*إيزابيللا كاميرا
يُقال إن بعض الأماكن تظلّ إلى الأبد في ذاكرتنا لا تبرحها، حتّى تصبح في نهاية المطاف مكاناً في العقل لا مكاناً فعلياً. كما يُقال أيضاً إن بعض الروائح تبقى ثابتةً إلى الأبد في ذاكرتنا، كأنها نوافذ نطلّ منها على ماضينا: تكفي لحظة، وها هي تستدعي تاريخنا البعيد كلّه، بمشاعره وأماكنه وروائحه وأشخاصه.
بالنسبة لي، المكتبة واحدة من هذه الأماكن حيث تطغى رائحة الورق، ورق الكتب القديمة، ربما الأثرية أيضاً. وفي بعض الأحيان رائحة الغبار المتراكم على الرفوف، أو حتّى رائحة الكتب الطازجة التي خرجت لتوِّها من المطبعة. كلّ هذه الروائح هي لذّة حقيقية تمنحني سيلاً من العواطف والذكريات، يعلم الله أين اختبأت.
عادةً ما يكون دخول المكتبة على أطراف الأصابع، في صمت طبعاً، بالخوف الواجب والتبجيل المقدّر الذي تفرضه أماكن معينة، أو تتطلّبه هذه الأماكن، ويعتاد عليه الجميع في وقتٍ قصير، فيدركون قواعد السلوك القويم فيها من دون كثير من الشرح.
ومن دون التفكير بالضرورة، التفكير في المكتبات التاريخية والأثرية الشهيرة الموجودة حول العالم، يمكننا أن نذكر أماكن تخصّ حياتنا نحن وحدنا، تحوّلت فيها هذه المعابد الثقافية شاهداً على ماضينا الشخصي. على سبيل المثال؛ مكتبات المدارس والجامعات التي درسنا فيها، حيث قضينا ساعات كثيرة في القراءة والتفكير، وتجميع الأفكار في عزلةٍ ليست حقيقية، مقارنةً بعزلتنا اليوم ونحن نعمل أمام هذه الشاشة الباردة، أمام الكمبيوتر في مكتبٍ مغلق. وحدنا مع أفكارنا، حتّى ولو كنّا أفضل اتّصالاً بالعالم، أو بالأحرى لدينا «فرط اتّصال» بالعالم الخارجي، بفضل شبكات التواصل الاجتماعي. لم نكن وحدنا، عندما كنا نتجوَّل بين الرفوف المغبرة التي تحمل عبق الخشب القديم في المكتبات، فكنّا نعرف الجميع ويعرفنا الجميع: الطالب الدؤوب، والباحث الحريص على بحثه، وعن مراجع جديدة أو متميّزة لدراسته، والأستاذ البارز الذي يفتّش في الكتب باحثاً عن نقطة أصيلة ينطلق منها في دراساته الجديدة، أو ببساطة عن مزيد من المراجع والمصادر التي تؤيّد نظريته الحديثة.
لم نكن وحدنا، حتّى عندما تكون المكتبة فارغة. فقد تكفي نظرة بسيطة، حتّى ندرك أننا بصحبة عظماء الماضي الذين أصبحوا أحياء من خلال كتبهم التي تمّ جمعها بعناية، وصنّفها أمين مكتبةٍ بارعٍ ومتواضعٍ. وعلاوة على ذلك، لم تكن المكتبة مجرّد مكان لتجميع الأفكار، بل كانت مكاناً تولد فيه الأفكار، ويُحَفَّز فيه العقل لكي يرى عظمة الحكمة البشرية. كانت الكتب بالأمس، كما هي اليوم، جسراً رائعاً نخطو فوقه حتّى نصل إلى الماضي، إلى من كانوا موجودين قبلنا، يروون لنا ما رأوا، وما عاشوا، وما فكروا فيه. الكتب هي ذاكرة الماضي، ونحتاج إليها بشدّة حتّى نُحسن فهم الحاضر، ونواجه المستقبل.
بعض المكتبات يُصعب وصف جمالياتها، منها مكتبة كلّيّة ترينيتي في دبلن، وهي معبد علماني استثنائي، وأيضاً مكتبة كاساناتينسي الشهيرة في روما، حيث تتداخل صرامة المظهر، مع مشاعر الألفة والتواصل مع الأجيال السابقة التي كانت تقضي وقتاً طويلاً في تلك الأماكن. لكن بالنسبة لي، هناك مكتبة أخرى لها نكهة خاصة؛ هي مكتبة صغيرة غير معروفة لمعظم الناس، وأقصد بها مكتبة معهد الشرق في روما، التي تأسَّست في عام 1921 على يد المستشرق الشهير كارلو ألفونسو نالينو (البروفسور الإيطالي الذي ذكره طه حسين، وكان تلميذاً له).
قاعة المكتبة صغيرة، ولكنك حتّى تصل إليها تجتاز ممرّاً، تطلّ عليه بعض الغرف التي يعمل فيها عدد قليل من الموظفين. كنتُ أرتاد هذه المكتبة حتّى قبل تخرُّجي في قسم اللغة العربية وآدابها. بدأتُ أرتادها عندما حاولتُ أن أعرف أكثر عن التاريخ العربي وعن الثقافة العربية، من أجل فهم أفضل للعالم العربي، الذي بدأ ،منذ ذلك الوقت، يفتنني بسحرٍ خاصّ. لم أكن أعرف، إذاً، أن هذا الاهتمام سوف يصبح لاحقاً هدفاً كرّست له حياتي كلّها. ثم تابعتُ ارتيادي لها من دون أن أحسّ، في يوم من الأيام، بالشبع مما كنت ألتهمه بنهمٍ من قراءةٍ وتعلّمٍ. فُتِنتُ بهذه المكتبة، كنتُ أبقى فيها ساعات. ومع الوقت، أصبحتُ خبيرة مزمنة، أساعد الآخرين من الدارسين إذا أرادوا الحصول على معلومات عن أي كتاب. بدا لي أني أعرفُ كل شيء. من دون أن أدرك، بدأتُ أصبح جزءاً من ذلك المكان، أنتمي إلى هؤلاء الناس الذين كانوا يعملون هناك، ويعتبرونني ابنةً لهم، داخل أسرة متماسكة جداً، قبلت بي فرداً من أفرادها. أخذتُ أساعد أمينة المكتبة، ولاقت مساعداتي كثيراً من التقدير، حتى وجدتُ نفسي أعمل أمينةً للمكتبة، أو في الواقع، مساعدة أمينة المكتبة. كنت أكسبُ قليلاً من هذا العمل، لكنني كنت سعيدة، كأنني سنبلةٌ تُنبت كثيراً من السنابل. ولو كان الأمر بيدي، لأمضيتُ عمري كلّه بين جنباتها. لكن مواصلتي لعملي الجامعي، أبعدتني عن هذا المكان الساحر، لكن ليس بعيداً أكثر من اللازم. وبطبيعة الحال، وعلى مرّ السنين كنتُ أعود إليها كثيراً لأسباب تتعلّق بالدراسة، وكنتُ أجد الألفة نفسها دائماً.
بين ردهاتها يمكن تذوّق طعم ثقافة الآخرين، ثقافة العرب، وثقافة المسلمين، الذين تدين لهم البشرية كلّها، ولكن ذاكرة الغرب الضعيفة نسيت كلّ ذلك اليوم.
_____
*مجلة الدوحة