أنوار طاهر*
خاص ( ثقافات )
قد يكون لبلاغة الرعب المتداولة في الواقع المعيش والمتضمنة في العلاقات الاجتماعية النمطية والتقليدية المتسيدة والسائدة؛ أو في العالم الميديائي المسيطِر بصورته المرئية وغير المرئية، آثاراً مرضية غير محددة الملامح والأبعاد في عملية تشكيل الذهنية الإنسانية بكل ما تتضمنه من أفعال إنتاج القرار والاختيار والانتقاء بين العبارات وتمييز القول الملائم مع المعيار الأخلاقي السائد من غيره. ومع تكنولوجيا الصورة الميديائية والمؤسسات الإعلامية، اتخذت طريقة بث هذه البلاغة والسعي إلى تثبيتها وغرسها في النفوس البشرية أشكالاً أكثر خطورة في الوقت الراهن.
إذ نلاحظ اليوم مع البث الإعلامي المكثف يومياً والمباشر لصور القتل والدم والعنف والعداء والمغالاة والتطرف والموت، أن هناك حالة من “التآلف اللاشعوري” توجد فينا قولاً وفعلاً، أخذنا في التحول معها إلى كائنات متفسخة خلقياً وأخلاقياً، منعدمة فيها جميع الحواس الإنسانية، وترتضي بحالة اللامبالاة لتلك الظواهر التي تجاوزت كل وصف، ولم نعد نجد في اللغة من المفردات ما يسعفنا في التعبير عما يجري من عمليات مسخ دوري من خلال غسل الأدمغة ومسح الذاكرة الإنسانية وتعميق الهوة بين الأجساد أي بين الذات والآخر وتسييس علاقاتهم الاتصالية النزوية اللاسوية.
عندما تحدثت حنا أرندت عن ظاهرة التآلف مع الشر وصناعتها من قبل ماكينة الرعب التوتاليتارية، إنما كانت تستشرف ما وصل إليه الحال بنا إلى رؤية صور الدمار والقتل والتفاعل بدم بارد مع ملحقاتها من مشاهد الجثث وأعضائها المبعثرة المتناثرة، والوصول بنا إلى قتل أي إمكانية للتفكير بأنهم كائنات إنسانية تعيش معنا على نفس هذه البسيطة. فهم مجرد صور تمر على أبصارنا دون أن نتبصر جيداً، نقرأ دون إمعان وتمييز.
إنها ليست بالعملية المتعمدة في تدمير الإمكانية الإنسانية في بناء الثقافة وتعليم كيفية التثقف وإنشاء نظام من التربية والتعليم السوي فحسب. إنها إرادة النخبة الحاكمة والمسيطرة وأدواتها المؤسساتية ووكلاؤها المعتمدون “المزعوم والمدعوم منهم مثقفاً أكاديمياً” الذين يدفع بنا نحو هاوية الاجترار والاقتتال والصراع الأناني بجميع الوسائل دون استثناء أو تمييز. حتى تخشبت أقوالنا وعباراتنا وصرنا نفتقر لإمكانية إتقان لغة تتسم ببعض من ملامح العاطفة الإنسانية والدفء والحميمية، وهي لغة تتعارض تماماً مع الواقع المرير والقاسي، والذي يضرب بقوة دون رحمة وهوادة لا سيما من أصحاب الطبقات القديمة/ والجديدة المتدثرة بقانون السلطة المتنفذة والمتجددة برؤوس الأموال العابرة للقارات.
كن قاتلاً بالكلمة والممارسات اليومية وقابلاً على إنجاز فعل الإجرام [القتل والإجرام تجاوزا منذ زمن بعيد المعاني التقليدية الجاهزة]. هذا هو إنساننا اليوم، لنعترف بذلك ونقر بحقيقة قتلنا لكل إمكانية حاضرة في ولادة “يوسف” جديد، فالإخوة الأعداء حاضرون على الدوام ويتوفرون على استعدادات عالية وجاهزة في القتل والإجرام بدءاً من الكلمة ونحن الذين نذكرها مراراً وتكراراً “الكلمة الطيبة صدقة”.
لم تصل ثقافتنا إلى حال “التصدق” بالكلمة إلا عندما حولنا إنسانيتنا إلى “صحراء بلا أبعاد” من الجفاف والتخشب والتحجر. هذه الصحراء غرسها وما زالت تغذيها المنظومات اللغوية والسياسية والأكاديمية “الوعظية”. وبئس المصير لمن كان لديه ذرة من الإحساس والوعي والإدراك في كشف الحجب عن هذه الملل المتطرفة في الكراهية وزرع بذور الحقد والضغينة.
[من بين الصور الدموية الكثيرة والتي ينبغي علينا أن نتآلف معها، وما زالت عالقة في ذاكرتي المتشمعة بها: كنت ذاهبة إلى مكان عملي في أحد الصباحات المغبرة في العراق، وكان سائق السيارة يحاول مثل غيره من سائقي السيارات تجاوز إحدى الجثث المجهولة الهوية والملامح والملقاة وسط الشارع].
مع مآسي هذا الواقع… ما زال هناك مكان واسع تزدهر فيه الشعارات اليوتوبية.. تخيلوا!!!! كل ذلك بفضل وكلاء السلطة المنتشرين في كل بقاع الأرض، بمؤسساتهم المساهِمة في مجالات التعليم والنشر والطباعة والإعلام والفن والأدب والثقافة… حيثما تولوا فثمة وكيل حافظ للسلطة ومبادئ الجمهورية الاستبدادية…
*باحثة ومترجمة من العراق- متخصِّصة في الدراسات الفلسفية والحجاجية