أجمل وأعظم المكتبات في العالم.. مكتبة النمسا الوطنية


*ترجمة: أزهار أحمد


لكل مكتبة تاريخها الخاص، وكل مكتبة تمنح مرتاديها إحساسا جديدا في كل زيارة. إلا أن الروعة الفائقة لمكتبة البلاط السابقة في فيينا تحبس الأنفاس مرة بعد مرة. يدخل الزائر إليها عبر بهو يؤدي إلى قاعة واسعة كانت مخصصة أساسا لدروس الفروسية، من هناك يصل إلى سلم ضخم مزين بنقوش قديمة من تراث الأقاليم الجنوبية للامبراطورية يؤدي إلى القاعة العظيمة (قاعة الاحتفالات). قد تكون قاعة لابراوست في المكتبة الوطنية بباريس في ريو دي ريشيليو أكبر من هذه، والقاعة الدائرية المكتملة في المتحف الوطني أكثر إبهارا، إلا أن القاعة العظيمة ذات الزخارف الباروكية الرائعة في مكتبـة النمسا الوطنية لا تزال أكثر إبهارا من جميع قاعات المكتبات في أوروبا.
تتميز مدينة هابسبورج ومنذ زمن بعيد جدا باحتوائها على مخطوطات وكتب مميزة كثيرة. فمثلا يمتلك عاشق الكتب ألبرت الثالث (1348- 1396) مجموعة من الكتب المزخرفة الرائعة. كما أن الملك فريدريك الثالث (1440-1493) علّم على جميع كتبه برمز خاص «AEIOU»، وهو اختصار لعبارة: «قدر النمسا أن تحكم العالم»، وهذا من الدلائل التي تشير إلى طموح وتوقعات مبكرة للعائلة. وقد ورث ابنه ماكسميليان الأول حب الكتب عن أبيه إضافة إلى كنوز عرّابه الكاردينال بيساريون الذي كان أحد أشهر عشاق الكتب في عصره. كما أن زوجته ماري دوقة بورغندي ابنة الدوق شارل الجريء أحضرت أعمالا جميلة من بورغندي وفلاندرز. إلا أن المكتبة الإمبراطورية لم تظهر في حالة جيدة إلا في عام 1575 حين تم تعيين بلوتيس رئيسا لها. وحين أدرك حجم المهمة التي تنتظره، قال: «الله وحده يعلم كيف هي حال المكتبة، فالفوضى تعم المكان، لا يوجد شيء في مكانه الصحيح، وكل الموجودات قذرة ومدمرة تماما بسبب الحشرات والدود، وخيوط العنكبوت تغطي جدران كل الغرف». تمكَن بلوتيس خلال سنوات قليلة من إعادة تنظيم المكتبة حيث قام بتزويدها بالمقتنيات والموروثات التي شكلت مجموعات فخمة. في الوقت نفسه كان يشتكي بأسى من القراء الذين يستعيرون الكتب ولا يعيدونها أبدا. فكيف يمكنه مثلا أن يتقدم بشكواه للامبراطور رادولف الثاني الذي أعاد كتابا استعاره قبل خمس سنوات؟ كيف يمكنه أن يشرح له أن كنوز المكتبة لا تقدم كهدايا؟. إلا أن تلك الفكرة تغيرت بعد قرن حيث تمكّن امبراطوران وهما ليوبولد الأول (1658- 1705) المحب للعلوم والفنون، وشارل السادس الذي حكم خلال الفترة من (1711 إلى 1740) من اعتبار ممتلكات المكتبة أحد أعظم القوى في العالم.
بسبب الاجتياح التركي الكبير الثاني الذي وصل إلى بوابات فيينا، تم تأجيل مشروع ليوبولد والذي كان يتضمن مخططات لإقامة المكتبة مكان قاعة الفروسية، لتنفيذها في وقت أفضل. مما جعل الملك شارل السادس يعهد إلى يوهان بيرنهارد فيشر فون إيرلاك (1656-1723) مهندس البلاط بمخططات مكتبة عظيمة تليق بالوضع الجديد للنمسا بعد أن تخلصت أخيرا من التهديد العثماني. إلا أن المهندس المعماري مات عند بدء العمل وواصل إبنه يوهان إيمانويل العمل على المشروع.
بنيت مكتبة البلاط لتكون أول مكتبة عظيمة عامة في ذلك الجزء من العالم، وهي تحفة من المعمار الباروكي النمساوي. يبلغ عرض القاعة الكبرى حوالي 255 قدما، وطولها 47 قدما، وارتفاعها 64 قدما. وفي الوسط، يمتد «صحنها» في شكل بيضاوي مساحته 95 قدما وارتفاعه 29 مترا، تعلوه قبة قياسها 96 في 59 قدما. وعلى كلا المدخلين، زوج من عواميد الرخام الثقيل المدعّم للقبة. وبصرياً ينقسم إلى «جناحين» يعرف أحدهما بجناح السلام والآخر بجناح الحرب. هذا المبنى العظيم، الذي كسب إعجاب أوروبا صادف مشاكل كثيرة تتعلق بثبات بنيانه، وقد استدعي نيكولو باكاسي المهندس المعماري من بيلفيدير لمعالجتها.
وضع ما يقارب 200000 كتاب تقريبا (والتي تم حشوها بعمقين في بعض الأحيان) في طابقين من المداخن. وفوق الطابق الثاني منصة واسعة يمكن الوصول إليها عبر أربعة سلالم منفصلة تزخر بالكتب المصفوفة. أما سلالم القاعة الرئيسية وضعت على بكرات تساعد على الوصول إلى الكتب الموجودة في الرفوف العليا، بينما تحتوي المنصة على 40 سلما مستقيما لنفس السبب.
يمتزج الديكور مع الهندسة المعمارية ليشكلان تناسقا رفيعا وعظيماً، حيث جرت أعراف تلك الفترة أن يعهد بالهندسة المعمارية، واللوحات الجدارية، والمنحوتات، وبقية التركيبات إلى فنانين مختلفين. فالجداريات مثلا من عمل الفنان دانييل جران المشهور بجدارياته العظيمة في الكنائس، والذي كان يعتمد في تصاميمه على مجموعة من الصور الأيقونية. تصور الجدارية التي تتوسط القبة سماءً مأهولة بالرموز والإيحاءات التي تسعد الإمبراطور الذي كان مهتما بتخليد صورته بصفته حامٍ للفنون. من هذه الرموز فنون الحرب والحكم المحاطة بالكتب والجوائز، ورموز الشهامة النمساوية المصحوبة بالكرم والذوق الرفيع، أما شجاعة الامبراطور فقد أشير إليها باحاطته بكوكبي الزهرة والمريخ. ورمز الامتنان، يرافقه جني الدراسة؛ إشارة إلى اسطورة أن أمر تأسيس المكتبة، ووضع نموذج لها كان عبارة عن اختراع جني عبقري تمكن من طرد الكسل والجهل، واللوم غير المبرر – أعداء المعرفة، وقذف بهم إلى الهاوية.
كان للامبراطور نفسه أيضا نصيب من الرسومات حيث رسم في وسط القاعة العظيمة (قاعة الاحتفالات) ويحيط بتمثاله تماثيل لأفراد من عائلة هابسبورج وسياسيون نمساويون. تحت القبة وأمام السلم الذي يقود إلى المنصة يوجد 16 تمثالا من الرخام الأبيض لأسلاف الملك شارل السادس. عرف عن الإمبراطور رؤية حماسية حول وجود المكتبة وهي: «لا يجب على الزائر أن يدفع شيئا، بل يجب أن يغادر وهو مفعم ويكرر زيارته للمكتبة». وبالرغم من أنه لا يفضل الزوار الذين يكتبون على الكتب إلا أنه كان يفتح أبوابه للجميع. ولم يكن يستبعد غير المتعلمين ولا الخدم ولا العاطلين ولا الثرثارين ولا البلهاء. كانت مكتبة فيينا أول مكتبة عامة في أوروبا.
اليوم، لم تعد القراءة ممكنة في القاعة العظيمة ولم تعد الزيارة متاحة بالمجان. وأصبحت قاعة شارل السادس الكبرى بمثابة متحفا للكتب النادرة للمهتمين من الباحثين. فمن بين 000و200 كتاب قيّم ما زالت المكتبة تحتفظ بمجموعة أمير سافوي يوجين. يعود الفضل في ذلك إلى مجموعة من الشخصيات الأوروبية التي أسهمت في إثراء المكتبة، وعلى رأسهم بيير جان مارييت الذي كانت مكتبته الشخصية تحتوي على18 الف كتاب قدمها للإمبراطور في القرن الثامن عشر وقد وضعت في مكان الشرف تحت القبة. وبسبب الحرب فقد الكثير من أغلفة الكتب التي تم استبدالها لاحقا بجلد مغربي بألوان تشير إلى محتوياتها. فالأحمر الغامق يشير إلى التاريخ والآداب، والأزرق الغامق إلى اللاهوت والقانون، أما اللون الأصفر فللعلوم والطبيعة. تضم المكتبة من بين المجموعات النادرة أطلسا من 11 مجلدا من عمل رسام الخرائط خوان بلاو (1596 – 1673)، ويعتبر أطلس (The Peutinger Table) نوعا من خرائط الطرق للامبراطورية الرومانية خلال القرن الرابع، وكذلك ( كتاب الحب – القلب المبتلى) الكتاب المزخرف العظيم لدوق أنجو.
تمت إعادة تسمية المكتبة إلى «مكتبة النمسا الوطنية» في عام 1918. فمع عدد الكتب التي تبلغ 6.5 مليون كتاب تشمل على 7.866من الكتب المطبوعة فى المراحل الأولى لفن الطباعة قبل 1500م، 65.821مخطوطة، لتصبح مكتبة البلاط بذلك مؤسسة هائلة تتجاوز قصر هوفبورغ، لتحتل الجزء الأكبر من القصر الجديد ((Neue Palast، ودير أوغسطين، وتمتد إلى متحف ألبرتينا وتضم كذلك المباني الواقعة في شكل قوس حول ساحة Michaelerplatz. وفي عام 1992 تم تصميم هيكل جديد للمكتبة يسمح بإضافة 4 ملايين مجلدا. لا يمكن أبدا أن يكون شارل السادس، وماري تيريز وفرانسوا جوزيف يتصورون أن علامة فخرهم «AEIOU»، ستكون يوما ما دلالة على انتصار الأبجدية، وبأن الفكرة التي خطرت ببالهم بنفس الوقت، حولت من قصرهم إلى مكتبة عظيمة.
عن كتاب: The Most Beautiful Libraries in the World
___
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *