*المهدي مستقيم
تسهم عدة عوامل في تهميش وعدم الاعتراف بإسهام الفلسفة العربية في تشكيل التراث الإنساني، ومن بين هذه العوامل نجد تلك الأفكار النمطية التي ألصقت بالفلسفة العربية، كونها تنطلق من أسس دينية إسلامية من جهة، وكونها تكرارا للفلسفة اليونانية من جهة أخرى، وهذا ما نجده حاضرا بقوة لدى أرنست رينان، الذي يقصي إسهام الفلسفة العربية في تشكيل التراث الانساني، إذ ليس لدينا، حسب رأيه، ما نتعلمه لا من ابن رشد ولا من العرب ولا من العصر الوسيط.
كما أنه لا يتردد في إقحام ابن رشد داخل صراع العقل ضد التعصب، إشارة منه إلى أن تاريخ البلدان الإسلامية كرس انتصار التعصب الديني على نور العقل. يلقي المفكر المغربي علي بن مخلوف في كتابه: «لماذا نقرأ الفلاسفة العرب.. التراث المنسي»، الصادر مؤخرا عن منشورات ألبان ميشال الفرنسية، المسؤولية على أرنست رينان وأتباعه، في ما لحق الفلسفة الإسلامية من تهميش ناتج عن تصورات عنصرية تؤمن بأن التفكير في العالم العربي الإسلامي مات بموت ابن رشد، ولم يتأت له الظهور مرة أخرى إلا مع رحلة بونابارت إلى مصر، وفي ذلك تمهيد للتوسع الاستعماري الذي ادعى أنه جاء من أجل إحياء التفكير في البلدان التي تفتقده. لكن الأعمال التي انصبت على الفلسفة العربية في الخمسين سنة الأخيرة، تتيح لنا اليوم فرصة قراءة الفلسفة العربية قراءة جديدة، تختلف كل الاختلاف عن القراءات التي سادت في القرن التاسع عشر، إذ كشفت مجموعة من الدراسات في الفلسفة الأنغلوساكسونية المعاصرة، خاصة تلك التي انصبت حول الفلسفة المنطقية، أن هناك نقاط التقاء وتقاطع عديدة، تجمع الفلسفة الوسيطية بالفلسفة المعاصرة، حيث أصبح يبدو التكامل واضحا مثلا بين القديس توما الاكويني وفتجنشتين، وبين ابن رشد وفريج. ويمكن أن نستحضر هنا أبحاث بيتر غيتش وأنتوني كيني، وهما اسمان بارزان في الفلسفة المعاصرة، إذ يعود لهما الفضل في تقديم قراءة تحليلية جديدة لفلسفة القديس توما الإكويني. وقد اعترف بيتر غيتش بوجود فلسفة منطقية عميقة بمعناها المعاصر لدى توما الإكويني، رغم أن هذا الأخير لم يخصص كتابا للمنطق.
إذا كان الاكويني الذي لم يخصص كتابا للمنطق قد كشف عن براديغم له وزنه في الفلسفة المنطقية، فماذا يمكننا أن نقول عن الفارابي وابن سينا وابن رشد الذين خصصوا أبحاثا مهمة للفلسفة المنطقية قرأها الإكويني عن ظهر قلب؟ إن الفلسفة العربية كما الفلسفة الصينية وغيرها، يمكن النظر إليها على أنها جسر يؤدي عبوره إلى اكتشاف تاريخ الحقيقة الإنسانية المشتركة. فتعدد الجسور أو المداخل المؤدية إلى التاريخ نفسه، لا يعني أن هناك مدخلا أكثر قيمة من الآخر، كما أن إقامة مقارنة بين الثقافات من دون وضعها في قالب متساو لا ينتقص من ثقافة على حساب أخرى، بقدر ما يدخلنا في عملية تواصل، ويتيح لنا إمكانية العيش في إطار قول مشترك.
عرف العصر الوسيط بعصر الظلمات والحزن والملل، لكنه في الوقت نفسه كان عصرا غنيا بالبحث الفلسفي الميتافيزيقي والمنطقي الذي يحقق السعادة، لقد كان استعمال مفهوم الحكمة في المجال التداولي للفلسفة العربية، مكان مفهوم الفلسفة، بمثابة استراتيجية تخفي التعارض القائم بين الفلسفة والدين، خصوصا أن الحكمة اسم من أسماء الله، الحكيم، وصفة تطلق على القرآن، الكتاب الحكيم، وتبدو هذه الاستراتيجية واضحة في كتاب ابن رشد فصل المقال، الذي أوضح فيه أن دراسة الفلسفة والعلوم المنطقية يسمح بها القرآن بل ويدعو إليها.
