*أمجد ناصر
زرت، مؤخراً، فيتربو التي تبعد نحو مئة كيلو متر إلى الشمال من روما، وفُوجئت بوجود «مدينة» قروسطية، كما كانت عليه عندما هرب الباباوات إليها، وتحوّلها مقرّاً لهم بعض الوقت. يبدو أن تحوّل فيتربو مقرّاً باباوياً، مؤقّتاً، سببه خوف زعماء الكنيسة الكاثوليكية من قيام العثمانيين باحتلال روما. هكذا صارت هذه البلدة، صعبة المسالك، التي تقع في إقليم توسكاني مقرّاً بديلاً للعاصمة البابوية التاريخية، الأمر الذي أعطاها أهمّيّة سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، وبالطبع دينيّة، لم تكنْ تعرفها من قبل.
يكفي أن تزور مقرّ بلدية المدينة لترى آيات من عظمة فيتربو مرسومة على الجدران والسقوف. كان الباباوات، كما نعرف، يهتمون بالرسم. فهم أسهموا في رعاية إبداعات كبار الفنانين الإيطاليين أمثال: مايكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، ورفاييل، وهؤلاء، إلى غيرهم، من أبناء منطقة توسكاني، مهد حركة النهضة الإيطالية، التي تبادل رعايتها، لأسباب تنافسية وأحياناً تصارعية، الباباوات والعائلات الارستقراطية الثريّة. أينما تلفَّت في مقرّ بلدية فيتربو تجد رسومات تذكّرك بأعمال عصر النهضة.. أو القرون الوسطى، إذ لم يشع مصطلح «عصر النهضة» إلّا في القرن التاسع عشر ليصف تلك الفترة التي شهدت تناقضاً مذهلاً في حياة الإيطاليين: ثراء فاحش للباباوات والتجار وملّاك الأراضي، وفقر وجهل وجوع يرزح تحت وطأته عامة الناس. من فترة مظلمة، بالنسبة للغالبية العظمى من السكان، أشرقت شمس النهضة الفنيّة والأدبيّة. بالوسع رؤية الباباوات الذين تعاقبوا على فيتربو في اللوحات الجدارية التي تزيّن قاعات المقرّ البلدي. وبوسع المتجوّل في هذا المبنى البلدي أن يرى رسوماً وتماثيل أسود أينما تطلع. الأسد هو رمز المدينة لذلك تجد رسماً، نحتاً، نقشاً له في غير مكان، مرّة يحمل صليباً، ومرّة علماً، مرّة على حائط، ومرّة على نافورة لم تتوقّف المياه عن التدفّق فيها..
***
على جدار في القاعة الأولى بمبنى البلدية، هناك لوحة كبيرة تصوّر رجل دين ذا لحية شيباء طويلة وأمامه كتاب. هذا هو أحد أبناء فيتربو البسطاء الذي ارتقى في السُلَّم الكنسي إلى مرتبة كاردينال وفي الدراسة العلمية إلى درجة الدكتوراه: أجديو دي فيتربو، الذي سيرتبط اسمه، دائماً، بحدثين، الأول رعايته للأسير السفير الحسن الوزَّان (ليون الإفريقي)، الذي خطفه القراصنة الصقلّيون و«أهدوه» إلى البابا، والثاني أمره ترجمة القرآن إلى اللاتينية وتعلّمه هو اللغة العربية على يد الوزّان، الذي قام، أيضاً، بمراجعة الترجمة الثانية للقرآن إلى اللاتينية. كان كاردينال مدينة فيتربو، التي بلغ عدد سكانها، أيام ازدهارها تلك، أكثر مما هو عليه عديدها اليوم، يريد أن يقرأ نصوص القابالا العبرية، فوجد أن الطريق إلى العبرية الميتة يمرُّ باللّغة العربية الحيّة. ويبدو أن هذا كان يحدث تلك الأيام ليس فقط للاستفادة من العربية في قراءة العبرية، ولكن أيضاً لفهم العثمانيين الذين اقتحموا قلب أوروبا باسم الإسلام، ومن ثَمّ، باسم القرآن، ما يعني باسم العربية.
المصادفات، أو الأقدار، هي التي جعلت اللقاء ممكناً بين هذين الرجلين- المسلم والمسيحي- على أرض المعرفة وتبادل الأفكار ولو من باب الحاجة والمصلحة، فأثمرت، هذه العلاقة، ترجمة لاتينية للقرآن وسجَّلت باسم الوزَّان سِفْرَه الشهير «وصف إفريقيا» الذي وضعه باللّغة الإيطالية التي أصبحت تشهد إقبالاً أدبيّاً، سيؤدي إلى تحوّلها لغة قائمة بذاتها، لتنزوي، بعد ذلك، اللاتينية في المكتبات والأديرة وأقسام اللّغات القديمة في الجامعات.
في هذه المدينة الصغيرة التي يصلها المرء في طرق فرعيّة ووعرة، بعض الشيء، من العاصمة روما، عاش الكاردينال فيتربو، الذي سيتّخذ من الوزَّان أستاذاً له وسيحاول، من دون جدوى، أن يتتبع أخباره التي انقطعت إثر مغادرته إيطاليا إلى تونس. بعدما عاد الوزَّان إلى عالمه العربي لم يقمْ بعمل يذكر، كما يبدو، ولم يُشرْ أحد إلى أنه التقاه. كأنه عاد إلى الرحم الذي خرج منه أول مرّة، واختفى هناك.
______
*الدوحة