حوار مع جوليا كرستيفا بين عوالم الترحال والأدب 1




إيرينا إيفانتشيفا- مرجينسكا و ميشال أ. فيالي/ ترجمة: د.محمد فتيلينه


خاص ( ثقافات )
أُجري الحوار في إطار ندوة دولية أقيمت ببرلين في الـ 31/10/2009 بعنوان: تجربة كرستيفا، التجربة الخصبة. استمر ليومين في الفندق الأدبي الصغير Circus، برعاية جامعة هامبولدت (برلين). 
نُظّمت هذه الندوة من طرف سيفان هولستراين والدكتور أزوسينا ج. بلانكو. وكان التساؤل الأساس هو عن تفكير وآثار المؤلفة والمختصة بالتحليل النفسي جوليا كرستيفا.
برلين، نهاية أكتوبر 2009، أي عشرون عاما بعد سقوط جدار برلين، الذي سجّل نهاية الحكم الإشتراكي والدولة الشمولية في بلدان أوربا الشرقية. أحيت هذه الذكرى المصالحة الذاتية مع أوروبا، لماذا؟ لأنه كان لنا ببرلين موعد مع جوليا كرستيفا، تلك المنفية إلى فرنسا ذات الأصول البلغارية. نحن: ميشال فيالي منفية فرنسية في أمريكا، إيرينا إيفاتشيفا- نارجينسكا وهي كذلك بلغارية منفية في الولايات المتحدة، ثلاث سيدات، ثلاث جامعيات وثلاث متجولات بالمعنى الذي تفكر فيه كرستيفا وتكتبه.
بعثنا قبل ثلاثة أشهر بأسئلتنا إليها، وأجابتنا في أقل من ثلاثة أسابيع عبر البريد الإلكتروني. راقتها أسئلتنا، وهي أسئلة من قارئتين مهتمتين بأثرها. وعدتنا كرستيفا –وكلها أمل أن تنال بعض الوقت- بأنها ستستضيفنا في لقاء برلين. 
غادرنا الولايات المتحدة، كل واحدة منا على حدة، والامتنان والسعادة يغمراننا. بدورها أنهت السيدة كرستيفا لقاءً عن “فرويد”، والذي أجري في فيينا والموسوم بـ “قوة الأحادية” The Force of Monotheism أين أعطت إشارة البدء للقاء البذرة.
بوصولنا إلى فندق Circus على نسائم المساء الخريفية، كنّا غير مصدقتين – بعد سنوات من القراءة والبحث- بأننا سنلتقي بـكرستيفا، وهي إحدى المفكرات والمبدعات الأكثر شهرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الحالي.
استقبلتنا بحفاوة، وبدا للعيان تلك اللمسة الخاصة والاهتمام بسماع الآخر (التزامٌ دافعت عنه في كتاباتها). بدت نظرتها وقّادة ووجهها منيرا وزادها أناقة ذلك الوشاح الملوّن الذي يدفِّئ جيدها. رغم رحلاتها العديدة فإنها حضرت إلينا سريعا، وبدت مثلنا كأنها في بيتها. بدأ النقاش وكأننا نعرف بعضنا منذ سنوات، بدت مراسلاتنا الالكترونية –مع هذه الحفاوة- بعيدة عن هذا الجو. سؤالانا الأولين يتناولان حياة الترحال والكتابة السردية.
سؤال1: الهدف من وراء هذا الحوار هو تعريف القرّاء ببعض اهتماماتك النظرية والأدبية والإنسانية… تلقيت في 2004 جائزة هولبيرغ وهي موازية لجائزة نوبل في مجال العلوم الإنسانية، وكنت أول سيدة تتحصل عليها، وقلت أن هذا الوسام العالمي (( هو تشريف لمواطنة أوربية، حاملة للجنسية الفرنسية وذات أصول بلغارية وأمريكية التأثر. مسرورةٌ بهذا الاختيار، الذي أصفه بالترحال..))، هل هذا التفسير الترحالي ما يزال تفسيرا ملائما بالنسبة إليك؟ عن أي مكان تتحدّثين؟ من أين تتحدّثين؟
جوليا كرستيفا: يعيش الكثير من الناس بعيدا عن أوطانهم الأصلية، يتحدّثون العديد من اللغات، يزاوجون بذلك بين لغتين أو ثلاث. يرتبط(و)ـن بأجانب (أجنبيات)، إنها طريقة حياة تفرض فرضا على الذات بل وتتجاوزه، شيء من الإعدام، كما أنها-في المقام نفسه- تعبير عن ميلاد متواصل. ليست الظاهرة جديدة في التاريخ.
