كلمات أُنسي الحاجّ ليست سهواً..


*زينب سرور


وحدهم الّذين يشعرون بقرب أجَلهم يتجرّؤون على البوح. هم يرونَ الأشياء على غير ما نراها. يتعاظم لديهم الإحساس بسخافة الأشياء وأهمّيّتها على حدٍّ سواء. تكثر أسئلتهم: من؟ ما؟ متى؟ كيف؟ أين؟ لمَ؟ هل؟ قد؟ تتملّكهم حشريّة التّواصل مع كائنات الدّنيا، والغوص في أعماق ذواتهم. تُصبح المخفيّات لعبتهم. لا يخشونَ خسارة الأشياء. النّفس، أعزّ الأشياء بالنّسبة للفرد، على طريق الزّوال. وما عداها يُصبح تفاصيل.
أُنسي الحاجّ أحدهم..
رُبّما كان أفضل خيارٍ اتّخذه أنسي قُبيل رحيله، تأجيل نشر آخر كتاباته قليلاً. جاء القرار أن تُعرض الكتابات بعد موته. خاطب ابنته ندى: انشريها بعد رحيلي. فكان له ذلك. لو كان أُنسي على قيد الحياة لجاءت ردود الأفعال: كلام رجلٍ لا يزال بيننا. بغيابه، تترك الكلمات انطباعاً سحريّاً ناجماً عن فردٍ يتّخذ، اللّحظة، من “مكانٍ بعيد” عالماً له.
في نصوصه المقروءة للمرة الأولى، يقرّر الشاعر البوح بالكثير عن غير سابق إصرارٍ وتصميم. “كان هذا سهواً”، اختار لنفسه عبثيّة البوح، الكلام. “كان هذا سهواً. لم أكتب هذه الرسائل وتلك المقالات، ولم أكن قليلاً في الأيّام حيث كنت”. أنسي يكره اللّهث وراء الأشياء لكشف حقيقتها. “من يتحمّل الحقيقة؟ لماذا البحث عنها، لماذا الحقيقة ولا أحد؟”. يصل إلى حقيقته الخاصّة “لا أحد، يتحمّل الحقيقة”. لا تستهويه فكرة النّظام المُتعِب، ذاك الّذي يستنزفون أنفسهم من أجله. لهذه الأسباب مجتمعةً، كانت كتاباته “سهواً”.
ندى الحاجّ، “دار هاشيت أنطوان”، مؤسّسة “أنسي الحاجّ” أخذوا على عاتقهم مهمّة عرض المخبّأ. 234 صفحة تحوز شرف احتواء كلمات “ما قبل الرّحيل”. أُنسي لا يخشى الموت. عصف به المرض الخبيث فاستقبله برحابة صدر. “للمرء الحقّ في إنكار حياته إن هي لم تُشبه مُناه”. وهو يكتب، يعبّر، يُخاطب نفسه، كان وجه ليلى يتراءى أمامه. تلك ليلاه، زوجته، “أمّه الثّانية”. تلك الّتي كان يخفّف عن نفسه بالقول: ربّما استحققتكِ ذات يومٍ بالحبّ. ولكن أيّ تخفيفٍ وقد فشلتُ في أن أستحقّكِ بممارسته؟ وظلمتكِ كما لم يظلمني أحد.
عبارات ما قبل الرّحيل تخاطب الموت كثيراً. “ستذهب إلى مكانٍ تُسمع فيه روحك أكثر”. نفسه هي تلك التي يخصّها بصيغة المخاطب. في سَريرته، يُدرك أُنسي جيّداً مآله: “أقول إنّي ذاهبٌ إلى العدم/ لكنّي أظلّ أعلّل النفس بانّ أحداً هناك لن يقبض يأسي، وسوف يعدّ لي مفاجأةً سارّة”. هذا التّفاؤل أصبح رديفاً لاسم أنسي الحاجّ.
يحمل قلماً ويسطر رؤاه. الأموات حوله، يراهم، يكلّمهم، يبتسم لهم. ذاك حقّاً امتياز. “يسمع الموتى. البعض يعرف ذلك. يشوف الموتى. البعض ارتجف من اختباره ذلك. الموتى لا يخذلون مخاطبيهم، وهم يعطونهم نظرة امتنانٍ مفعمة بحرارة التّشجيع. إن خاطبتهم فافتح قلبك فهم عطاشٌ إلى الصّدق. وإن نظرتَ غليهم فلا تجزع، فعيونهم أجمل من عيون الأمّهات. الموتى أصدقاءٌ يبتسمون”. يقول أُنسي، يبتسم، ويغبر أسوار أعماقه أكثر.
من بين أنياب المرض والعجز، يخرج أُنسي الطّفل. يخلع بذلته الرّماديّة، ليرتدي ملابس طفوليّة. يحكّ بأنامله قرنةً من ذاكرة. يسأل نفسه: متى تعلّمنا الكذب؟ سُرعان ما يُجيب “أوّل نعرة غيرة أذكرها هي يوم رأيتُ، طفلاً، أنّ الكبار يكذبون، وأنهم يكذبون أفضل منّي”. 
من يحبّ الله أكثر من أنسي؟ ربّما كثر. من يُعبّر عن ذاك الحبّ أفضل من أُنسي؟ قلّةٌ قليلة. يكسر أُنسي الحواجز بينه وبين ربّه. بينه وبين صديقه. ينفض عنه غبار الانتظار، ويمضي. الانتظار وهم. يُهيّأ للمُنتظر رؤية القادمين، لكنّ الأمر لا يعدو كونه سراباً سرعان ما يتلاشى لحظة الالتماس.
يروي أُنسي قصّته: “في مطلع العمر/ وبعدما كانت حياتي حتّى ذلك الوقت/ انتظاراً كاملاً وهائلاً لمجيء الله فيَّ/ غضبتُ لأنّ انتظرتُ ولم يحدث شيء/ وخرجتُ من دائرة الانتظار/ ولعنتُ نفسي/ وفي إحدى الأمسيات/ وفي واحدةٍ من تلك الأمسيات اللّطيفة/ الّتي تُنسيكَ أنّ أيَّ شيءٍ على الإطلاق يُمكن أن يحدث/ او أن يكون قد حدث/ وتُركّز فيكَ الشّعور بأنّ شيئاً لن يحدثَ أبداً/ وأنّ الحياة هي هذه الهَدهَدة المريحة المقطوعة بين الفتة والفترة/ بمزعجاتٍ قدريّة لن تهزَّك بعد اليوم/ جاءني الله/ وأنا لا أنتظره/ ولا أنتظر شيئاً ولا أحداً/ جاءني ولم يعُد يُفارقني.
تلك حكاية تُروى للأطفال قبل خلودهم للنّوم.. 
تُرى، ذاك الجريء، الّذي ينظر في عيون الموتى، الّذي يلقاهم بابتسامة، الّذي ينتظر المفاجآت من عالمه الآخر، ممّ يخاف؟ يخشى؟ يرتعد؟ كحبّ أُنسي، كقوّته، يأتي خوفه. خوفٌ من أشياء عابرة لآخرين. تلك المنارة فوق البحر “مخيفة/ مجنّحة، مهولة أكثر من دبيب اللّيل/ تستقطب رؤى البحر وأرواحه، تغسله منها، فتغدو هي مستوطنة شياطينه/ تُنير وتعجّ بالأشباح”.
انغماسه في الّذات يجعل المحيط به أكثر سطوعاً. يضعف أمام المتمرّد “الوديع إذا يضيق صدره بالظّلم”. يتساءل عن فحوى عباراتٍ لتكرارها أضحت من المسلّمات “عن أية أقلّيات دينية يتحدّثون؟ عندما ينظر الواحد منّا إلى تاريخ حياته فيرى أنّه منذ الطّفلوة حكاية كبت نفسيّ وجنسيّ وفكريّ وروحيّ اجتماعي ومعيشي وسياسيّ متواصل، فليقلْ: بل أنا الأقلّيّات!”. 
له عتبٌ على نيتشه. أين نحن اليوم ممّا وصل إليه نيتشه بأنّنا لم نعد مُكرهين على العيش في الرّعب الدّائم من الوحوش الضارية، والبرابرة، والآلهة، ومن أحلانا نفسها، أين نحن من هذا اليقين المظفّر؟ وكعادته، يملك الإجابة “ما أفتى به نيتشه من حروب ومجازر دليل على نقيض ما أتى به. الوحوش والبرابرة لا تزال تتعاقب علينا تعمل فينا إدارةً ونهشاً.. لو وضع خاطرته على صيغة آمال لحالَ دون هذا التّشاؤم القاهر بذلك التّفاؤل البريء.. لعلّه قصد نفسه”.
مهما اختصرنا، يبقى الحديث في أوّله. التّتمّة حاضرةٌ دائماً، كأنّها ترفض إعلان النّهاية. رفضها هذا يُكرّس خلود الشّاعر. من هو أُنسي؟ صاحب “الخواطر”. ذاك الّذي يراك “قصّةً قد تعرفها وحدك، وقد لا تعرفها، ولا أحد يُبالي”. ذاك الّذي يتخيّل المسيحيّة منفصلة عن خلفيّتها اليهودية، ويتساءل عن الإصرار على الانتساب إلى سلالة داود؟ ذاك الّذي يتحدّث بجرأةٍ عن علاقة اليهودي بخالقه. يرى فيها جرأةً وتمرّداً وعصياناً.. وعدم قدرة للخالق على الانعتاق من عبيده. ذاك الّذي يرى الأشياء من زاويةٍ مُبهمة.
في “مسرح المدينة”، جلست السوبرانو هبة القوّاس خلف البيانو. حرّكت أناملها على الآلة، أنشدت “غيوم أُنسي”: غيوم، يا غيوم، يا صعداء الحالمين وراء النّوافذ/ غيوم، يا غيوم/ علّميني فرح الزّوال!..
__________
*السفير

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *