيث شّعت من الأندلس أنوار الثقافة العربية على مناطق شاسعة من جنوب فرنسا وإيطاليا ، وكانت جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا حلقة الوصل بين الأندلس وأوربا.
فقد تأثر الناس بالثقافة العربية تأثرا بالغا ودخلت معالمها في أكثر الميادين . ومن هنا لا يكون غريبا ان يسّفه أكبر مؤرخ للعلم في القرن العشرين “جورج سارتون” George Sarton في كتبه ومؤلفاته الرأي الذي يجعل الحضارة ـ أي حضارة ـ من صنع شعب واحد لم يسبقه إليها شعب آخر. وإذا كان مؤرخوا العلم من الغربيين يجعلون العلوم الطبيعية والرياضية اختراعا يونانيا لم يسهم فيه أحد قبلهم ، فإن جورج سارتون يقول في تفنيد هذا الرأي :”إن من الضلال أن يقال أن “إقليدس ” هو أبو علم الهندسة ، أو أن 
(3)
“أبقراط” هو أبو علم الطب، أو … فإن تاريخ العلم لا يعرف من الآباء الذين لم يولدوا إلا أبانا الذي في السموات ! “.
وإذا كان جمهرة المؤرخين من الغربيين يرون ان التراث العقلي اليوناني خلق عبقري أصيل جاء على غير مثال أسبق ، ويسمونه “المعجزة اليونانية” المزعومة لها أب وأم (شرعيان) اما أبوها فهو تراث مصر القديمة ، وأما أمها فهي ذخيرة بلاد ما بين النهرين ، ويزيد “سارتون” فيقيم في بحوث أخرى تقابلا بين ما سموه بالمعجزة اليونانية ، وما يسميه هو بالمعجزة العربية ، وفي عصر الإسلام الذهبي ، وذلك ما حققه العرب والمسلمون في المجال العلمي ، فيما يقول سارتون يكاد يتجاوز حد التصديق. 
وقد أيدت المستشرقة الألمانية المنصفة”زيغريد هونكة” في كتابها “شمس الله تسطع على الغرب” هذا الذي يذهب إليه مؤرخ العلم جورج سارتون، مؤكدة ان “روجر بيكون Rogar Bacon ” أو ليوناردو دافنشي Leonard Davinci أو جاليليو Galilleo ليسوا هم الذين اسسوا البحث العلمي ، إنما السباقون في هذا المضمار كانوا من العرب . والذي حققه ابن الهيثم Aihazen كما هو معروف عند الأوربيين ، لم يكن إلا علم الطبيعة الحديث بفضل التأمل النظري والتجربة الدقيقة ، وفي حقل التجارب التي أجراها أثناء سجنه ، وفي سنوات حريته المستردة ، وفق ابن الهيثم في دراسته لعلم البصريات ، وأحرز نجاحا باهرا حقق له تقدما علميا جديدا واسع الآرجاء “.
لقد كانت اللغة العربية هي لغة العلم التي يكتب بها العلماء في العصور الوسطى ليقرأها الناس في أي صقع من أصقاع الوطن العربي الكبير ، وازدهرت حركة الترجمة أيما ازدهار ، ثم أقبل العلماء على التأليف والكتابة في مختلف فروع المعرفة العلمية نقلوا علوما وابتكروا أخرى ، وأضافوا من الآراء والنظريات التي نسبت إلي غيرهم . فتكلموا في التطور ، وإن نسب إلي”دارون” وقد كتب فيه “مسكويه”و”إخوان الصفا” و”ابن خلدون” . وتحدثوا في “الجاذبية” والربط بين “السرعة والثقل والمسافة” وإن نُسب كل ذلك إلي “نيوتن”. وتحدثوا في أثر البيئة على الأحياء قبل”لامارك” ، وشرح “ابن النفيس” الدورة الدموية الصغرى قبل “هارفي” بنصف قرن. وكذلك الحال في طبيعة الضوء وسرعته وانكساره، والذي كتب فيه”ابن الهيثم” قبل أبطاله من علماء أوربا. 
كذلك قاسوا محيط الأرض ، وسجلوا مبادرة الاعتدالين ، وقدروا حجم الكواكب وما بينها من مسافات قبل “جاليليو” و”كبلر” و”كوبرنيق”، وأضافوا إلي المعارف الفلكية الشيء الكثير ، أضافها البتاني والفرغاني والكندي والخوارزمي ، وابتدع هذا الأخير استعمال الأرقام في الحساب بدلا من حساب الجمّل .
ومن قول “فرانتز روزنتال Rosenthall Franz ” في كتابه “منهاج العلماء المسلمين في البحث العلمي ” نقلا عن “فون كريمر”Von Kramer وهو يصف النشاط العلمي عند علماء ما ترجمته “: إن أعظم نشاط فكري قام به العرب يبدو جليا في حقل المعرفة التجريبية ضمن دائرة ملاحظاتهم واختباراتهم ، فإنهم يبدون نشاطا واجتهادا عجيبين حين يلاحظون ويمحّصون ، حين يجمعون ويرقبون ما تعلموه من التجربة أو أخذوه من الرواية والتقليد ، وكذلك فإن أسلوبهم في البحث هو أكبر ما يكون تأثيرا عندما يكون الأمر في نطاق الرواية والوصف .. وبصفتهم مفكرين ومبدعين ، فقد أتوا بأعمال رائعة في حقلي الرياضيات والفلك ، وللسبب ذاته نجح العرب في بقية العلوم”.
ويضيف المستشرق ليبري Libri ,c :” لولا العرب لتأخر عصر النهضة في أوربا لعدة قرون ، فلقد لمع العرب في كل الميادين العلمية ، وفي الوقت الذي كان فيه الشعراء والأدباء والفقهاء يقومون بأدوارهم في نهضة العرب الروحية والنفسية والخلقية ، كان العلماء في كل الميادين يقومون بقسطهم من البحث والنقل والتجويد ، ولم يدعوا بابا إلا طرقوه ، إن لم يكونوا قد فتحوا في العلم أبوابا جديدة”. كذلك يقول “وليم أوسلر” w. Osler :” لئن أشعل العرب سراجهم من القناديل اليونانية ، فإنهم ما لبثوا أن أصبحوا جميعا شعلة وهاجة استفاد بنورها أهل الأرض” . 
ولا شك أنه كان للمسلمين موقفا نقديا واضحا من العلوم المترجمة ، فلم يكتف العرب والمسلمون بالأخذ عن السابقين ، وتقليدهم فيما يذهبون إليه ، بل أخضعوا تلك المعارف والعلوم السابقة للنقد والتمحيص ، فعلي الرغم من تأثر العرب بكتابات بطليموس الفلكية ، وخاصة في كتابه الهام(المجسطي) إلا ان العرب قد 
(4)
تناولوه بالنقد والتمحيص ، فكشفوا في ضوء دراساتهم التجريبية عن الكثير من أخطائه ، فقيل بحق أنه كان عند العرب نقطة انطلاق في تفكيرهم الفلكي ، فيما لاحظ “ول ديورانت W.Durant . ولم يكن ذلك بغريب على من اتخذوا المشاهدة الحسية بابا وحيدا للمعرفة العلمية.
ومن الملاحظ أن انجازات العرب لم تتوقف على إكتشاف وإنجاز كثير من العلوم الطبيعية كالفلك والفيزياء والكيمياء وعلوم النبات والحيوان فضلا عن علوم الرياضيات من هندسة وحساب وجبر وحساب مثلثات ، بل تعدى هذا إلي تحقيق إنجازات كبيرة في العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع الذي اكتشفه ابن خلدون ، وتحليلات عميقة ودقيقة في علوم النفس ساعد على ارتيادها توجيهات القرآن الكريم العميقة برز فيها على وجه الخصوص علماء وفلاسفة من أمثال ابن سينا والرازي والغزالي وابن رشد . فضلا عن العلوم الشرعية الإسلامية التي ساعدت على نشأة علم القانون وأصوله والتي غذت توجهات العرب القانونية والدستورية في العصر الحديث. 
وليس غريبا قول المستشرق مونتاي V.Monteil عن ابن خلدون أنه”سبق عصره بكثير ،فلم يصمم ولم ينجز واحد من أسلافه أو من معاصريه آثارا ذات أهمية مماثلة”، وهذا ليس بسبب ذهنه المتوقد وتفكيره الخصب وملاحظاته العلمية الدقيقة فقط ، بل لقدرته العلمية والمنهجية ورؤيته الفلسفية المبكرة إلى إدراك كثير من العلوم الاجتماعية وفلسفة التاريخ والحضارة ،وكذلك تقديمه التفسير العلمي الصحيح لكثير من الظاهرات والحقائق الاجتماعية سواء في مجتمعات البدو أو الحضر والمدن.
وقد رأى ابن خدون ضرورة دراسة الظواهر والعلاقات الاجتماعية دراسة وصفية موضوعية كما تدُرس ظاهرات العلوم الأخرى للوقوف على طبيعتها وما يحكمها من قوانين ونظريات. وكان لابن خلدون رؤيته النقدية والتي تمثل رؤية فلسفية وحضارية . ودراسته للتغير والتطور الذين هما سمة الحياة الاجتماعية. حيث تمكن من خلال دراسة عناصر المجتمع من الوجهتين : التزامنية والتطورية ،وقد كانا مبنيان على ركنين منهجيين احدهما نظري والآخر عملي تطبيقي ، من دراسة الجدلية الثابتة والقائمة بين هذين المستويين من البحث والنظر، مما شكل تركيبا متماسكا لعلم اجتماع تاريخي ولعلم اجتماع عام ، سابقا بذلك العالم الغربي الكبير أوجست كونت مؤسس علم الاجتماع في بداية العصر الحديث.
ولا ننسى ترجمته الذاتية والذي يكشف براعة ابن خلدون فى فن من فنون التاريخ وهو “الأوتو ـ بيوجرافيا” أي ترجمة المؤلف لنفسه أو فن السيرة الذاتية ، بل يعد ابن خلدون مجليا فى هذا الفن من بين مؤرخي العرب الأدباء” مثل لسان الدين ابن الخطيب معاصر ابن خلدون وصديقه فى كتابه”الاحاطة” والحافظ بن حجر، بما كتبه عن تاريخ حياته فى كتابه “التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرق” صحيح أنه قد سبقه فى هذا الفن كثير من مؤرخي العرب وأدبائهم ، كياقوت الحموي فى كتابه”معجم الأدباء” ، ولكن هؤلاء وغيرهم ممن تصدوا قبل ابن خلدون للترجمة عن أنفسهم قد قنعوا بتراجم موجزة.ولكنه أتى عن نفسه بسيرة مستفيضة وافية.
لقد كان ابن خلدون أول مـن يكتب عــــن نفسه ترجــمة رائعة مستفيضة يتحدث فيها عـن تفاصيل ما جرى له ، وما أحاط به من حوادث ، من يوم نشأته إلى قبيل مماته ، ويتحدث عن كل ذلك بدقة المؤرخ الأمين الحريص عـــلى الاستيعاب والشـــمول، فلا يغادر شيئا مما عمله أو حدث له إلا سجله ، وهو فى هذا يشبه فن “الاعترافات” كاعترافات الإمام الغزالي فى كتابه”المنقذ من الضلال” واعترافات “جان جاك رسو” فى كتابه”الاعترافات”Les Cconfessions 
ومن الجدير بالذكر أن مقدمة ابن خلدون قد ترجمت إلى عديد من اللغات : التركية ، والفرنسية ، والإنجليزية ، والبرتغالية ، وكثير من اللغات الأخرى . ومما لا شك فيه أن أروع ترجمة للمقدمة ، هي تلك التى انجزها المستشرق “فرانز روزنتال” التى نشرت بنيويرك عام 1958م وجاءت مرفوقة بمقدمة وبفهرسة وضعها 
والتر ـ ج ـ فيشال walt.j.Fische بجامعة كلفورنيا ، وتأتي أهمية هذه الترجمة من اعتماد روزنتال على ثمانية عشر مخطوطة ، إضافة إلى شروحه الدقيقة والعميقة المصاحبة للترجمة.
ب ـ قيمة الإنسان الحضارية : ولا ينبغي أن ننسى أن القيم الإسلامية عالمية فى ذاتها ، مرنة فى تطبيقها ، لأنها استجابة للفطرة السوية ، فقيم العدل والتعاون والمساواة وغيرها من قيم عالمية فى ذاتها ، تواضع عليها الناس جميعا ، واستحسنها العقل البشري فى مختلف الأزمان ، وهي واضحة فى منهجها ، 
(5)
مرنة فى تطبيها ، تمتاز بالاعتدال والتوسط بين الحقوق والواجبات ، وتلائم بين النزعة الفردية والمصلحة الاجتماعية ، وتغذي الروح والجسد ، وتطمح إلى المثال مع مرعاة الواقع وترسخ الثوابت وتسايرالتطور.
وعلى الرغم من أن الإنسان جزء من الكون ، ولكن فى التفاضل القيمي ـ في نظر الإسلام ـ يبقى الإنسان متميزا على الكون تميزا استعلاء ورفعة، وهو الأمر الذي جاء القرآن الكريم يبرزه ويؤكده كلما ذكر الإنسان فى معرض الموجودات ، وجماع ذلك قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ وَفَضّلْنَاهُمْ عَلَىَ كَثِيرٍ مّمّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) [سورة: الإسراء – الأية: 7.].ويبدو هذا الاستعلاء فى مظاهر عدة ، ربما رجعت فى معرض كثرتها إلى ثلاثة معان أساسية ، استعلاء فى أصل الوجود ، واستعلاء فى التكوين ، واستعلاء بالاستعياب والتمثل. 
ومن حقيقة الوحدة بين الإنسان والكون ، وحقيقة استعلائه عليه نشأت حقيقة ثالثة فى نطاق رفعة الإنسان وهي حقيقة تسخير الكون للإنسان ، فلما كان الإنسان يشترك مع الكون فى وحدة تركيب مادي ، فإنه يكون بذلك مهيأ لأن يتفاعل معه تفاعل انتفاع ، إذ التجانس شرط فى هذا التفاعل . ولما كان أرفع منه شأنا ، واعلى قيمة ، فإنه سيكون هو المنتفع منه ، وسيكون الكون مهيأ لذلك النفع ، ولذلك جاءت التعاليم القرآنية تؤكد أن الكون كله مسخر للإنسان مذللا له فى سبيل استثماره ، واستغلال مرافقه. 
ومن أبرز مظاهر التسخير : التسخير لأجل الوجود ، فالكون بني بالقدرة الإلهية على قوانين تناسب تماما الكيان الإنساني فى وجوده ابتداء قال تعالى: (وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ) [سورة: إبراهيم – الأية: 33]. والتسخير لاستمرار الحياة قال تعالى: (وَسَخّرَ لَكُمْ مّا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً مّنْهُ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ) [سورة: الجاثية – الأية: 13]. 
وكذلك التسخير للاستيعاب المعرفي ويظهر ذلك ، ببناء الكون فى مادته وحركته على قوانين وضوابط ثابتة لا يدخلها الاضطراب والفوضى قال تعالى: (وَسَخّر لَكُمُ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخّرَ لَكُمُ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ) [سورة: إبراهيم – الأية: 33]. 
ومن هنا أولى الدين الإسلامي عناية فائقة لشحذ عقل وفكر الإنسان تجاه ما يحيط به من موجودات ومخلوقات ، وتجاه نفسه ، فالإنسان فى المفهوم الديني لا يعد كائنا سلبيا صنميا ، بل هو فاعل إيجابي يتأثر بما يجري ويؤثر فيه.وهكذا تتكون شخصية الإنسان ومنها تتبلور هويته. فالهوية ليست جمودا ولا تحجرا بل العكس من ذلك ، هي نظرة فاعلة مع الذات والإنسان والكون الذي أُمر بإعمال النظر فيه ، ولذا لم يكن البحث فى الهوية عند الشعوب والأمم المتقدمة إلا خطوة تسبق الإنجاز ومعه تتحرك.
لقد عد الإسلام الناس جميعا أمة واحدة تجمعها الإنسانية وإن فرقتها الأهواء والمصالح قال تعالى :” كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين” قال تعالى: (إِنّ هَـَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [سورة: الأنبياء – الأية: 92] ، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّلْعَالَمِينَ) [سورة: الروم – الأية: 22] ، وإن اختلاف الناس شعوبا وقبائل لم يكن ليتقاتلوا ولكن ليتعارفوا ويتعاونوا قال تعالى: (يَأَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوَاْ إِنّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [سورة: الحجرات – الأية: 13] .
فليس فى الإسلام اختلاف فى المعاملة بسبب اختلاف اللون ، وإن التفاوت بين الناس بالعمل لا باللون والقومية والإقليمية ليكون العدل هو السائد. كما أن التعاون الإنساني مبدأ عام فى كل الجماعات الإنسانية كما قرر القرآن وحيث عليه ، ومنع التعاون على الإثم قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرّ وَالتّقْوَىَ وَلاَ تَعَاوَنُواْ 
عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [سورة: المائدة – الأية: 2] . 
كما حث النبي الكريم على مساعدة الأخ لأخيه فى أي مواطن أو مواقع:” الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه”، كما أن قانون الأخلاق قانون عام يشمل الأبيض والأسود ويشمل الناس جميعا فى كل الأقطار والأمصار وهم مخاطبون بأحكام الإسلام أنى وجدوا فهي الشريعة الغراء قال تعالى: (وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَآفّةً لّلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [سورة: سبأ – الأية: 28] ، فالشمولية الإنسانية العالمية تعين الناس على التواصل والتعاون في اقتسام الطيبات حتى يكون العالم كله سوق للعمل وسوقا 
(6)
للإنتاج ، ومجالا للتبادل والتداول ، فرسالة الإسلام للإنسان أن يعمر الأرض ويستثمرها ويسير فى طريق صلاحها قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [سورة: هود – الأية: 61] أي طلب منكم عمارتها” هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها ولكوا من رزقه قال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ بَعْدَ) [سورة: الأعراف – الأية: 56] . 
فرسالة الإنسان فى الإسلام تعميرية ، طالبة منه التنقل فى أرجاء الأرض للاستثمار له ولغيره ، طالبة منه التعاون مع الآخرين مع استخدام أسلوب الحوار قال تعالى: (ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ) [سورة: النحل – الأية: 125] وبناء على كل ما تقدم يمكن القول بأن الإسلام ينفصل ويتميز عن النظم الوضعية الحديثة ـ بعكس النظام الغربي ـ وبذا يتعزز المستقبل فى العالم الحديث لمبادئ الإسلام وقيمه العليا السامية ، لأنه يقود العالم كله بتلك القيم المطلقة والإنسانية فى نفس الوقت إلى الخلاص بعد فشل الرأسمالية الغربية ، وفشل الشيوعية ذات النظام الشمولي المستبد، وقصور العقائد الروحية الأخرى عن تدارك أحوال المعاش ، وتدبير الحلول للجماعات الإنسانية ، ومشكلات الاجتماع والاقتصاد وما يتفرع عنها من مشكلات الأخلاق والآداب. 
كانت قيم الإسلام ومبادئه العليا ، قيم ومبادئ عالمية وإنسانية ، ويمكن تطبيقها فى كل زمان ومكان ، فهي تتجاوز الآن وتتسيد بتجذرها فى الوجدان الإنساني ، وتساير الفعل فى تطوره وتطلعه إلى آفاق مستقبلية رحبة . ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد المؤرخ الكبير”توينبي” يقرر بأن المسار الإنساني نحو العالمية سينتفع من عطاء الإسلام فى القضاء على العرقية بجميع تفريعاتها ، وفى التخلص من مظاهر الإنحطاط التى أحدثتها المجتمعات الكحولية والمنغمسة فى الجنس والملاهي، وإذا كان “ريتشارد ب. سنون” يقرر بأن مفتاح المستقبل رهن بمعرفة كيفية مجابهة العولمة أو يتعين على كل ثقافة على حدة أن تجد نقط ارتكاز لتحركها ، فإن الإسلام ساهم على مر تاريخه فى إذكاء جذوة الفكر العقلاني والعلمي ، وربما سيطلع الإسلام بمسئولية حمل هذا المشعل من جديد. 
ونؤيد بل نعزز السند الإقناعي بأن الإسلام هو المؤهل لحل هذا المشكل بشهادة من أهلها ، فلقد صدرت صيحات تحذيرية للحضارة الغربية ، لا من أقوال رجال الدين ، بل من أقوال أقطاب العلم وزعماء السياسة فى تلك الدول نفسها ، فنجد”روبرت ميلكان” العالم الطبيعي الأمريكي يقول:” إن أهم أمر فى الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق ، ولقد كان زوال هذا الإيمان سببا للحرب العامة ، وإذا لم نجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة ، بل يصير العلم نكبة على البشرية”. 
كما يقول الدكتور “ولسون “أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية السابقين:” وخلاصة المسألة أن حضارتنا إن لم تنقذ المعنويات ، فلن تستطيع المثابرة على البقاء بماديتها وإنها لن يمكن أن تنجو إلا أذا سرى الروح الديني فى جميع مسامها ، ذلك هو الأمر الذي يجب أن تتنافس فيه معابدنا ومنظماتنا السياسية وأصحاب رؤوس أموالنا ، وكل فرد خائف من الله محب لبلده”.
إن القيم والمعايير ، المستمدة من خالق الإنسان ، العالم بكينونته وحاجاته ونزواته وشهواته وأهوائه ، المجسدة فى سيرة النبوة وبيانها ، بعيدا عن وضع الإنسان وعبث الإنسان ، واستغلال الإنسان ، مؤهلة لأن تكون معايير الشهود على الذات و(الآخر) . لذلك فالقيم المستمدة من النبوة لا يمكن إلا أن تكون واقعية قابلة للتطبيق ، حيث تعتبر مناط التكليف هو استطاعة الإنسان وفطرته واستعداداته. 
إن قيم الشهادة والشهود والتجربة التاريخية ، التى تجسدت فى حياة الناس ، بمختلف أحوالهم وأوضاعهم وأجناسهم ، فأنتجت حضارة لبني الإنسان جميعا ، هي قيم ومعايير واقعية غير خيالية أو طوباوية مثالية غير قابلة للتطبيق ، لذلك فهي باستمرار مؤهلة للشهود والشهادة على الناس. 
فالقيم التى تعتبر الخيار وعدم الاكراه مرادفا لإنسانية الإنسان وكرامته ، هي قيم مؤهلة للحكم والشهادة والقيادة للناس. والقيم التى استوعبت الحركة الحضارية التاريخية ، وقدمت قوانين وأسباب وسننا لسقوطها ونهوضها وانتهت إليها أصول النبوات السابقة واستصحبت الصواب من تاريخ الإنسانية وتجاربها 
(7)
، وحددت مواطن الخلل ، وحررت المعايير فى الانحياز مؤهلة للشهادة على الذات و(الآخر) .
وحسبنا أن نقول : بأن المساواة والعدالة ، وحرية الاختيار ، والشورى فى اختيار الحاكم وإدارة شؤون الحكم ، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان ، وإقامة حراسة بإيقاظ الوازع من داخل النفس ، ووضع تشريع ملزم من خارج النفس (ضبط المسيرة ) هي قيم جديرة بالشهادة على الذات والآخر. 
ولا ننسى أن الإسلام يسمح للمسلمين بالتعددية ، من حيث تفاوت الناس فى الرؤية والإدراك ، واختلاف المنظور ، ولذلك يعتد الإسلام بمسألة الاجتهاد ، ويشجع عليها ، ويحث فى طلبها من كافة المسلمين. ومسألة”التعددية” التى تعني الاختلاف فى الأصل الإسلامي(القرآن والسنة) تظهر فى مستويين ، كمنظومة من المبادئ والاعتقادات وسواه من المنظومات الدينية وغير الدينية ، هاهنا نواجه وضوحا مقطوعا به حين يعلن القرآن الكريم ان الله ذاته لم يشأ أن يجعل الناس أمة واحدة ، بمبادئ عامة واحدة ، وبأفهام متماثلة وبمصالح متطابقة ، ويقدم فخر الدين الرازي تعليلا دقيقا وطريفا لهذه”المشيئة الربانية” فيقول:” لو كان القرآن محكما بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد ، وكان تصريحه مبطلا لكل ما سوى هذا المذهب وذلك ما ينفر أرباب المذاهب عن قبوله والنظر فيه”.
فمعرفة الاختلاف والإقرار به يمثلان مدخلا إلى الحوار ، على أساس من الندية والاحترام ، وحيث يظهر الرشد من الغي ، يغدو لزاما على الجميع أن يقروا بالنتائج الصائبة ، ويدفعوا بها إلى الأمام فى سبيل تقدم البشرية ونمائها ، ولما كان التقدم فى العلم ، والمعرفة مفتوحا ، فقد يفيد على من قارب الصواب والحقيقة فى مرحلة أو لحظة ما من التاريخ أن يدقق ثانية فى مواقفه عمقا وسطحا ؛ إذ لعلها أو لعل بعضها قد جرى تجاوزه وغدا غير قادر على الاستجابة لمقتضيات ذلك التقدم ، دونما عنت أو تشدد أو ممانعة”ذلك لأن الحكمة ضالة المؤمن” فى ضوء مبدأ تغير الأحكام بتغير الزمان . 