نهج الكندي والفلاسفة الذين جاءوا من بعده، استراتيجية ثاقبة تتيح لهم جعل التفكير الفلسفي مقبولا ومشروعا، وذلك بربطه بالحكمة، لكنها حكمة تنتج براهين وحججا عقلية، ولا تكتفي بتكرار أقوال الفلاسفة القدماء، من هنا كان الكندي يلح على ضرورة النظر إلى طبيعة الموضوع المدروس قبل اختيار المنهج الملائم لدراسته، لأن الموضوع المدروس هو الذي يفرض علينا طبيعة المنهج الذي يجب أن نقاربه به، فهو يرفض مثلا استعمال الخطابة في مجال العلوم الإلهية وفي مجال الرياضيات، لأن الميتافيزيقا والرياضيات تتطلب البرهنة، أما الخطابة فنلجأ إليها عندما يتعلق الأمر بالصور والشهادات والامتثال إلى الحس. إن هذا التمييز المنهجي الذي يقيمه الكندي هو في الوقت ذاته تمييز في الملكات الإنسانية، إذ يميز بين الإدراك الحسي، الذي يمكننا من إدراك الأشياء القريبة منا والبعيدة عن الطبيعة، لأن الإحساس يدرك الأشياء انطلاقا من مدى تكاملها مع كياننا. أما الإدراك العقلي فيمكننا من إدراك الأشياء البعيدة عنا والقريبة من الطبيعة، ذلك أن العقل ينظر إلى الأشياء في حقيقتها.
الأمر نفسه نجده لدى ابن رشد في نطاق توضيح لعلاقة الدين بالفلسفة، إذ يميز بين ثلاث فئات من الناس، على أساس القدرة على الإدراك واستعمال العقل:
1- الفئة الأولى تستطيع إدراك الأدلة البراهين العقلية.(تمثل الفلاسفة)
2- الفئة الثانية تستطيع إدراك البراهين الجدلية.(تمثل علماء الكلام)
3- الفئة الثالثة تستطيع إدراك الأدلة الخطابية.(وهذه الفئة الأخيرة تمثل عامة الناس)
لا يتعلق الأمر بحقيقتين كما يشاع حول ابن رشد، بقدر ما يتعلق باختلاف طرق الوصول إلى الحقيقة. لقد أكدت مجموعة من الدراسات التي خصت الفلسفة الرشدية، أن هذه الأخيرة لم تكن تؤمن بوجود حقيقتين، حقيقة مرتبطة بالإيمان وأخرى مرتبطة بالعقل، وهذا ما أوضحه ليو ستراوس مثلا، حين أكد أن ما يقصده ابن رشد هو اختلاف أشكال التعبير عن الحقيقة الواحدة، حيث يمكن التعبير عن الحقيقة باللجوء إلى الخطابة، كما باللجوء إلى الجدل أو البرهان، ولم يكن يقصد إطلاقا وجود حقيقتين.
لقد وضع ابن رشد كتاب فصل المقال بأسلوب فقهي وقصد من ذلك التوجه إلى عامة الناس الذين كانوا واقعين تحت التأثير القوي لسلطة الفقهاء، إذ اضطر ابن رشد في البداية إلى إخفاء اهتمامه بالفلسفة عندما قابل الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، ولم يكشف له عن هويته الفكرية إلا بعد أن طمأنه هذا الأخير.
كان هدف ابن رشد هو التأسيس لمشروعية الخطاب الفلسفي في الثقافة والمجتمع العربيين الإسلاميين، بعد سيادة الخطاب الفقهي الذي يدعي امتلاك الحقيقة وحده. ومن هنا يأتي الدور التنويري الذي لعبه فيلسوف قرطبة من أجل ترسيخ فكر الاختلاف، مبينا أن هناك عدة طرق للوصول إلى الحقيقة، وأن الطريق الفلسفي هو أحد تلك الطرق الموصلة إلى الهدف. يقول في كتاب «فصل المقال»: « فإنه كما أن الفقيه يستنبط من الأمر بالتفقه في الأحكام وجوب معرفة المقاييس الفقهية على أنواعها وما منها قياس وما ليس بقياس، كذلك يجب على العارف أن يستنبط من الأمر بالنظر في الموجودات وجوب القياس العقلي وأنواعه، بل هو أحرى بذلك».
لا يمكن إلا لجاحد أن يفصل المعرفة التي أنتجتها الفلسفة العربية عن التراث الإنساني ككل، فإسهام هذه الأخيرة في تشييده يبدو جليا من خلال سعي الفلاسفة العرب الحثيث وراء الحقيقة الإنسانية، باعتماد استراتيجيات، واتخاذ مداخل مختلفة ومتفردة. إن البحث وراء الحقيقة الإنسانية والالتزام بأسسها ومبادئها المنهجية موشوم في تاريخ واسع مشترك يضم الإنسانية جمعاء بمسلميها وعربها وغيرهم.
لقد ترك الفلاسفة العرب بصمتهم واضحة في الفلسفة الوسيطية اللاتينية، وفي عصر النهضة وفي العصر الكلاسيكي، (إذا اتبعنا تحقيب ميشال فوكو). وما تهميشها إلا دليل على النجاحات الكبرى التي تعزى إليها.
_________
*القدس العربي