شوقي أبي شقرا *
صباح زوين إنما هي العقد والواسطة معاً، انما هي الشاعرة في مبتدأ السيرة، وهي التي أدركت الحرفة كما الحرفة أدركتها. وهي التي في الزمن الحاضر، في الحقبة حيث نحن جالت وذهبت وسارت الى أماكن السفر، واقتربت من المنابع، من مصادر الماء الحي، ومن جذور المسألة الشعرية التي طالما كانت لها سطوة عليها، وكان لها أن تكون القيمة في فنون النقد والكتابة، وأن تكون، الى سعة كبيرة، مالكة النباهة، وشديدة اليقظة نحو ما حولها من الكتاب الى الكلمة الى الرأي الذي هو السديد والنجيب والقشيب.
ومع صباح التي غابت في صباح أمس، في ضحى القصيدة العذبة، وفي موجة جسدها الذي هو نحيف، في الدرجة الأولى، لكنه ألقى عليها وزنه الناعم، وتقاصر عن الحياة، عن الدفاع بغية دحره، والبقاء على التوبة المهذبة وعلى أن تكون حارسة في هيكل القصيدة. إذن معها نصمد في محطة الانتقال وفي أي مذهب من مذاهب العبور. ولو أخفقت في الامتحان الرئوي وبسط عليها الملاك ذلك الغطاء، غطاء أن ترحل وتترك في أصحابها، في رفاقها، في رفيقات لها، هنا في وطنها وهناك في الجهات المثلى والمتباعدة أثرها ولونها. وأن تترك الأدوات التي مارستها وأرهقتها بما لديها من القدرة ومن الطاقة على أن تكون لها جبلة، لها أمثولتها في أن تصطف العبارات وأن تصوغ القصيدة، ذلك الشأن الجلل عندها وذلك الطابع الذي لأنه قطاف، ولأنه يحتدم بعضه مع بعض، ابتكر لذاته أنفاساً، كما لطريقتها التي تغلي في قدرها وتفوح منها جلبة الصفوف، جلبة المدرسة، ثم يرتاح الجميع، وترتاح هي لأنها قفزت من البطيء والواقعي، الى محلة السمو فوق العادي، فوق المعتاد.
وصباح، في مؤلفاتها، بين اللغة الفرنسية ولغتها العربية، عارمة الدهش، عامرة المزيج اذ راحت تقولب ما لديها من الحروف ومن المعاني ومن الصمت ومن علم الاشارة، قطعة قطعة. وهنا الديباجة اليائسة، والمحرومة والواقفة على سنّ الجملة، على سلالم المغامرة المفتوحة على العوالم وعلى الاذهان حين تستفيق. وحين تأخذ من زوّادتها تلك، ما يحلو لها وما ينزل في القارئ برداً وسلاماً.
وصباح في الوسط النسوي، كانت الرمز بينهن، كانت العاشقة لما تخطّ ولما تصنع عبر اناملها الدقيقة وعبر ريشتها. وهي سريعة وشرسة وحنونة، وهي عنيدة الرأي والنظرة. ولها ان تفخر وان نحن نفخر مع الارث الذي لها، بهذا الارث الذي لا ينقشع امره بل تظل السحابة مطراً جميلاً ولا يتهاوى بل تظل الشاعرة شجرة على عتبتها على ارضها الممرعة، وتظل كما يقال من الامثال حرية بالبقاء، وبأن تمكث ولها علامتها ولها شعارها وهو ان لا ذبول في المسار، ولا خمول في طلب العلى وفي راحلة المرتحلين الى الجديد، الى الانغام الحديثة، الى تلك الآية من التعابير ومن لفّ العصارة كما يلفّ التبغ.
وصباح تحرص على اللحن وعلى الوتر الذي يصيح ويتدارك الخفوت. وكأنما في نصها غلاب بين القائم وعدمه وبين المارد والقزم وبين السأم وعدمه. وهي دائمة الصراع اذ تنكبّ على الورقة على الابجدية وتحرز كل مرة مكافأة التجديد بما يؤلف الجو الذهني، المناخ الشعري حتى الوصول الى خاتمة هي كومة تساؤلات.
ونودّع مع صباح جسدها الذي ملؤه العذاب. وكم عانت ومرضت وخافت وألحّت على ان يكون ماثلاً للعافية، وان يكون حاملها المتأنق والفوّار الحركة. لكنه ترجرج في داخله واضطرب الميزان، لكنه كان زهوقاً اذ لا يستطيع سبيلاً الى ان يكون عقبة. وهذه نصوصها تسرف في بثّ الطيب والناصع والمختلف.
وحقاً انها لمختلفة صباح زوين، وما صدّق احدهم او احدنا، انها اسقطت الوشاح واسقطت الجبة والفستان. بل انها في ضوء الأبدي والسرمدي وفي ضوء النجمة الخالدة العطاء. وانها في ما اعطت لا تلجأ الى الالفاظ حيث الشك وحيث الارتباك. بل انها كالحرير وكما هو النول. وحافظت على ميراثها كما يليق به المثول امام المستقبل وكل أوان.
* النهار