وإذا ميزنا بين الإسلام و(الفكر الديني) فقد تعين على منتجي هذا الأخير من مفكرين وفقهاء ومجتهدين أن يكونوا أكثر تواضعا فى إنتاجهم الفكري، إذا كان أسلافهم رجالا ، فهم كذلك رجال ، لا يصح وضعهم فوق الشك المعرفي والنقد والمراجعة ، بل هنالك من يرى ضرورة النظر العقلي النقدي لكل ما يصدر عن”الدين” و”الفكر الديني” بهدف التعميق أولا ،وتقريبه من الآخر بكيفية عقلية مرنة ثانيا .وهكذا يضاف التسامح والحوار الذي يسمح به الإسلام إلى بقية قيمه ومفاهيمه.
ومن هنا يمكننا أن نقول : إن مصدرية هذه القيم وخصائصها ، هو الذي مكنها من التعاون والاستمرار والقدرة على الإنتاج فى عصور متعددة ، وشعوب متعددة وجغرافيا متعددة بحيث لا تستطيع أمة ان تدعي لنفسها هذه القيم إلا بمقدار ما تلتزم بها وتحملها ( للآخر) لإنقاذه من أزماته واسترداد إنسانيته .
ج ـ الرؤية الإسلامية للحفاظ على البيئة : لقد تعرضت البيئة فى السنوات الأخيرة لإفساد كبير من قبل الإنسان : غابات كاملة دمرت ، وأجناس من الطير والحيوان أبيدت عن بكرة أبيها ، وأنهار ماتت ولم تعد مياهها صالحة للشرب ، وأرض كانت تخرج رزقها رغداً فاجتثت وأصبحت لا تنبت إلا نكداً ، وهواء ما عاد عليلا ، بل مصدرا لكثير من العلل والأمراض وهذا الذى حدث فى البيئة نجم عن جهل الإنسان المعاصر بأبعاد 
استخلافه فى الأرض ، وتجاهله لما يعنيه التسخير الذى تشير إليه الآية الكريمة . فالتسخير لايعنى التدمير ، وتفضيل الإنسان على ما خلقه الله من أحياء لا يكون مبررا لطغيان الإنسان وسعيه فى الأرض بالفساد وإهلاك الحرث والنسل .
التسخير يعنى أن يستفيد ابن آدم مما هيأه الله له فى الأرض من أسباب الحياة دون إفراط أو تفريط . ودون إخلال بالنواميس الكونية التى سنها الخالق عز وجل ، والتى تستهدف الحفاظ على ديناميكية هذا الوجود ، وعلى إستمراريته حتى يأتى أمر الله . ولذلك فالإنسانية بحاجة إلى فهم أعمق لمقاصد الشارع فى الخلق ، 
(8)
تلك المقاصد التى إذا لم تعتبر فى حياة الناس، فإن ذلك سيفتح عليهم مسالك المضرات ، والمشقات ، والأهواء التى لا تحمد عقباها فى الدارين.
ومن بين المقاصد الكلية الضرورية التى دل الشرع الإسلامى على حفظها واعتبارها : “مقصد المحافظة على الكون ” بمفهومه الواسع الذى يشتمل على كل ماسخره الله لخلقه من بحار ، وأرض ، وجبال ، ومعادن وطبيعة . فما يحصل اليوم فى حياة الناس من جراء التفاعل غير الصحيح مع الكون ، وما تعانيه البشرية من تلوثات ومجاعات ، وتهديد بنفاد المسخرات الإلهية ، إنما يعبر عن جهل الناس لمقاصد الشارع الحكيم ، كما وضحتها الديانات السماوية عامة والدين الإسلامى على وجه الخصوص ، والتى دلت على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل ، كما دلت على حفظ الكون ، فهذه الأخيره تؤدى غرضين فى موضوع الإستخلاف: التسخير المادى وما يشتمل عليه من خيرات هى قوام العمران البشرى ، والبناء الحضارى فى جانبه المدنى والمعاشى . 
والتسخير السننى وما يشتمل عليه من آيات ، وسنن ، وقوانين دالة على أنه الحق تبارك وتعالى . قال عز وجل: “سنريهم ءايتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ” .فللكون دور أساسى وضرورى فى هداية الناس إلى الحق تبارك وتعالى ، فإنهم سيهلكون وما تلوث البيئة الحالى ، الذى يهدد بهلاك النسل ، إلا مظهر من المظاهر الدالة على أزمة عدم المحافظة على كلية الكون ، التى دل الإسلام على إعتبارها ، إذ بدون ذلك ستضيع كل مصالح الناس الخاصة بحياتهم المادية والمعنوية .
ولو أخذنا معالم نظرية البيئة لوجدنا الفقه الإسلامي القديم والحديث قد تعرض لمكوناتها ، ولكن في المواضع التي ترتبط بها في مجال العقيدة أو العبادة أو التشريع القانوني باقسامه ، أي في مكانها من خريطة العقل المسلم في تكييفه لها ، فالرؤية الكلية تدخل في المكونات الإبستمولوجية للنظرية البيئية ، وتدخل في المقابل في العقيدة الإسلامية التي ترى الإنسان سيدا في الكون ـ لا سيدا للكون ـ ، ومُستخلفا من الله على الكون بكائناته ومخلوقاته ، فلا هي مركزية بشرية يستنزف فيها الإنسان الطبيعة ،ولا هي مركزية للطبيعة تساوي بين الإنسان والمادة والإنسان والحيوان ، وتتجاهل خالق الكون ورسالة البشر وأمانتهم المسؤولة في الدنيا .. واليوم الآخر. 
والاستدامة تدخل في نظرية المقاصد في العدل كمقصد وحفظ المال ، ومراتب هذا الحفظ من حفظ بقاء لحفظ أداء لحفظ نماء. والقيم الأخلاقية لا تقتصر على المسؤولية تجاه الأجيال بل المسؤولية أمام الله بالأساس عن الموارد والكائنات ، بدءا من التوجيه النبوي بعدم الإسرف في الماء ولو للوضوء ، مرورا بالرحمة الواجبة 
بالحيوانات التي قد تدخل الجنة ونقيضها قد يدخل النار ـ مع تسخيرها للإنسان للأكل والانتفاع ـ ، وأخيرا ـ وليس أخرا ـ بالتواصل مع كل مكونات الكون النباتية بل والجمادات التي يؤمن الإنسان بأنها تسبح الله. 
ويحكم الإنسان في كل موقف ميزان الضرر والنفع، في الحال والمآل. والأمة توفر لسياسات البيئة التمويل عبر الأوقاف ، وتضمن الالتزام بالقواعد والنظم بالقانون ، والأهم من ذلك عبر إدماجها في السلوكيات والآداب اليومية العبادية والفردية والجماعية. 
إن الشعور بالسلام بين المسلم وبين الحياة والأحياء مسألة ذات قيمة شعورية ، ذات أثر في حياة الإنسان الواقعية ، فهو يستطيع مع هذا الشعور أن يمضي في طريقه مطمئنا ، وكلما كشف سنة من سنن الحياة جعلها طريقه للخير ، لأن كشفها لم يجئ نتيجة معركة إنما جاء نتيجة صداقة . 
فالسلام الروحي ضروري للإنسان وأولى مراحله السلام مع الكون والبيئة من حوله ، لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب الكون ويحب بيئته ، فكان يرى الهلال ويستقبله بفرح وهو يقول:” ربي وربك الله ” ، وكان يستقبل قطرات المطر بفرح ويقول:”إنها قريبة عهد عند الله ” . فهذا الشعور الإسلامي الصحيح اللطيف لا ينشأ في القلب إلا بالمعرفة الصحيحة لحقيقة الكون كما يعرضها القرآن . كان رسول الله يقول عن أُحد:” هذا جبل يحبنا ونحبه ” فيخلع عليه الحياة ويشعر بالحب منه كما يشعر بالحب له ، وهذا هو الشعور الإسلامي الصحيح اللطيف الجميل لهذا الكون وما فيه، وهو لا ينشأ في القلب إلا بالمعرفة الصحيحة لحقيقة الكون كما يعرضها المنهج القرآني المتفرد الجميل، بل إن التربية البيئية كانت واضحة في عهد 
(9)
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :”من قطع سدرة صّوب الله رأسه في النار” حملها الإمام أحمد على السدر الذي في الفلاة. 
ومن روائع ما جاء به القرآن وأكدته السنة تدريب المسلم إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يحترم البيئة فلا يحل صيدها ، ولا يقطع شجرها ، وجعل من مكة وحرمها محمية أبدية . ولعل من أوائل ما حفظناه من الحديث النبوي الشريف أن إمرأة دخلت النار في قطة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. وأن بغيا من بغايا بني إسرائيل غفر الله لها لأنها سقت كلبا كان يلهث من العطش. ومن الترهيب في حديث السدرة إلي الترغيب في جعل غرس النبت من أعظم الأعمال الصالحة “ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة” . 
العلاقة بين الإنسان المسلم والبيئة : وتتميز هذه العلاقة بخصائص وأبعاد أهمها أنها علاقة توازن وألفة وانسجام لصالح الحياة والأحياء ، بما فيهم البشر الذين هم قمة الأحياء ، وليست أبدا علاقة حرب وقلق وتنافر وعداء وصراع كما يزعم بعض الماديين الطبيعيين Naturalists الذين يقولون إن العالم الطبيعى وجد نفسه دون علة خارجيه عنه ، ويتعاملون مع بعض الظواهر الكونية على أنها ” كوارث طبيعية ” خالية من كل خير ويعدون كل كشف لقانون من قوانين الكون ، وكل تسخير لطاقة من طاقاته – وكل إختراع لتقنية متقدمة جديدة ، إنتصارا على الطبيعة ، أو قهرا لها وهيمنة عليها .
وقد بدأ كثير من علماء الطبيعة الآن يفيقون من هذا الوهم ويدركون ضرورة عودة الوفاق مع الطبيعة وأهمية إنسجام الإنسان مع الكون ، خاصة بعد كشف كثير من آليات الطبيعة وظواهرها والإدراك لذلك التوازن الدقيق بين قوانينها ، وعلى ذلك فكما يقول ” هايكل ” ، فـإن الإيكولوجيا “علم تناسق الطبيعة ” ، تستهدف تسليط الأضواء على علاقات متبادلة لم تكن تخطر على بـال .
ومن هنا ندرك مدى دقة القرآن الكريم فى التعبير عن العلاقة بين الإنسان والبيئة المحيطة به ، فلقد صور القرآن الكريم فى كثير من آياته الكريمة حقيقة تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان والبيئة ، وأخبر الحق تعالى بأن كل مكونات البيئة فى هذا الكون الفسيح قد أعدها لإستقبال الحياة ولكفالة الأحياء فقال : ” ألم تروا أن الله سخرلكم ما فى السموات وما فى الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة ومن الناس من يجدل فى الله بغير علم ولاهدى ولا كتب منـير‎”
كما أكدت السنة المطهرة لعلاقة المودة الصافية بين الناس وما تحتويه بيئتهم من موجودات حية وغير حية ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن جبل أحد ، وهو يدلله تدليــل الصديــــق : ” هذا جُبيل يحبنا ونحبه ” .فيخلع عليه الحياة ويشعر بالحب منه كما يشعر بالحب له ، ومثل هذا الشعور بالقربى يلقى فى النفس بعُدا إيمانيا يزيد من انفساحها للكون والإقبال على التعامل معه بكل الطاقات الإبداعية . وحينما قال النبى صلى الله عليه وسلم : ” أكرموا بنى عماتكم النخل ” . فذلك منه تعبير عن وشائج الألفة بين الإنسان وعناصر الطبيعة ، ألفة نبتت جذورها من الوحدة المتعددة المظاهر بين الإنسان والكون .
ومن البين أن هذا الأثر النفسى من المودة والألفة ينفى من نفس الإنسان مشاعر الخوف والعداء التى تتأتى من إعتقاد الغربة والتناقض ، إذ الإنبتات وانعدام الوشائج تزرع فى الإنسان الشعور بالغربة ، والشعور بالغربة إزاء شئ من الأشياء أساس لنشوء الخوف والعداء . وانتفاء مشاعر الخوف والعداء إزاء الكون هو الشرط الأول لصنع مناخ نفسى تستعد فيه نفس الإنسان للإقبال على الكون والانفتاح عليه ، والتعامل معه بتلقائيه ويسر إذ تختفى حالة التوتر والجنوح التى تؤدى إلى تعطيل الطاقة الإنسانية وتصدها عن الامتداد الطبيعى الفعال .
ومن المبين أن إفتقاد البشرية لهذا البعد الإيمانى والشعور النفسى القائم على المعرفة الصحية لطبيعة العلاقة بين الإنسان والبيئة ( الكون ) كما يعرضها المنهج الإسلامى المتفرد ، هو الذى يدلنا على طبيعة الحرب التى شنها الإنسان على نفسه فى غمرة إنشغاله بثورة العلم والتقنيه ، فهى حرب ضد الحياة على كوكب الأرض ، والإنسان المتورط فيها هو ذاته الذى يسعى جاهدا الآن ليكسبها ” إنه كان ظلوما جهولا ” .
(1.)
ومن هنا لا يكون غريبا أن نجد عناية الإنسان فى الإسلام تمتد إلى كل مظاهر الكون ، سواء هذا الكون المادى أو ذلك الكون المتمثل فى الكائنات الحية من نبات وحيوان وطير . فنجد الحديث الشريف يقول : ” ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقه ” . واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم غرس الأشجار وتطهير الأنهار وحفر الآبار وغيرها من الأعمال النافعة صدقة جارية فقال : ” سبع يجرى للعبد أجرهن وهو فى قــبره بعـد موتـه : من علم علماً أو كرى نهـراً ، أو حفـر بـئراً ، أو غرس شـجرة ، أو بنى مســجداً أو ومصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته ” .
وقد أمتدت عناية الإسلام بالرحمة والاشفاق على الحيوانات باعتبارها أحد العناصر الحية فى البيئة فعن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ” دخلت أمرأة النار من جراء هرة لها ربطتها فلاهى أطعمتها ولاهى أرسلتها ترمرم من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا ” . وعن عبد الله بن عمر رضى الله عنه قال : ” ما من إنسان قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله تعالى عنها ، قيل وما حقها ؟ قال : ” يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها يرمى بها ” . كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم : ” اتقوا الله فى البهائم المعجمة ، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة ” . وما روى عن شداد بن أوس : ” إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته ” .
وتتسع الرحمة لكل كائن حى فى قوله عليه السلام : ” فى كل ذات كبد رطبة أجـر ” . إن الإسلام نهى عن الإفساد فى البيئة حتى فى أوقات المعارك والجهاد ضد الأعداء فيقول الرسـول صلى الله عليه وسلم آمـراً جنـده : ” لا تقتـلوا امـرأة ولا وليـداً ولا شـيخاً ولا تحرقـوا نخيــــلاً ولا زرعـاً ” . كما أن للمجتمع والبيئة حقوق على كل مسلم ، ومنها حق الطريق ، ففى حديث أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : ” فأعطوا الطريق حقه . قالوا : وما حقه ؟ قـال النبـى صلى الله عليه وسلم : “غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ” .
ومن هنا لم يكن غريبا أن نجد باحث معاصر، يرجع تلك المشكلات البيئية المفزعة إلى تراجع الروح الدينية فى العالم الغربى ، والإفتتنان بالعلم فى قدرته الكشفية والتكنولوجية الهائلة، كان هو السبب القوى فى إغراء الإنسان بمصارعة الطبيعة بقصد إخضاعها لرغائبه المادية .
من هنا تأتي أهمية التربية البيئية للناس عامة وللنشء خاصة فالتربية البيئية تساهم في رفع الوعي البيئي لدى الناس ، وتغيير العادات غير المرغوبة فيها ، وتبديلها إلي سلوك بيئي إيجابي يساهم في تحقيق التنمية المستدامة ، غير انه من الأهمية بمكان مشاركة جميع فئات المجتمع ورجال الفكر والصناعة والإعلام وجمعيات النفع العام من خلال برامج مدروسة للتوعية البيئية.
القيمة الجمالية : وهناك بعُد جديد يغيب عن كثير من الباحثين والمهتمين بشئون البيئة ، ولكنه لايغيب عن الرؤية الإسلامية ، ذلك هو البعد الجمالى – الذي ينبغي أن نضمنه للتربية البيئية للطفل والشاب المسلم ، فعند إستقصاء حكمة الخالق فى إبداع الكون وتكوينه يجب أن يستشعر الإنسان حقيقة البعد الجمالى فى العلاقة بين الإنسان والبيئة ، وهو ما يقابل القصد الإلهى فى إبداع الكون الجميل الصفات العجيب التلوين والتكوين ، يقول الله تعالى : ” ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرت مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سوء . ومن الناس والدواب والأنعم مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلموءا إن الله عزيز غفور” .
وهذه الدعوة القرآنية إلى تأمل الجمال الكونى ، هى دعوة إلى الإرتفاع بعلاقات الإنسان بالكون والبيئة إلى مستويات عليا من السلوك والرؤية الإنسانية النبيلة فى مستويات الإصلاح والإعمار لا تقتصر فقط على الإصلاح المادى ، بل تتعداه إلى الجمال المعنوى البادى فى الكون والذى يسعى الإنسان إلى تأمله والمساعدة على الاحتفاظ به وصيانته ، وهى دعوة فى حقيقتها إلى التفوق فى مجال العلوم الكونية المعنية بدراسة ظواهر الكون والحياة للإفادة منها فى تطوير حياة البشر وفهم أسرار الوجود 
(11)
ويؤكد أهل العلم البعد الجمالى فى علاقة الإنسان بالبيئة إلى الحد الذى يجدون فيه أن النظر البليد إلى الأرض والسماء دون إحساس بالجمال هو نوع من المعصية ينبغى أن نتوب عنـه . فالمتأمل فى السماء وما يدور فيها من كواكب وما ينتشر فيها من أفلاك ، يجب ألا يغفل عن زينتها التى نبه إليها الحق فى قوله تعالى : “ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزينها للناظرين ” . 
فالجمال سمة بارزة من سمات هذا الوجود ، إن لم تكن أبرز سماته ، والحس البصير المتفتح يدرك الجمال من أول وهلة وعند أول لقاء ، وهو ليس أمرا ضروريا فى هذا الكون ، على الرغم من تجليه فى كل مكان ، ومن هنا يعتبر من كمال هذا الكون ومن تمام هذا الوجود ، وهو نوع من النظام ، والتناغم والأنسجام ذو مظاهر لاحصر لها فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط ومظاهر أخرى كثيرة يشعر بها الوجدان وإن لم يستطع التعبير عنها ببيان .
وعند النظر إلى الأنعام من زاوية فوائدها المادية وقيمتها كثروة حيوانية ، يجب أن نحافظ على الصورة الجمالية التى عبر عنها القرآن الكريم بقوله: “والأنعم خلقها لكم فيها دفء ومنفع ومنها تأكلون . ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون ” . ولما كان الجمال مقصودا قصدا فى خلق الكون ، وكان البعد الجمالى ضروريا فى علاقة الإنسان بالبيئة ، فإن ما يحدث فى عصرنا من أشكال التلوث البيئى المختلفة يجب النظر إليه على أنه إعتداء أثيم على توازن البيئة المحكم وتشويه متعمد لشكلها الجمالى الذى جعلها الله عليه . ومن ثم يكون العمل على حماية البيئة من مختلف أشكال التلوث والفساد ، والإبقاء على الجمال فى صفحات الكون ، مطلبا إسلاميا عزيزا تستحث لأجله الهمم وتستثار الغرائز . 
ولكن هذا يقتضي من المسلمين الآن الفهم الكامل والحقيقي للإسلام كما تجلى في نصوصه وأحكامه مع مراعاة الواقع الراهن ومسايرة تلك المتغيرات العالمية الراهنية والتى تستدعي التطور مع العصر ، وتبني رؤى جديدة ، من أهمها : 
1ـ ضرورة إحياء المنهج العلمي ، وأسلوب التفكير العقلي المنضبط فى فهم النصوص الدينية وبصفة خاصة ما يتعلق بفهم مقاصد التشريع ومراميه الأساسية حتى لا يؤدي الوقوف عند النصوص الجزئية المتفردة إلى غياب الوعي “بالروح العامة” وهو الغياب المسؤول عن صور متعددة من صور التطرف الفكري والانحراف السلوكي الذي يرفع أصحابه ألوية وشعارات دينية.
2ـ ضرورة إشاعة منهج “التيسير” ورفع الحرج وتمكين الشباب من أن يمارسوا “التدين” فى جو من الراحة والبهجة النفسية ، بدلا من منهج التشدد الذي تذبل معه الملكات ، وتضيق فى ظله الحياة ، وتنتشر روح الكآبة والانقباض ، لتنطق بعد ذلك فى صور متعددة من صور الخصومة مع المجتمع واتهامه وإدانته والخروج عليه.
3ـ ضرورة تصحيح الموقف من الآخر ، فالمسلم ليس عدوا لأحد ، والمسلمون شركاء لسائر الأمم والشعوب فى السعي لتعمير الدنيا وتنميتها بسلطان العقل وترشيد علاقات الأمم والشعوب معها بعلاقات التعاون والتكافل وتبادل الخبرة والتجربة. وشعارهم فى ذلك الاقتراب لا الاغتراب ، والاتصال وليس الانفصال ، والمـشاركة الفعــالة البناءة وليست العزلة فى”حوزة” خاصة بهم وحدهم. 
4ـ ضرورة إحياء قيمة السماحة والرفق ، وهي قيم أساسية فى الإسلام والثقافة العربية، ترك العنف وترويع الآخرين الآمنين. 
5ـ إدراك أن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس دعوة للفوضى ، وفرض بعض الناس وصايتهم على سائر الناس ، وإنما هو واجب كفائي نظمته الشريعة، وجعلت من أحكامه أن النهي عن المنكر إذا أدى إلى وقوع مفسدة أكبر وجب تركه إعمالا لقاعدة أن “الضرر الأكبر يُدفع بالضرر الأصغر”.
6ـ التذكيرالدائم بحرمة الإنسان الآخر ، دمه وعرضه وماله ، واعتبار العدوان على الأبرياء جريمة من أكبر الجرائم ، حتى لا يقع بعض الشباب فى وهم استباحة دماء الآخرين، استنادا إلى مبررات لا يقبلها 
(12)
الإسلام ، ولا يقبل فى شأنها اعتذارا بجهل ، فالمسلم الحق فى نظر الإسلام “من سلم المسلمون من لسانه ويده” .
ونحن لا نستغرب أن يأتي يوم تتمكن فيه القوى الإسلامية فى العالم من توحيد صفوفها وإنجاز مشروعها الحضاري فى تحقيق العالمية التى سادت فى يوم من الأيام عالم العصور الإسلامية الزاهرة ، ففي القرن السابع الميلادي سقط العالم الفارسي تماما أمام الحضارة الإسلامية ، وكذلك سقط الجزء الأكبر من من بيزنطة خليفة روما. وامتد العالم الإسلامي من حدود الصين والهند إلى وسط آسيا والقوقاز وإلى الشام ومصر ، وكل إفريقيا الشمالية والأندلس . وبذلك انتهت ازدواجية القوى الشرقية والغربية إلى قوة واحدة ذات حضارة إسلامية واحدة ، متعددة اللغات ، وإن ظلت اللغة العربية هي لغة الكتابة والثقافة لفترة طويلة. 
لقد استوعبت العولمة الإسلامية فى أرجاء هذا العالم كل الأصول الإيرانية الهندية التركمانية من ناحية ، والكثير من الثقافات الإغريقية والتنظيمات الرومانية المنتشرة فى حوض البحر المتوسط كما امتدت إلى شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا ، وأنشأت علاقات تجارية مباشرة مع الصين وبلاد الروس والبلطيق وأوربا. 
ولم تكن عولمة الإسلام ، عالمية سياسية فقط ، بل فى المجال الاقتصادي بنى الإسلام مفهوم القيمة على القيمة الذاتية للموارد المالية من المسخرات ، وأصـبح فائــض القـــيمة لـــيس مــن حق العمال كما هو فى النظام الشيوعي ، وليس من حق صاحب المشروع الذي يعتمده النظام الرأسمالي ، بل هو ملك لله ، يجب أن يتصرف فيه المالك كما أمر الله عز وجل ، فقد قال تعالى :” وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد فى الأرض ، إن الله لا يجب المفسدين”(القصص آية77). 
فالإسلام لا يجيز المال أن يكون دولة بين الأغنياء ، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو حتى دولا ، وهذا ما تفضي إليه العولمة الغربية ، وقد عمل الإسلام على تفتيت الثروة وإعادة بنائها ونمائها ، من خلال الإرث والزكاة. وفى باب التنظيم الاجتماعي ، أكد الإسلام على الترابط الأسري ، وبنى المجتمع على الأسرة النووية التى تمثل نواة للمجتمع ، ثم الأقارب ، ثم العشيرة ، فالمدينة ، فالقوم ، حتى ينتهي الأمر للبشرية جميعا. وأسس العلاقات الاجتماعية على التراحم والتسامح والعفو ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحمل كل فرد المسئولية ، وجعله راعيا ، فالرجل راع فى أهله ، والمرأة راعية فى بيتها ، وهذا يؤكد حق الولاية الخاصة والعامة الذي يقره الفقهاء للمرأة. لقد جعل الإسلام ميزان التفاضل بين الناس معتمدا على التقوى ، وليس على المال ، أو الجاه ، ولذلك سادت قيمه وأرتفع شأنه في عصور ازدهاره ونهضته. 

شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *