*عبد السلام بنعبد العالي
«هناك قضية تبلغ أهميتها عندي مبلغاً خاصاً يتوقف عليها مصير الإنسانية جمعاء أكثر مما يتوقف على أي حذلقة كلامية، إنها قضية نظام التغذية».
ف. نيتشه
«لقد حلّت الصحة في أيامنا محلّ الخلاص». نقرأ هذه العبارة عند ميشل فوكو الذي كان قد اقتبسها عن أحد المؤرخين، وهو يوردها ليستدل على ما يطبع عصرنا من «صحوة» للأجساد. لسنا مجبرين، بطبيعة الحال، أن نتبنى، نحن كذلك، التقابل الذي تنطوي عليه القولة بين خلاص الروح و«خلاص» الجسد، إلا أننا لا نملك إلا أن نقرّ بأن تلك «الصحوة» تجد كامل مصداقيتها عندنا، نحن المسلمين، خلال شهر رمضان على الخصوص. ذلك أن العناية بالصّحة و«تدبير الأجساد» يتخذان عندنا خلال الشهر الكريم شكلا لافتا للنظر. فهذا الشهر، الذي هو بلا منازع شهر الإمساك عن شهوات الجسد، يقترن عند كثيرين منا بعناية مبالغ فيها بالجسد، وإفراط في ممارسة جميع أشكال الرياضات. يتجلى ذلك أوّلا في اتباع موضة الجري، الجري صباح مساء، الجري في الطرقات وفي الغابات، في الشوارع وفي الأزقة. كما أنه يتميز بالاهتمام الكبير بفنون الطّبخ وأنظمة التغذية، وطغيان البرامج الإذاعية والتلفزية المخصصة لذلك، وكذا انتشار كتب الطّبخ والمجلات التي تهتم بتدبير الأجساد و«سياستها» la gestion du corps وفبركتها ونحتها ورعايتها.
هذا الالتفات للجسد، وذلك الاهتمام بما يعمله وما يتغذى عليه، لا ينبغي أن ينظر إليهما فحسب على أنهما مجرد عناية بالصحة، وإنما بالضبط على أنهما أساسا «خلاص» للجسد فخلاص للروح. ذلك أن «فنون التغذية» وتمارين الرياضة، هي قبل كل شيء فنون وتمارين، إنها ترويض للجسد و«تربية» له وتثقيف. وقد سبق لنيتشه أن أكّد أن المطبخ لا يقتصر على رعاية الأجسام، وإنما هو يحدّد أساليب للعيش وعلائق بالعالم، وأنماطا للوجود. فنظام التغذية يكرس ميتافيزيقا بعينها. وما نلحظه من عناية مفرطة بعلوم الأطعمة والمطابخ، وصناعات لتوفير الأغذية الصحية، وجدالات حول ما ينبغي وما لا ينبغي أن يؤكل، كل هذا ليس إلا دليلا على تكريس لميتافيزيقا تؤكد «روحانية الجسد».
يكشف شهر الصّيام إذاً أن الجسد ليس «كائنا بيولوجيا»، وإنما هو «حساسية روحية» تجسّد قيما وتحمل دلالات ومعاني. على هذا النحو، فإن الطقوس التي تواكب الشهر الكريم لا تعمل في نهاية الأمر إلا على رعاية «روحانية الجسد» هذه، مبيّنة أن الجسد لا تتحكم فيه قوانين الفيسيولوجيا وحدها، وإنّما هو يخضع لسلسلة من الأنظمة التي تشكّله. فهو مشدود إلى إيقاعات العمل والاستراحة، مرتبط بالأعياد والمواسم، متجرع لـ «سموم» الأغذية، متشرب للقيم التي غرسها المجتمع وأفرزها التاريخ. وقد أوضح ميشيل فوكو في «استعمال الملذات» كيف أن اتّباع نظام غذائي معين يشكل «الكيفية التي تكوّن بها الذات نفسها من حيث إنها تبذل إزاء جسمها العناية اللازمة والكافية».
لا يعود الجسد، والحالة هذه، وعاء تضمن سلامته سلامة العقل، وإنما يغدو كيانا روحانيا. صحيح أن هذه الروحانية لم تكن تكف عن التجلي من حين لآخر، إلا أنها تظل مقموعة مكبوتة متى طغت الأخلاق على حساب الصحة والجمال، وتحوّل «بناء الذات» إلى «تهذيب» للجسد، بل إلى قمعه وكبته، بحيث لا يتم «غذاء الروح» إلا على حساب فصل أوّلي بينها وبين الجسد، بل على حساب قيام فلسفة فعلية للتغذية.
مجمل القول إذاً هو أن «روحانية الجسد» لا تلغي الجسد وتقمعه على غرار ما تكرسه «ميتافيزيقا الروح»، وإنما تكشف مدى حميمية العلاقة بين تدبير الأجساد وقواعد السلوك ومعايير الجمال، وتبين أنه ليس من الضروري أن يتم «غذاء الروح» على حساب فصل أوّلي بينها وبين الجسد، كما تثبت أن الدييتيتيكا مرتبطة أشد الارتباط بالإيتيكا والاستيتيكا.
______
*الاتحاد