تأملوا في الأسر اليهودية التي طُردت من إسبانيا في نهاية القرن 15، وأولئك الذين فرض عليهم قهرا الهروب من ألمانيا النازية خلال 1930- 1940، إلى تلك الشعوب التي غادرت روسيا تحت سطوة ستالين، إلى المنشقين عن الشيوعية والمنفيين إلى كل بقعة في العالم، إلى كل تلكم الشعوب التي أجبرت على مغادرة أرض الوطن بسبب الصراعات المسلحة في إفريقيا، أو إلى اللاجئين السياسيين… ولكن زادت العولمة من هذه الهجرة، ووجد الكثير من المواطنين أنفسهم مجبرين على العيش بعيدا عن موطنهم الأصلي.
تزايد هذا “التيار الترحالي” لأسباب شتى، فنحن، نغادر أرض الوطن على أمل تحقيق مستقبل أفضل، كما أن هناك أسبابأ عائلية أو عاطفية قد تقودنا إلى المغادرة، أو ربما هناك محفزات مهنية تدعونا نحو تحقيق مسار مهني أفضل، عندما لا نكون محدّدين بمكان سواء رضينا بذلك أو لا، أو مدفوعين بالفضول النخبوي، أو يغرينا الشغف لامتلاك حرية أكبر.
مهما يكن الأمر، ليست المغادرة عن طريق الحدود الجغرافية فحسب، بل عبر حدود ذواتنا وهوياتنا.
نتيجة: الكثير منا يجدون أنفسهم هائمين على وجوههم، سواءَ كان ذلك قهرا أو عن خيار، وهذا مما يؤثر بصورة جلية على الطريقة التي يشعرون بها بمنفاهم أو اجتثاثهم من الموطن.
أمام لجنة التحكيم لجائزة هودبارغ سمحت لنفسي بالجزم، وبعيدا عن تجربتي الخاصة، بأن الظاهرة الترحالية انتشرت بشكل كبير، وبعثت بصداها العالمي إلى النخب في القرن الـ 18، أين شارك في إبرازها لودفينغ هودبيرغ .
أتى المثقفون الذين يعتبرون أنفسهم إنسانيين من كيانات إيديولوجية عديدة، ومن ثقافات وبلدان مختلفة، وقاموا بتفجير مأزق أوربا الإقطاعية، غير باحثين في الوقت نفسه عن إجابات بل عن أسئلة.
أكد نيتشه في كتاب L’Antéchrist (1895) بأن اهتمامنا لا بد أن يكون حول “وضع علامة استفهام كبيرة” أمام الشيء المهم.
وكعودة إلى سؤالكم، ساقني عبوري الخاص عبر الحدود إلى طرح الأسئلة حول العقائد وحول السجون، وعن فروع المعرفة، ومسألة الهوية وتعدّدها. حتى وإن كانت الإجابات –في الوقت الراهن- عن كل تلك الأسئلة عشوائية، فإنه يعتبر من جانب آخر متنفسا بل وترياقا لعملية”مكننة الكائن”، والتي أضحت شكلا من الاستبداد، تجلت من خلال الدّعم التكنولوجي الحديث ووسائل الإعلام المختلفة والمد المتواصل للتعصب الديني.
اليوم وفي برلين، في هذا الوسط الجامعي، أهداني بعض من هؤلاء الترحاليين جوا احتفاليا أقرب إلى الروحيّ، وشرفوني عبر لقائهم بمناقشة أعمالي، ليفكروا بما أفكر به وبكتبي. أرى أن هذا غير معتادٍ مقارنة بما رأيته في فرنسا. بالرغم من أن هذا لا يثيرني، ولكن شهرتي المتواضعة يستهويها سؤالي: هل فعلا كل هذا الاهتمام هو من أجلي؟
فرنسا وعلى الرغم من تميزها بثقافة رائعة وبنائها لهوية قوية قائمة على قيم التنوير ورسائل حقوق الإنسان الصادقة، فقد ظلّت حذرة من هذا “الترحال” الحديث. وما تزال العديد من الأفكار التي تجاوزها الزمن والحزازات المرتبطة بالهوية مهيمنة لتصل إلى حد تهديدها أحيانا.
هناك أيضا ما أسميّه بـ “الفرد متعدّد الأصوات”، الذي يبدو أنه غير مرحب به، كما أنه أمسى لدى الآخر غير مفهوم، بل مزعجا إلى حد أنه قد يكون مثيرا للقلق. ولكنني، وسط هذا كله، على قناعة بأن هذا الاجتثاث المتواصل هو أشبه بالاختيار، أو بالحظ، لأنه يمنح إمكانية أن يكون هناك ميلادا جديدا، ليكون رهانا على الانفتاح على الآخر وهذا في حد ذاته ميزة ثقافية. الكثير من الجهود والحرص وأحيانا المعاناة يرافقون هذا التحول – لا يمكن تلافيه- علي أن أحاول من جانبي أن أترجمه إلى عمل إلى رقي وإلى إبداع.
سؤال2: هل تستطيعين أن تحدّثينا عن اختيارك لكتابة الروايات؟ الرواية، هذا الجنس السردي المتعدد الأصوات، هل لعب دورا في قصة منفاك الخاص داخل لغة أخرى؟
جوليا كرستيفا: لا أكتب من أجل أن أصنّف في جنس أدبي بعينه، بل لتجاوز حدود الفنون والمعرفة وعبورها (كما فعلت بين اللساني والتحليل النفساني من جهة وبين الأدب والتحليل النفسي من جهة أخرى)، وهذا يحتاج أفقا منفتحا، يفرض نفسه علي ويبرز عندما أبدأ بكتابة الروايات. كما أن مصطلح الأجناس (الأنواع) ما زال غامضا، إذ تبدو الرواية هلامية وغامضة، مما يدفعنا أحيانا إلى صعوبة تشكيل تعريف دقيق لها.
لذلك أفضل – بدل السؤال عن تموضعي في أي جنس أدبي- الإجابة عن : لماذا أكتب؟ في نهاية تحليلي، بدا لي أنني اندمجت مع اللغة الفرنسية، مثل طفل بدأ بتلقى لغته الأم، والرغبة في الكتابة كانت تابعة لذلك بشكل مباشر. وكرغبة في قص ذكرى طفولتي باللغة الفرنسية (وليس داخل لغتي الأم) لاحظت أن فرنسيتي كانت في عمقها- أدبية ونخبوية إلى حد ما، كما أنها مختلفة عن لغة البدايات عندما جئت إلى فرنسا، التي كانت بسيطة شيئا ما، وكأنها لغة “طفل”، قريبة مني لأنها دعتني إلى تفجير مشاعري وذكرياتي القديمة وحالات ألمي.. وهكذا تسرب غموض علاقة نضج الأم بابنها إلى اللغة الفرنسية ببساطة الكلمات وصدقها.
أتذكر أنني قلت لـ مشرفي، الذي وددت أن أقدّم له تحليلا لاستبطان لغتي الأم داخل اللغة الفرنسية، أنه حتى وإن كانت لي علاقة متينة مع أمي فإنني سأنفصل عنها يوما، تماما ككرة طفل ما تلبث أن تسقط من يده مع أول محاولة له للعب بها. بعدها ولد ابني، الذي كنت أحدّثه بالفرنسية. زوجي، المؤلف الفرنسي Philippe Sollers ، لا يتحدث البلغارية. وكان والداي بعيدين عني، فأضحت هكذا اللغة الفرنسية قريبة مني وذات ممارسة يومية..وفي الوقت نفسه نحن في نهاية السبعينيات، أين كانت موجة مهمة للثقافة الفرنسية تتساءل عن حدود الحقب الفلسفية والبنيوية وكذا ما فوق اللغوي، حول مقدرتهم على البوح بحقيقة التجربة الإنسانية. وبزخم كبير جاء رولان بارت بأسلوبه المتجدد بعد أن أتيح له ملامسة الرواية كما هو الحال مع فلاسفة آخرين مثل جاك دريدا وجيل دولوز، اللذان كتبا بموهبة أدبية خالصة آثارهما النظرية. هنا جذبني ذلك التنوير وتلك الومضة: الأدب هو شيء من تشكيل التفكير، كما سبق وأن نظّرت له في دروسي حول الثورة على المألوف (l’intime)، وهو ما يوجد في الكتاب الحامل لاسمي، وفي الكتب اللاحقة.
أفضل طريقة للتفكير داخل قدراتنا وأحاسيسنا ورغباتنا وهواجسنا هي العمل على السرد واللغة، وبالخروج من حركة البنيوية هذه ذات الخلفية الفلسفية لمجموعة تيل كيل.
أردت وضع حوصلة لهذه التجربة النخبوية (الثقافية) بشكل يعطي للسرد حرية أكبر، عبر كتاب الساموراي Les Samouraïs، سنة 1990.
وقد دفعني [توجهي التدريسي] التحليل، وميلاد ابني وتساؤلات المثقفين الفرنسيين حول علاقة النظري بالخيالي، وموت والدي في بلغاريا في ظروف قاسية إلى التوجه للكتابة الروائية.
 سؤال 3: هل كان فقد والدك هو الدّافع الأساس لكتابة روايتك “العجوز والذئاب”، سنة1991؟
جوليا كرستيفا: نعم، من المؤلم عادةَ أن نسمع كل ذلك.
في جانفي/كانون ثاني 1989، كنت ضمن البعثة المرافقة للرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران في زيارته إلى بلغاريا، وأثناءها قمت بتقديم والدي إلى الرئيس. في سبتمبر/أيلول من السنة نفسها كان على والدي إجراء عملية جراحية على المعدة بعد معاناة مع القرحة، ولم يكن الأمر يتطلب من الناحية الطبية غير تحييد الجدار الداخلي لها. 
لم تكن هذه العملية على ما يبدو عسيرة، وقرّر الجرّاح المكلف بهكذا عمليات والذي يحوز على تجربة واسعة مع كبار السن الاستعانة بتقنية التطعيم (الزرع)، ولكنه- لسوء الحظ- كان يفتقد للإمكانيات والوسائل اللازمة لمتابعة ما بعد العملية. 
اقترحت على الرئيس ميتران نقل والدي إلى فرنسا لهذا الغرض، فوافق على ذلك بشرط أن توافق السلطات البلغارية على منح تأشيرة الخروج. ولكن للأسف الشديد بعد مدة قصيرة، وبحجة أن “الطب في بلغاريا [آنذاك] يحوز على كل الوسائل اللازمة” توفي والدي، الذي كان من أشد النّاس إيمانا، ولم نستطع حتى أن ندفنه، ولم يتح لنا -فوق ذلك- أن ندفنه. واقترحت على القائمين شراء قبر له، مع تشييد شاهد يحمل الاسم، ومع بلوغ الأمر إلى نهايته قيل لي: (( سيدتي. أنت شخصية معروفة، سوف نعطيك هذا القبر، وسوف تدفنين مع والدك!)) في هذه اللحظة تحديدا، نظرت إلى هذا العالم بعينٍ مليئة بالمرارة، إذ يدفن الشيوعيون [في هذا البلد]وغيرهم لا، والعذر هو: تفادي التجمعات الدينية. كان محتما عليّ إذن حرق جثة والدي، وهو الإثبات الوحيد للعائلة لوفاته الفعلية.
رجعت إلى فرنسا مثقلة بالوهن وسط حالة كارثية.
أكد فرويد أن الحداد يدوم بين سنتين وثلاث، والطريقة المثلى التي كانت ستعينني على الخروج من هذا الحداد المؤلم هي كتابة “العجوز والذئاب” 1990، والذي اعتبره البعض نصا متفردا في جنسه الأدبي. وبعد الصدمة أدركت أن النص كان أقرب للنص الشعري “المسخ”Les métamorphoses، لـ أوفيد (43 ق.م ــ 17 م)، هذا الشاعر اللاتيني الذي كتب آخر جزء من مؤلّفِه على ضفاف البحر الأسود في رومانيا.
سؤال 4: تم نفيُ أوفيد Ovide إلى Tomis بقرار من أغستين، وذلك بسبب مجموعته الشعرية “فنُّ أن تحب”. وقد عاش على ضفاف “بونت أوكسين”، البحر الأسود حاليا، ومات هناك. أليس كذلك؟
جوليا كرستيفا: بالتأكيد، وقد أمست أمكان للعنة، غزاها الأشرار والمستبدّون من أمثال تشاوشيسكو ، وعائلته في روايتي “المسخ”، التي شاركت بها في بلغاريا وشخوصها كالحيوانات وليسوا بشرا. في 1989، أثّر في كل ذلك. كما أنني أثمن انتمائي إلى بلغاريا هذا البلد الذي أحبه وأحب ثقافته الرائعة، وأثمن بحماس كتابتي بلغتي الأم والتّحدث بها.
ويوم ميلاد القدّيسيْن “سيريل” و”ميتود”، هذا الأخير الذي أسس الأبجدية السلافية، في 24 من مايو/أيار من كل عام والمتزامن مع يوم الاحتفاء بهذه الأبجدية. نحتفي جميعا تلاميذ ومحبي للثقافة بشكل تفاعلي، بأن يحمل كل واحد منا حرفا من الأبجدية. لا أنسى هذا الاحتفال المتفرد عبر العالم. هذا التجسيد لكل الحروف في شكل توافق بين الفرد والثقافة، هل تم كنس كل ذلك يا ترى؟
في زيارتي إلى صوفيا، كي استكمل وثائق شهادة حرق والدي، أشاهد أشخاصا قساة، يستفزون الناس في الترام، ومستعدون فوق ذلك للضرب. لم يكن هناك أكل كافٍ، وصفوف لا تنتهي من المنتظرين لنصيبهم.
جعلني موت أبي القاسي وشكله الإجرامي أعيش مرارة كبيرة. ففُرض علي من الناحية الأدبية نوع آخر من السرد، وهو ما أسميته “الإثارة الميتافيزيقية”، ودون وعي مني بدا أن الأمر متوافق مع فكرة “فرويد”، والتي مفادها أن المجتمع كله قائم على جريمة تمت بشكل جماعي.
أذكّركم بأنه في كتاب Totem et Tabou طوّر مبتكر التحليل النفسي الفرضية، والتي على ضوئها قامت الجماعة البدائية [المشكّلة من الإخوة] بقتل الأب، واتّفقت على تقاسم ما ترك من نساء، مؤسسين بذلك زواج الأباعد. وكانت النتيجة جُرما جماعيا غير واعٍ من تطور سلالاتي.
ولكن في أيامنا هذه أين نبحث عن الجريمة؟
ما يدعو للتشويش فعلا أننا لا نستطيع تحديد المسؤول(ين).
مكنتني “الإثارة الميتافيزيقية” إذن من أن أحكي مغامرتي أو تجربة داخلية، سواء كانت مؤلمة أو عاطفية ولكن داخل سياقها التاريخي، دون أن تحرمني من استخلاص بعض الأفكار عن العالم الحالي.
واصلت بعد رواية “العجوز والذئاب” 1991 هذا الخط النصي، من خلال نص “امتلاك” 1996، أين استحضرت عبر شخصية “جلوريا” المرأة التي قتلت وزُجّ رأسها من طرف صديقة، اغتاظت من عاطفة الأمومة للأم جلوريا تجاه ابنها المريض. إنها طريقة في الكتابة لتناول الوجه الخفي لمثل هذه المحنة المرتبطة بأنثى اليوم. وللأسف لا النساء يتطرقن لها ولا الإنسانية بشكل عام تفعل ذلك، بل تتجاهلها بطريقة تبدو ممنهجة: إنها عاطفة الأمومة.
تواصل المجتمعات، وبرغم التقدّم الكبير الذي أحرزته المرأة عبر نضالها، إلقاء الحمل الوجودي الأكبر على كاهل النساء، وبشكل خاص على كاهل الأمهات.
في نصي “قَتْلٌ في بيزنطا” 2004، كان كلامي أكثر اتّساعا، إذ يتعلق الأمر بالحديث وإثارة الحديث عن عالم بيزنطا (سابقا). أريد الإشارة بشكل خاص إلى الشعوب الأرثدوكسية –بعيدا عن روسيا- والتي كانت تنتمي إلى أوربا، وقد عاشت معاناة ولم تجد لها مكانا في القارة. بلدان الشرق الأوربي هم الآباء الفقراء لأوربا وللعولمة، هذا ما أردت قوله في روايتي، وربما عبر فيلم في يوم من الأيام. ولكن، من تراه يهتم؟ أخشى أن تستمر الرقابة على كل ما يتعلق بالثقافة.
هل تم ضمّ رواياتي داخل تصنيف معين؟ هل كان ذلك ضروريا؟ باختصار تلك قصّتي، وتدخل ضمن هذا الإطار وضمن تعدّد الأصوات، وهو الرواية الميتافيزيقية، بالمعنى الذي تكون فيه المغامرات التي أبنيها ترتبط بأخلاق الحضارات، وبالعنف السياسي وبتفكير كل من الرجال والنساء.
ظهر مقال في جريدة “لو مند”، وقال بأن “قتلٌ في بيزنطا” هي رواية “كلية”، مقارنين إياها بروايات القرن الثامن عشر. 
سؤال 5: كان علينا أن نستحضر (رحلة نيلز كليم إلى تحت الأرض، 1741) لكاتبه لودفيغ هيلبرغ وهي رواية كلية بالفعل، مثلها مثل نص (رحلة إلى قلب الأرض، 1864) للفرنسي جول فارن؟
جوليا كرستيفا: مع بداية القرن الثامن عشر، وعلى مدار القرن التاسع عشر، بدأت مغامرة الأدب الأوربي عبر اكتشافه للفضاءات –تحت الأرضية- والتي غالبا ما تكون موحشة، ومليئة بالرهبة والخيال، وفيها يتم استكشاف الأماكن غير المأهولة سابقا. الرواية تأتي ضمن هذه الفلسفة، عبر نسجها للسرديات، لأنها أشبه بتأمل لحالة العالم وتفكيرٌ مختلف ضمن المخيال. 
سؤال 6: إذا أردنا تحديد مكان أثرك الأدبي، كيف لنا برأيك فعل ذلك؟ هل من خلال تيار أدب “والت” لـ غوته أو من خلال أدب الناشئة، كما صوّره دولوز وغاتّاري عند تعليقهم على كافكا لمعرفة الثورة؟ هل نستطيع تسجيل كتابتك ضمن أدب الناشئة؟
جوليا كرستيفا: ربما لأن لغتي الأم ليس الفرنسية، فأطلقوا عن أدبي بأنه أدب “الناشئة”، وقد يكون ذلك بالمعنى الذي ظهر من خلال ثورتي على القوالب، ومن خلال سفري مبتكرة بطريقة مختلفة باللسان الفرنسي.
لم أكتب أبدا مثل Collette أو مثل Marguerite Duras أقوم بالكتابة بشكل مختلف. ولكن لا أحب بصدق لفظة “الناشئ أو القاصر”، فهذا يعود بنا إلى سذاجة مرحلة الطفولة، وهنا أسأل: لماذا كان عليهم تصنيفي ضمن أطُرٍ لم تأخذ تجربتي بعين الاعتبار؟ لنقل إذن بأنني أهتم (وأفكر) أكثر بالمتن لا بالمصطلح.
سؤال 7: داخل هذا الإطار من التفكير (وكردّ فعل) في مسألة إعادة اكتشاف الذّات عبر اللغة الفرنسية، ما رأيك بالفرنكوفونية: تاريخيا، وداخل السياق الحالي أيضا؟ وفي الآن نفسه، أين أنت ضمن إطار المصطلح المستعمل حديثا داخل الفضاء العام لـ الأدب العالمي باللغة الفرنسية ؟ مصطلح يحاول أن يستحوذ على أعمال مؤلفي اللغة الفرنسية، ويعيد تعريفهم ببلاغة “إعادة الاستعمار الأدبي”؟
جوليا كرستيفا: كما تعلمون، جاءت فكرة الفرانكفونية أثناء مرحلة ما بعد الاستعمار، مع بدايات سنوات الستينيات (1960)، اقترح بعض المثقفين من أمثال [سانغور، سيزار، هماني، سيهانوك، بورقيبة] والذين أتوا من مستعمرات فرنسا القديمة في إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وبعد أن تابعوا دراساتهم في فرنسا إطلاق مشروع الفرانكفونية هذا. أصحاب هذا المقترح الفرانكفوني عُرفوا بـ ورثة التنوير الفرنسي، أو الإنسانية الفرنسية، والذي لا يرتبط بالنسبة إليهم بشكل جوهري بدون أهمية اللغة والثقافة والذائقة الفرنسية، بل والمثل الاجتماعي الفرنسي.
وُلدت الفرانكفونية بهذا الشكل ليتم تصديرها فيما بعد إلى المستعمرات القديمة. 

_______
    [1] العنوان الأصلي: تأمل في الترحال، في
العالم وفي الحياة وفي الأدب، عبر لغة أخرى

[1] “The
Force of Monotheism: Psychoanalysis and Religions” : International Conference,
October 29 -31, 2009, Freud Museum, Vienna.

[1] لودفيغ هودبيرغ (1684-1754) هو أول كاتب سكندنافي ذاع صيته في الوقت
المعاصر، تحصّلت كرستيفا الجائزة الدولية الأولى التي حملت اسمه في مدينة بيرغان
(مدينته الأم) في 03 ديسمبر 2004. وجائزة هولبيرغ تعتبر موازية لجائزة نوبل للعلوم
الإنسانية وللتحليل النفسي والأديان
.

[1] فيليب سولار: كاتب فرنسي معروف، ولد سنة 1937[في الويكيبيديا نجد
تأريخ ميلاده: 28 نوفمبر 1936. المترجم
]، اسمه الحقيقي فيليب جوايو، ولد في
“الجيروند”، من عائلة صناعيين. أرسل بعد إنهاء دراسته الثانوية في بوردو
إلى فيرساي منظما إلى “اليسوعيين” فيها. في سنة 1957، نشر أول نص له
مستعيرا اسم سولار. في سنة 1960، أسس مجلة تيل كيل [النقدية الشهيرة]بدار سوي، التي أمست ملجأ للمعارضين ومعادي الالتزام في الأدب. نال جائزة
“ميديسيس” سنة 1961 عن روايته “لو بارك” (الحديقة). بدأ بعد
خطوته تلك التفكير في الكتابة عن إشكالية موضوعاته النقدية عبر كتبه المتتالية
Drame, Nombres, Lois, Paradis [المأساة، المجموعات، القوانين، الجنة]. في
سنة 1983، نشر روايته (نساء)
Femmes، منتقلا من دار سوي إلى “قاليمار”Gallimard، مؤسسا مجلة جديدة بعنوان اللامنتهي L’infini. يعتبر أحد أعضاء لجنة القراءة لدار قاليمار. نشر سولار في سنة
2007 مذكراته، تحت عنوان “رواية حقيقية”. تزوج سنة 1967 بـ جوليا
كرستيفا، ورزقا بـ دافيد. 
 
[1] نيكولاي تشاوشيسكو [رئيس رومانيا زمن الحكم الشيوعي]، ولد في 26/01/1918،
نفذذ فيه حكم الإعدام أثناء الثورة الشعبية الرومانية في 25/12/1989،  كان على رأس السلطة الشيوعية الرومانية من 1965
وإلى غاية يوم إعدامه.

[1] من أجل أدب عالمي بالفرنسية، Le Monde du Livre مقال نشر في 16من مارس
2007،  ممضى من العديد من الأقلام
الفرنكفونية مثل الطاهر بن جلون، أمين معلوف، ولو كلوزيو..وغيرهم

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *