عُمَرُ بن الفَارِضِ .. التَّجْرِبَةُ الصُّوفِيَّةُ بَيْنَ العَقْلِ والقَلْبِ



*الدُّكْتُور بَلِيْغ حَمْدِي إسْمَاعِيْل


خاص ( ثقافات )
1 ـ بِطَاقَةُ تَعَارُفٍ : 
( قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي *** روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ
لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي *** لم أقضِ فيهِ أسى ً، ومِثلي مَن يَفي
ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ، *** في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ
فَلَئنْ رَضيتَ بها، فقد أسْعَفْتَني؛ *** يا خيبة َ المسعى إذا لمْ تسعفِ
يا مانِعي طيبَ المَنامِ، ومانحي *** ثوبَ السِّقامِ بهِ ووجدي المتلفِ ) .
كل شخوص المشهد الصوفي في تاريخ الإنسانية يسبق الحديث عنهم تقدمة يسيرة إلا سلطان العاشقين عمر بن الفارض ، فأبياته وحدها كفيلة بخير تقديم له ، وكلما اقترب المطالع والمريد والمحب من سبر أغوار التصوف كلما اصطدم بمقام المحبة التي يعد عمر بن الفارض خير وأصدق تمثيل لهذا المقام بغير منافسة أو اشتراك أو منازعة . 
إن عمر بن الفارض كما يقول عنه رائد الدراسات الصوفية جوزيبي سكاتولين ليس بمجهول في الأوساط الصوفية وغير الصوفية أيضاً عربية أم غير عربية ، فهو علم من أعلام التصوف الإسلامي ، ويكاد وحده الملقب بسلطان العاشقين ، مثله في الانفراد كمثل محي الدين بن العربي الذي لقب بسلطان العارفين علماً وحكمة وتجربة استثنائية متفردة . وعمر بن الفارض يعد أحد أقطاب الصوفيين الوحيدين الذين ولدوا في القاهرة ونشأ بها وترعرع وصار صاحب حال ومقام وبها توفي أيضاَ ، وله من الأسماء والكنى والألقاب ما تشتهيه الأسماع ، فاسمه عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي ، وكنيته أبو القاسم ، وأبو حفص ، ولقبه شرف الدين ، وله من النسب حبل متصل ببني سعد ، وبنو سعد هم قبيلة السيدة حليمة السعدية مرضعة رسولنا الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) .
ولقد عاصر عمر بن الفارص أحداثاً مجيدة في التاريخ الإسلامي ، أو تلك الحقبة التي شهدت انتصارات عرفت بالنصر الإسلامي ، فالبداية أنه أينع زهره في فترة الصعود البطولي للناصر صلاح الدين الأيوبي لسدة مجده وذروته ، وعاش في ظل وكنف الملك الكامل في مصر ، وشاء الله أن يقبض روحه قبيل سقوط الدولة الأيوبية العتيقة على أيدي المماليك . 
والحياة العلمية والبيئة الصوفية والمعرفية لم تكن بجديدة على عمر بن الفارض ، حيث تذكر كتب التأريخ لأقطاب ومشاهير الصوفية أن أباه عمل بالفقه حتى أصبح فقيهاً مشهوراً لاسيما وأنه صاحب قضية إثبات ما فرض للنساء على الرجال من حقوق ، فكان بذلك أشهر رجال عصره من الفقهاء ولقب في هذا الوقت تحديداً بالفارض ، وتولى بعد هذا الإثبات الفقهي نيابة الحكم ، ومن الدهشة أن نرى كيف عُرض عليه أن يتولى منصب قاضي القضاة في مصر ، وهو أسمى وأرفع المناصب في الحكم ، لكنه أبى وانقطع للعبادة في قاعة الخطابة بالجامع الأزهر وظل كذلك حتى مات . وهذا الأب الذي آثر الزهد في المنصب والولاية وفضل الورع والتقوى والانقطاع للعبادة والتفكر والاطلاع والبعد كل البعد عن مظاهر الجاه والسلطان وفتنة الدنيا كان كفيلاً لأن يكون خير مرشد ومرب لهذا الفتى الذي سيصير فيما بعد سلطاناً للعاشقين ومحباً بغير انقطاع أو ملل . يقول بن الفارض : 
( ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا *** سر أرق من النسـيم إذا سرى
وأباح طرفي نظرة أملتها *** فغدوت معروفا وكنت منكرا
فدهشت بين جماله وجلاله *** وغدا لسان الحال مني مجهرا ) .
وواصل عمر بن الفارض رحلته وسياحته العلمية والمعرفية في مصر ، ولك أن تعرف أنه تعلم الحديث على يدي واحد من كبار محدثي عصره وهو العلامة الشافعي أبو محمد القاسم بن علي بن عساكر الدمشقي . . والغريب في أمر شهرة عمر بن الفارض أنه لم يترك لنا من آثار تجربته الصوفية سوى ديوان واحد فقط اشتمل على ست عشرة قصيدة ، ولم يعثر له على أية رسالة أو كتاب صغير يمكن أن نتلمس آثار تلك التجربة والرحلة الروحية توضح لنا مذهبه واتجاهه الصوفي ، ورغم ذلك يظل أرق من تحدث عن العشق الإلهي .
2 ـ العَصْرُ الذَّهَبِيُّ للتَّصَوُّفِ : 
ولقد ولد عمر بن الفارض في القرن السابع الهجري ، وهو القرن المعروف تاريخياً بالقرن الذهبي للتصوف الإسلامي ، إذ أن التصوف وصل فيه إلى قمة التعبير عن نفسه في مختلف نشاطه عملاً وفكراً . والواقع أن هذه الحقبة كما يشير المؤرخون ظهر فيها أساطين وأقطاب التصوف الإسلامي عبر عصوره ، ومنهم عبد القادر الجيلاني ، ومحي الدين بن عربي ، وأبي حفص السهروردي ، وشهاب الدين السهروردي ، وجلال الدين الرومي ، وفريد الدين العطار ، ويونس إمري ، وشاعرنا الصوفي الكبير عمر بن الفارض . 
وفي هذا القرن الاستثنائي في تاريخ التصوف اتخذ التصوف الإسلامي ملامح جديدة ومغايرة للقرون السابقة ، فأصبح للتصوف بعد نظري واضح وعميق عما كان عليه من قبل ، وفي هذا القرن انفتح التصوف الإسلامي على تجارب ثقافية ومعرفية متميزة ومتباينة أيضاً ، فتأثر بكثير من التيارات الفكرية والدينية المنتشرة في ذلك الزمان ، ولقد تأثر التصوف الإسلامي جد التأثر في هذا القرن بالتيارات الإيرانية الدينية لاسيما التي عرفت بحكمة الإشراق . ولا شك أن هذه التيارات المختلفة استطاعت أن تكسب التجربة الصوفية المعرفية أنماطاً معرفية جديدة وعمقاً وسعة وشمولية في التفكير لم يعرفها من قبل على حد توصيف المستشرقين بذلك . وفي هذا القرن وجدنا التصوف الإسلامي يطلق العنان لتجاربه والتي تجسدت في ميادين أخرى غير التأليف النثري وبيان الأحوال والمقامات ، مثل الشعر والموسيقى والفن المعماري .ولقد أطلق على هذا العصر لقب عصر التصوف الفلسفي . 
3 ـ التَّائِيَّةُ .. رِحْلَةُ ابن الفَارِضِ تِجَاه المَعْرِفَةِ :
وكعادة أهل الحب ، أعني الصوفيين نجد كلامهم غامضاً بعض الشئ وهم يصفون تجربتهم ويتحدثون عن تفاصيلها ، وهو ما نلمحه في قصائد ابن الفارض التي تفوح منها الغموض والمدلولات غير المفسرة لمعانيها المقصودة ، ومن ذلك قصيدته الأشهر المعروفة بالتائية الكبرى ، والتي يقول فيها : 
( سقتني حميَّا الحبِّ راحة َ مقلتي *** وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ
فأوهمْتُ صَحبي أنّ شُرْبَ شَرَابهِم *** بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة ِ
وبالحدقِ استغنيتُ عنْ قدحي ومنْ *** شمائلها لا منْ شموليَ نشوتي
ففي حانِ سكري، حانَ شُكري لفتية ٍ *** بهمْ تمَّ لي كتمُ الهوى مع شهرتي ) .. 
وفي هذه القصيدة الشهيرة تنقسم التجربة الصوفية عند عمر بن الفارض إلى ثلاث مراحل رئيسة ، هي : مرحلة الفَرْقِ وفيها يصف الشاعر الصوفي حالة التفرقة والتمييز عن محبوبه الذي يخاطبه هو بلغة حب عميقة وواسعة ، ومرحلة الاتحاد وفيها يصف الشاعر حالة الوحدة بينه وبين محبوبه ، أما المرحلة الأخيرة والمسماة بالجمع فيصف الشاعر فيها حالة الوحدة والاندماج بين ذاته هو وكل الموجودات . ويجتهد جوزيف سكاتولين في رصد لغة الحب في تائية ابن الفارض ، حيث يقوم بدراستها دراسة دلالية حيث أشار إلى تعدد الدلالات اللفظية للأصول اللغوية : ( حـ ـ ب ـ ب ) ، و ( حـ ـ بٌ ) ، و ( هـ ـ و ـ ى ) ، و ( و ـ ل ـ ي ) وهي الأصول اللغوية الثابتة التي تشكل مراحلة الثلاث التي سبق سردها . 
بجانب بعض الألفاظ التي تشكل محوراً مهماً في القصيدة الأهم في الشعر الصوفي المعروفة بالقصيدة التائية لابن الفارض ، ومن هذه الألفاظ : ( نفس ـ روح ـ ذات ) ، وحينما نجد ابن الفارض يتحدث عن ذاته فهو يكشف عن ذاتيته العميقة من خلال عملية يندمج بها مع حبيبته ، وهي عملية يسميها النقاد وأهل التأويل النصي بالصيرورة نحو الذات ، ولقد عبر عمر بن الفارض عن هذه الصيرورة بعباراته مثل : أنا إيَّاها ، و هي إياي ، وأخيراً أنا إياي . 
ولفظتا نفس وروح من الألفاظ المحورية في شعر عمر بن الفارض وفي الغالب يأتيان دوماً في موقع التوكيد لضمير المتكلم ( أنا ) ، أو في موقع الإضافة إليه مثل : نفسي وذاتي . أما كلمة ( روح ) فكما يشير جوزيبي سكاتولين في شرحه لديوان بن الفارض فليس له استعمال كاسم توكيد للأنا ، وكثير من اعتاد الحديث عن مفهوم الحب والعشق في قصائد عمر بن الفارض ، رغم أن جون آرثر آربري (1973) أشار إلى أن قمة التجربة الصوفية عند ابن الفارض لا يمكن اختزالها فقط في تجربة العشق الإلهي ، بل تبلغ القمة مداها حينما نجد الشاعر نفسه يتحدث عن الأنا الجمعي ، وهذه الأنا نفسها اللفظ المركزي في قصائده بغير منازع ، وربما مقصد التجربة الصوفية الروحية لعمر بن الفارض الأسمى هو الاكتشاف والتحقيق لذاته لأبعد حدود لها . يقول ابن الفارض في تائيته : 
(ولولا حِجابُ الكَونِ قُلتُ وإنَّما
قيامي بأحكامِ المظاهِرِ مُسْكِتي
فلا عَبَثٌ والخَلْقُ لم يُخلَقوا سُدىً 
وإنْ لم تكُنْ أَفعالُهُمْ بالسديدَة
على سِمَةِ الاسماءِ تَجري أمورُهُمْ
وحِكْمَةُ وصْف الذاتِ للحكم أجرَت
يُصَرِّفُهُمْ في القبضَتَيْنِ ولا ولا 
فقَبْضَةُ تَنْعِيمٍ وقَبْضَةُ شِقْوَة
ألا هكذا فلتَعرِفِ النّفسُ أو فلا 
ويُتْلَ بها الفُرقَانُ كُلَّ صبيحة ) 
وسرعان ما يتحول مركز الثقل في تجربة عمر بن الفارض الصوفية والتي عبر عنها بالشعر من الأنا إلى بحار الجمع ، فيتخذ من الأنا الفردية سلماً للصعود إلى الأنا الجمعي أو الأنا الجمعية ، وعن هذا نجده يقول : 
( فبي دارت الأفلاك فاعجب لقطبها *** المحيط بها والقطب مركز نقطةِ
ولا قطبَ قبلي عن ثلاث خلفته **** وقطبية الأوتاد عن بدليتي ) .
4 ـ الاتَّجَاهُ صَوْبَ القَلْبِ : 
وإن كان حديث المعرفة قد تم الإغفال عنه كرهاَ من جاب الذين اهتموا بتاريخ التصوف الإسلامي لاسيما عند الإشارة إلى عمر بن الفارض كونه شاعراً ، فإن تجربة العشق الإلهي هي الأبرز والأكثر حضوراً ونحن إزاء سلطان العاشقين ، ولما لا ، وقصائد عمر بن الفارض تحتل المكانة الكبرى في أشعار المتصوفة من ناحية ، وقصائده التي تناولت هذا المنحى لها النصيب الأكبر من الاحتفاء والاهتمام نقداً وإنشاداً ودراسة من ناحية أخرى ، يقول عمر بن الفارض : 
( شربنا على ذكر الحبيب مدامة **** سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم 
لها البدر كأس وهي شمس يديرها *** هلال وكم يبدو إذ مزجت نجم
ولولا شذاها ما اهتديت لحانها *** ولولا سناها ما تصورها الوهم ) 
والمحبة عند الصوفية أمر يحتاج إلى تفسير دائم لاسيما وأن كثيراً من الأقلام المتطرفة تأخذه بجانب يخرج صاحبه عن الملة والمعتقد ، فالحب عند أهل الحب وهم المتصوفة الأماجد حب لله وهو كما قال عنه الإمام المحاسبي حب محكم رصين ، ودوام الذكر بالقلب واللسان لله وشدة الأنس بالله ، وقطع كل شاغل شغل عن الله ، وتذكار مستدام للنعم . وللإمام المحاسبي نص في ذلك ، يقول فيه : ” إنَّ أَوَّلَ الْمَحَبَّةِ الطَّاعَةُ وَهِيَ مُنْتَزَعَةٌ مِنْ حُبِّ السَّيِّدِ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ كَانَ هُوَ الْمُبْتَدِئُ بِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّهَ عَرَّفَهُمْ نَفْسَهُ وَدَلَّهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَتَحَبَّبَ إِلَيْهِمْ عَلَى غِنَاهُ عَنْهُمْ فَجَعَلَ الْمَحَبَّةَ لَهُ وَدَائِعَ فِي قُلُوبِ مُحِبِّيهِ ، ثُمَّ أَلْبَسَهُمُ النُّورَ السَّاطِعَ فِي أَلْفَاظِهِمْ مِنْ شِدَّةِ نُورِ مَحَبَّتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ عَرَضَهُمْ سُرُورًا بِهِمْ عَلَى مَلائِكَتِهِ حَتَّى أَحَبَّهُمُ الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ لِسُكْنَى أَطْبَاقِ سَمَوَاتِهِ نَشَرَ لَهُمُ الذِّكْرَ الرَّفِيعَ عَنْ خَلِيقَتِهِ ، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مَدَحَهُمْ ، وَقَبْلَ أَنْ يَحْمَدُوهُ شَكَرَهُمْ لِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِيهِمْ أَنَّهُ يَبْلُغُهُمْ مَا كَتَبَ لَهُمْ ، وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُمْ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ إِلَى خَلِيقَتِهِ وَقَدِ اسْتَأْثَرَ بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِمْ ثُمَّ رَدَّ أَبْدَانَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الْخَلِيقَةِ ، وَقَدْ أَوْدَعَ قُلُوبَهُمْ خَزَائِنَ الْغُيوبِ ، فَهِيَ مُعَلَّقَةٌ بِمُوَاصَلَةِ الْمَحْبُوبِ ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يُحْيِيَهُمْ وَيُحْيِيَ الْخَلِيقَةَ بِهِمْ أَسْلَمَ لَهُمْ هِمَمَهُمْ ، ثُمَّ أَجْلَسَهُمْ عَلَى كُرْسِيِّ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَاسْتَخْرَجُوا مِنَ الْمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةَ بِالأَدْوَاءِ وَنَظَرُوا بِنُورِ مَعْرِفَتِهِ إِلَى مَنَابِتِ الدَّوَاءِ ، ثُمَّ عَرَّفَهُمْ مِنْ أَيْنَ يَهِيجُ الدَّاءُ ، وَبِمَا يَسْتَعِينُونَ عَلَى عِلاجِ قُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِصْلاحِ الأَوْجَاعِ ، وَأَوْعَزَ إِلَيْهِمْ فِي الرِّفْقِ عِنْدَ الْمُطَالَبَاتِ ، وَضَمِنَ لَهُمْ إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ عِنْدَ طَلَبِ الْحَاجَاتِ نَادَى بِخَطَرَاتِ التَّلْبِيَةِ مِنْ عُقُولِهِمْ فِي أَسْمَاعِ قُلُوبِهِمْ ، أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ : ” يَا مَعْشَرَ الأَدِلاءِ ، مَنْ أَتَاكُمْ عَلِيلا مِنْ فَقْدِي فَدَاوُوهُ ، وَفَارًّا مِنْ خِدْمَتِي فَرُدُّوهُ ، وَنَاسِيًا لأَيَادِيَّ وَنَعْمَائِي فَذَكِّرُوهُ ، لَكُمْ خَاطَبْتُ لأَنِّي حَلِيمٌ ، وَالْحَلِيمُ لا يَسْتَخْدِمُ إِلا الْحُلَمَاءَ وَلا يُبِيحُ الْمَحَبَّةَ لِلْبَطَّالِينَ ضَنًّا بِمَا اسْتَأْثَرَ مِنْهَا إِذْ كَانَتْ مِنْهُ وَبِهِ تَكُونُ فَالْحُبُّ لِلَّهِ هُوَ الْحُبُّ الْمُحْكَمُ الرَّصِينُ ، وَهُوَ دَوَامُ الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ لِلَّهِ وَشِدَّةُ الأُنْسِ بِاللَّهِ ، وَقَطْعُ كُلِّ شَاغِلٍ شَغَلَ عَنِ اللَّهِ ، وَتَذْكَارُ النَّعَمِ وَالأَيَادِي وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْجَوْدِ وَالْكَرَمِ وَالإِحْسَانِ اعْتَقَدَ الْحُبَّ لَهُ إِذْ عَرَفَهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَرَّفَهُ بِنَفْسِهِ هَدَاهُ لِدِينِهِ ، وَلَمْ يَخْلُقْ فِي الأَرْضِ شَيْئًا إِلا وَهُوَ مُسَخَّرٌ لَهُ وَهُوَ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَإِذَا عَظُمَتِ الْمَعْرِفَةُ وَاسْتَقَرَّتْ هَاجَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ وَثَبَتَ الرَّجَاءُ ، قُلْتُ : خَوْفًا لِمَاذَا ؟ وَرَجَاءً لِمَاذَا ؟ قَالَ : خَوْفًا لِمَا ضَيَّعُوا فِي سَالِفِ الأَيَّامِ لازِمًا لِقُلُوبِهِمْ ، ثُمَّ خَوْفًا ثَابِتًا لا يُفَارِقُ قُلُوبَ الْمُحِبِّينَ خَوْفًا أَنْ يُسْلَبُوا النِّعَمَ إِذَا ضَيَّعُوا الشُّكْرَ عَلَى مَا أَفَادَهُمْ ، فَإِذَا تَمَكَّنَ الْخَوْفُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَأَشْرَفَتْ نُفُوسُهُمْ عَلَى حَمْلِ الْقُنُوطِ عَنْهُمْ ، هَاجَ الرَّجَاءُ بِذِكْرِ سَعَةِ الرَّحْمَةِ مِنَ اللَّهِ ، فَرَجَاءُ الْمُحِبِّينَ تَحْقِيقٌ ، وَقُرْبَانُهُمُ الْوَسَائِلُ ، فَهُمْ لا يَسْأَمُونَ مِنْ خِدْمَتِهِ ، وَلا يَنْزِلُونَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ إِلا عِنْدَ أَمْرِهِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِهِ أَنَّهُ قَدْ تَكَفَّلَ لَهُمْ بِحُسْنِ النَّظَرِ ” .
ويختتم الكلام عن عمر بن الفارض سلطان العاشقين بإطلالة على عجل بأبيات رائعة من قصيدته ” تِه دلالاً ” والمعروفة بالدالية :
تِهْ دَلاَلاً فأَنْتَ أهْلٌ لِذَاكا 
وتحَكّمْ فالحُسْنُ قد أعطاكا
ولكَ الأمرُ فاقضِ ما أنتَ قاض 
فَعَلَيَّ الجَمَالُ قد وَلاّكَا
وتَلافي إن كان فه ائتلافي 
بكَ عَجّلْ به جُعِلْتُ فِداكا
وبِمَا شِئْتَ في هَواكَ اختَبِرْنِي 
فاختياري ما كان فيِه رِضَاكَا
فعلى كُلّ حالَةٍ أنتَ مِنّي 
بيَ أَوْلى إذ لم أَكنْ لولالكا
وكَفَاني عِزّاً بحُبّكَ ذُلّي
وخُضوعي ولستُ من أكْفاكا
وإذا ما إليكَ بالوَصْلِ عَزّتْ 
نِسْبَتِي عِزّةً وصَحّ وَلاكا) 
_______________
*مُدَرِّسُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيْسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ والتَّرْبِيَةِ الإسْلامِيَّةِ 
كُلِّيَّةُ التَّرْبِيَةِ ـ جَامِعَةُ المِنْيَا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *