رياض الصالح الحسين.. شعر يُحيي وحب يُميت



*محمود عاطف


سرقة مباغتة للموت خطفت الشاعر السوري رياض الصالح الحسين (1954 -1982)، فطالته فتنة الرحيل مبكّراً، وإن ظلّت أشعاره صاحبة الإسهام الرئيسي في الإشارة لشاعر حافظت قصيدته على “بكورتها”، تماماً كصورته المؤبّدة شاباً لم يتجاوز التاسعة والعشرين بنظرة أسيانة وغائمة. أشعاره التي امتدّت خيوطها لتتواشج مع عصرنا، فبدا كأنها ابنة لراهننا الشعوري وربما بنفس الدرجة وقت ظهورها الأول في نهاية السبعينيات، ما جعل مواقع التواصل الاجتماعي تتداولها بكثرة منذ اكتشافها لرياض، خصوصاً مع نفاد طبعات أعماله منذ زمن طويل، إلى أن ظهرت، مؤخراً، في طبعة كاملة عن منشورات “المتوسط – إيطاليا”، لتضمّ مجموعاته الأربع وقصائد بخط يده وشهادات عنه وعن شعره، بمقدمة للشاعر منذر مصري. 
هي المرة الأولى التي تصدر فيها أعمال رياض مجمّعة وكاملة، بعد نفاد طبعات مجموعاته السابقة، لكن المجموعة الكاملة التي أشرف على إصدارها الشاعر عماد نجار، ابن أخت الراحل، استبعد منها عدة قصائد كان نشرها موقع “جدار” الإلكتروني قبل فترة قصيرة وذلك لعدم وجود مصدر واضح لها، إضافة إلى أن الشاعر اعتمد بنفسه آخر مجموعاته “وعل في الغابة” من غير ذكر هذه القصائد، ما يعني أنه استبعدها بنفسه من النشر. الراحل الذي فقد النطق والسمع وهو في الثالثة عشرة من عمره، مثّل شعره منعطفاً مهمّاً في قصيدة النثر بنسختها السورية، بعد صوت رائد ومؤسس للشاعر محمد الماغوط، لكن قصيدة رياض جاءت متخفّفة من موسيقى بلاغية كانت سائدة وقتها في معظم إنتاج الشعر العربي الحديث، وإن باستثناءات قليلة لأصوات مهاجرة، مثل اللبناني وديع سعادة والعراقي سركون بولص. كان رياض قد بدأ حياته الشعرية بكتابة قصائد موزونة ومقفّاة – كما يشير مصري – ربما ليستعملها كدليل غنائي على كماله العضوي كإنسان لم تحسم منه حاستا السمع والنطق المعطوبتين شيئاً، لكنه سرعان ما هجر هذا النوع ليتجه إلى قصيدة النثر ويحمّلها كل همومه عن نفسه وعن العالم بوضوح وبساطة. وحالما تصدر أولى مجموعاته الشعرية بعنوان “خراب الدورة الدموية” في دمشق سوف “لا تتضمّن سوى قصائد نثرية”، بحسب مصري. لكن الشاعر السوري فرج بيرقدار في شهادته الملحقة بنهاية الكتاب، يخالف رأي منذر في ما يخصّ إصدارات الراحل، ويشير بتفصيل لقصائد التفعيلة التي أقحمها رياض في مجموعات قصائده النثرية، ويحار في أسباب ذلك “خاصة بعد أن وجد روحه وخصوصيته أو ميزاته الإبداعية في قصيدته التي أكملها وأكمل حياته معها”. بالعودة إلى مقدمة مصري، والتي اختار لها عنواناً دالاً ومفارقاً: “سيرة موت ناقص”، نجده يشير إلى أن صاحب “أساطير يومية” كان يودّ لو يخفي مرضه عن الجميع، وعلّل ذلك بالقول “كان رياض يريد أن يكون صحيحاً، لا ينقصه شيء كالجميع، كاملاً أو شبه كامل كالجميع”. 
من اللافت هنا أن الشاعر الذي تكتّم عن حياته القاسية ومرضه أمام الناس، سكب ذلك كله شعراً، وخصوصا ما يتعلق بتجاربه العاطفية الفاشلة، كتب يقول “يحفر العاشق بأظافره/ تراب القبر/ يحفر في بقايا التاريخ/ يحفر منذ ألف عام/ يحفر ليصل/ يحفر دونما ألم/ (الموتى لا يتألمون)/ والعاشق الميت/ يريد الوصول لمن يحب/ وسيظل يحفر بالأظافر والأسنان/ تراب القبر/ سيظل يحفر إلى الأبد”.
يضيف مصري بالقول إن رياض أراد أن يكون “قابلاً لكل شيء، وأكثر من كل شيء.. للعلاقات العاطفية، وللحب، الذي كان رياض يفعل كل شيء للحصول عليه، فهو الدليل على أنه لا يعيبه شيء”.
هكذا أسلم الشاعر الراحل حياته للحب كعلامة على كمال وجوده، وأهدى آخر مجموعاته “وعل في الغابة”، لـ هيفاء أحمد، الفتاة العراقية التي أحبّها، والتي هجرته لاحقاً إثر اكتشافها لسفره إلى اللاذقية – وربما خيانته لها – مع التشكيلية هالة الفيصل، ليعاني قساوة الهجران وينكفئ على نفسه في غرفته يدخّن ويشرب”، ما أدى إلى انهياره بالكامل، صحياً وذهنياً، ليموت بعدها بأيام.
هذا الموت الذي أنهكه قبل أن يموت فعلاً، كان رياض روّضه في أشعاره، جعل منه موتاً يتلبّسه فرح من نوع أرضي مع أنه ليس أرضياً أيضاً، “فالقبر لم يعد مكاناً حائلاً دون فرح، والموت لم يعد سدّاً أمام تدفق حياة”، على ما كتب عبد الكريم كاصد في شهادته. يكتب رياض في قصيدة “الدراجة”: “الولد فوق الدراجة/ سعيداً، ضاحكاً، منتشياً/ يدور في فناء قبره/ حين كان حياً/ سقط عن الراحة ومات/ الولد في فناء قبره/ يدور بدراجة من عظام/ سعيداً، ضاحكاً، منتشياً/ لم يمت الطفل وإن مات/ ولم يعش الطفل وإن عاش ثانية”. الفرح الصامت في شعره على خلاف حياته القاسية وصممه طفلاً، إضافة إلى تجارب حبه الفاشلة ثم موته المبكر لاحقاً، كلها أضفت على صاحب “خراب الدورة الدموية” صورة مثالية لشاعر يصلح أن يكون من الرومانتيكيين الأوائل، يبكي حياته والعالم في الشعر، أو يقدّمهما لاعناً. وإن كان يفعل ذلك بخفوت من لا يكترث “بين يديك أيها العالم/ نحن لسنا سعداء/ بين يديك أيها العالم/ نحن لسنا تعساء/ نحن لا شئ البتة”. هذه النبرة ستنضج وتجد منطقها الجمالي والمفاهيمي للشعر مع ديوانه الثالث “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس”، وستكون قصيدة الراحل حينها كما عنوان المجموعة نفسها: بسيطة وواضحة وتستعير جمالها من مفردات عادية وجدت طريقها للشعر في قصائده. هذه النبرة ستنضج وتجد منطقها الجمالي والمفاهيمي للشعر مع ديوانه الثالث “بسيط كالماء، واضح كطلقة مسدس”، وستكون قصيدة الراحل حينها كما عنوان المجموعة نفسها: بسيطة وواضحة وتستعير جمالها من مفردات عادية وجدت طريقها للشعر في قصائده. يشير مصري إلى مصادفة أن يكون آخر ما كتبه رياض في ديوانه الأخير وقصيدته الأخيرة “لقد اعتدت/ أن أنتظرك أيتها الثورة”، كأن صوت رياض ينطق لتوّه الآن، ويحثّنا أن نردّد معه “يا سورية الجميلة السّعيدة/ كمدفأة في كانون/ يا سورية التعيسة/ كعظمة بين أسنان كلب/ يا سورية القاسية/ كمشرط في يد جرّاح/ نحن أبناؤك الطيّبون/ الذين أكلنا خبزكِ وزيتونكِ وسياطكِ/ أبداً سنقودكِ إلى الينابيع/ أبداً سنجفّف دمكِ بأصابعنا الخضراء/ ودموعكِ بشفاهنا اليابسة/ أبداً سنشقّ أمامَك الدروب/ ولن نترككِ تضيعين يا سورية/ كأغنية في صحراء”.
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *