لغة المفـارقة… والغربـة في “رمضان المسيحي” لـ”عادل سعد”



محمد كشيك*


تلعب المفارقة الدور الأقوى، في بناء تشكيلات النص في رواية عادل سعد «رمضان المسيحي» حيث يتكون النص من علامات دالة، تؤثر في المعنى النهائي للنص، وتأتي البداية، لتؤكد لنا، تلك المفارقة، حيث يبدأ العالم على نحو طبيعي، وأساسي، من عند نقطة معينة، ثم تتفرع النقطة، إلى نقاط عديدة صغيرة، فالرواية تبدأ ببيت شعري مبهج، لشاعر مبتدئ، وتستمر الرواية في نسج عناصرها بقوة، ليلتئم النسيج، في بناء قوي ومؤثر وفعال.. يقول الشاعر جلال علما، في قصيدته: 
قال المغفل لمغفول:
“إزاي نكون إحنا من الطين
ونستحمى ولا ندوبشي؟”
سؤال الإجابة عنه تحتاج إلى نوع من المكر، أو إلى قراءة الرواية بكاملها، لأن اللون الأسود يظلل كل شيء بعد البداية، فنتعـرف على ذلك البلد البعيد «أسيوط» الذي أنجب كل هؤلاء الرجال، الذين يقومون ببيع قشر البطيخ على أنه سمك، ومحمود العلواني، الذي كان يتدرب يومياً حتى فاز في الماراثون، العلواني أجير الأرض، الذي أجبر على قطع ساقه، نتيجة حادث مأسـاوي، لينزوي العلواني في قريـته «علوان» مبتور السـاقين…… ثم «درنكة» حينما اكتشفوا فيها بالمصادفة، إحدى الألعاب، لم يكونوا يعرفون – حين يقتلون بعضهم لقطع الوقت – لماذا، يقذفون الكرة الطائرة، ويمنعونها من السقوط على الأرض كالمجانين، وأثناء المباراة، ينكشف أهل درنكة، «حين علا صوتهم خشناً كنشارة الخشب، «ديب يا دمال يا بن الدزمة الدلابية» هذه قصـة قوم «لم تكن حياتهم كلها انتصارات، بل تعرضوا لهزائم مريرة».
وتعتبر شخصية «رمضان المسيحي» من الشخصيات التي تجتمع بداخلها كل صنوف المتناقضات، فرغم اسمه المسلم، فإنه قـد تم تعميده في الكنيسة، كمسيحي، «تعمد ببيت الرب، وتنـاول القربان المقدس، ونال بركة وسر «الأفخارستيا» وحرصـاً على حياته، صار في حماية اليونان، ولاجئاً سياسياً: لأن «الهمج» قد يقتلونه، كأحد المرتدين……
وتستمر الرواية، إلى أن تنفتح بعد السفر إلى اليونان، على أنواع مختلفة وعديدة من التناقضات، فنلمح بادئ ذي بدء، تلك التناقضات، بينما ننزلق في بلاد الغربة، ونستغرب كيف يمكن أن يعيش كل هؤلاء الطلبة، في تلك البلاد، لكن لطول السفر، فالمصريون تمكنوا من فهم هذه الحضارة والتواؤم معهـا…. وسافر الطلاب إلى أثينا، بواسطة «على نصار» إذ كـان ينظم رحلة علمية سنوياً، يخاطب جامعة يونانية، ويطـالب بزيارتها، بصحبة الطلاب، في الإجازة الصيفية، ويحصل على موافقتها، وكان الرجل واضحاً، من أول لحظة، الفرد ألفين من الجنيهات، غير تذاكر السفر، وأسعارها سيحددها الزمـلاء..
في الجهة المقابلة
وعبر الإيقاعات المتناغمة والمتعارضة، تنهض الوقائع، لتصبح خيالات من لحم ودم، فالقبيلة المصرية تلتئم في الغربة أخيراً، لتنفتح على واقع أكثر حرية وانفتـاحاً، فحين الالتقاء بالمجتـمع الجديد، فهم دائماً ما يحاولون، أن يصيروا منه، ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من أركانه « ملامحنا تخشبت فجأة، سمراء تتبعها شقراء، وهيفاء القوام مع زنجية ساحرة، وبرنزية بلون الشمس، وسيقانهن طويلة وجميلة، ونهودهن مشـدودة، على ملابس تغريك بفك أزرارها، تحرك القطار الصعيدي، في وسط أثيـنا، وعيوننا على السيقان والمؤخرات، ومشهد الحرس اليونـاني، في زيه التقليدي، بالتنورة القصيرة، والحذاء السفينة، والجوارب المطرزة، يقترب معلناً قرب وصولنا لميدان «سي دجما» الشهير…
ويستمر المصريون في محاولة التأقلم مع المجتمع الجديد، فتزداد لغة المفارقة، وضوحاً، كما يزداد دور الإيقاع، واللغة الشعرية في إكمال ملامح الصورة الفنية، حيث يظهر الحدث واضحـاً عبر تلك التأثيرات الموسيقية، التي يزخـر بها النص، نلمح كل ذلك، في مونولوج الراوي لنفسه، حينما كان يتأهب للنوم « فتحت النافذة، كان الليل ساكناً وخفضت الضوء، ووقفـت أستنشق الهواء، في النافذة المقابلة، يرسم الضوء البعيـد جسدين راحا يمارسان الحب على حواف الصيف الرطيب، وهـما لا يعرفان، أن هناك عينين من أفريقيا الحارة ترقبان في الظلام» ثم تأخذ الرواية بتشكيلاتها الإيقاعية، في التحول إلى عناصر واقعية ينسحب عليها خيوط سريالية، فتتعاطف مع الراوي، الذي يشعر بكل جملة ويذوب مع كل إيقاع: فهل وقع في الحب وسط كل هؤلاء الفتيات الجميلات؟ وتبدو علاقته بالصغيـرة سولا علاقة بريئة، رغم أننا نعلم أنها علاقة حقيقية للغـاية، إنه يحب البساطة فيها، كما يشعر بالهناء في الغربة التي لا يشعر بها أحد سواه، فيتجول في الشوارع، ويحضر الاحتفالات ويرتاد المقاهي، ليبدو قادراً على العيش «قلت لسولا لنرحـل، من الشوارع الجانبية جاءت مجموعات، كانوا مثلنا غارقين في الدقيق والألوان، والأولاد والبنات يتبادلون القبـلات، ويرفعون العصى والفئوس، والبنادق، ويتقدمون نحونا، صرخت سـولا ووقفت خلف ظهري تحت الجدار، فسقط الطحين فوقنـا من جديد، كان واضحاً أننا سنهاجم من كل مكان، وتقدمت الجموع، اقترب أحدهم من سولا، خلعت عصا مظلة المقهى، واندفعت نحوه فجرى هارباً، أحاطوني بالعشرات، وتعثـرت مع عصاي بالرصيف، وهجموا على سولا، فصرخت: لا تخف، لكنهم أغلقوا فمها، وحملوها بعيداً» وينتهي الحلم/ الكابوس لنعرف أنه ليس هناك خطر، وأن الأمر مجرد احتفال وطني يسمى «كاثاري ذفتارا» إنه يوم الاحتفال بالعيد النظيف، الذي يتجمـع فيه الأولاد والشبان والصبايا، يهربون للهضاب والوديان، والحدائق، لإحياء تقاليد بدء الصيام الكبير وإطلاق العنان للموسيقى والأغاني والرقص والمرح، وتذوق خبز «لاجانا» «والكبيس» والحلاوة وثمار البحر، قالت سولا: إنها لا تصدق أن هناك شخصاً يمكن أن يموت من أجلها، ويسـتعد للدفـاع عنها بالسلاح ضد قرية بأكملهـا…..
وتستمر جمــــاليات النص الخفي في الظهور، لتتجلى الكائنات والأشـياء بأجمل صورة، وفى أرق تعبير، لنتعاطف – رغم البؤس – مع كـل الموجودات التي تحتفل بالحياة في كل لحظة «أمر يومياً على ماريو، في الدور الأول، وأراه عندما يصحو، يتحدث لإصيص الزرع وزهرة وحيدة يرعاها بعناية».
وتنضج اللغة، لتثمر على سوقها، فينتشر، أريج القص ليمتلئ الهواء بطقس فريد من نوعه، وتخف اللغة وتشـف، كما تتخلص من أوزانها، لتنتج لنا نصـا فريدا في لغتـه، جميلا في موسيقـاه، وتصبح الموسيقى أداة دالة للفهـم والاستنارة، لتصبح لغة تومئ، ولا تشـير، لغة دالـة على الفعل، بعيدة المرامي « في آحاد الشتاء والمطر والثلج، يلوح دفء سوق «مونستراكي» بأسقفها المغطـاة، ودكاكينها الضيقة، هنا يباع كل قديم وجديد ومستعمل والأسعار مذهلة، بعشر دراخمات، بنطال أو قميص، هذا غير التحف، الهدايا، شورتات البحر، بدل جديـدة وفساتين بالأكوام، يفتحها المغامرون، على الرصيف، ويصرخون «إلا نو» «تعالَ هنا»، تلك البضاعة بلا عيوب تقريباً، لأنها بواقي المحلات، تتخلص منها، مع الموسم الجديد.
وفي وسط صيحات الباعة المشـترين، يتفتح وعـي الراوي على حب جديد طازج، ربما يدخل قلبه لأول مرة «اشتريت لخالتي تولا عقداً بمائة دراخمة بلون الفيروز، وسواراً أفريقياً من العاج بخمسين دراخمة لسـولا، ورجعت في الخامسة، لأجدهما في الحديقة، وقلت لهما «إن الشرع في بلادنا يسمح للرجل بالزواج بأربع ولهذا – وفتلت شاربي – سأتزوج بهما فوراً، وصفقـت خالتي تولا ضاحكة للفكرة، بعد أن طوقت عنقها بالعقد، وقبلتني في خدودي، وصبت من أجلى الشاي، وجلست سولا، تتأمل جمال السوار « ثم يتواصل الحديث شيقاً، ليجوب مناطق أخرى، مليئة بالحب والتفاهم بين الراوي، وسولا، قالت: إن البنات في المدرسة يتحدثن عن مغـامراتهن مع أقاربهن وأولاد الشارع وأنها ذهبت معهن لمقابـلة بعض الشباب، لكنها تذكرت جدتها وهربت، وضحكن عليها. قلت: ذلك أيضاً لا يهم، لأنك أجمل منهن جميعاً، قالت: وهل الرجل يحب البنت الخجـول التي بلا تجارب؟ قلت في بلادنا: يعشقونها بجنون، ماتت أم سـولا، وغاب أبوها، وعاشت مع «كيريا أنـا ماريا» جدتها، لترعاها، عند الباب قلت لها: هل تصدقيني؟
قالت: نعم، قلت: أنت أجمل بنـات أثينـا.
قالت: وأنت أجمل رجل في العـالم.
وعبر هذا العالم الشفيف الشفاف يتحرك الراوي ليخبرنا عن نهاية الرحلة المليئة بالعمل والحزن والحب والعذاب «وقبلتني في خدي، وهرولت تغني صاعدة، على السلم الخشبي، ولوحت جدتهـا من الشـباك».
– وتستمر الشمس لتخترق صقيع الشتاء، لتنمو على السوق وردة، وتنتعش الحياة، ويصبح هناك وقت للعشق وللحب وتتحرك اللغة لتفرض سيطرتها البنيوية، وتحيل الكون إلى أفق زاه شفاف، لا يمكن أن ينتهي، وتستمر قصص الغـرام لتلهم العشاق، وتجعل العالم أجمل، فيسترد الراوي إنسانيته، كما يستعيد كرامته، وسط حالات الحب والبطلان «على رصيف كافيتريا ميدان أمونيا يطير الحمام، والجرسونة السمـراء الدافئة ليلى، ترفرف بالميني جيب، بلون الشاي بالحليب، والقميص الأبيض، أفريقية الجمال، عيناها السوداوان، ورموشها الطـوال تبارك الخلاق، ونهداها يرتجان بعنف، والجوب ينحـسـر عن مؤخرة، وساقين سمراوين، يعجز عن مجاراتهما بنات أوروبا، عاكستها كالمعتاد، وجاءت صائحة، بوجهها البشوش – إنت تاني؟ قلت لها إنني سأحبها للأبد، وسأقرأ جريدة الأهرام، وأنصرف، وأعطيتها وردة برية من جبل بلاكا، فابتسمت ووضعـتـها في عروة الجاكيت».
– وتنفتح طيور الحب الخلاقة، لتحلق عاليا، في كل الأجواء، وترفرف فوق أجواء أثينا البيضاء، من كيسها الصغير، استخرجت دبوسا، وأمسكت يدى. قالت لا تتـألم، ووخزت إبهامي، ووخزت إبهامها، ووضعت دماءها على دمي، قالت: تلك عادة وثنية، لكن المسيح لن يغضـب لأني أحبك، رقصنا حتى الصباح، ورجعنا إلى أثينا، في آخر أتوبيس، غارقين في الدقيق والألوان، وهي نائمة على كتـفي…….
ويستمر القص متأثرا بنيكوس كازنتزاكي، الذي يبدو تأثيره واضحـا «في الطريق إلى جريكو» لنصل إلى النهاية، حيث نرى الراوي ينفتح على الواقع بكل تفاصيله، فيذهب إلى المبغى مستطلعاً، كما أنه يقع في شرك أكثر من فتـاة، لكن قلبه يظل معلقاً بسولا، لا تفارقه لحظة واحـدة….
حتى قبل أن يرحل مباشرة، لا يتمكن من نسيانها استوقفتني سولا عائدا من المطعم في آخر الليل، بالقميص الأبيض، والكرافتة الحمراء، قالت: لا أحد يراك، قلت: أعمـل في مكانين، لأجمع أكبر قدر من المال، وأعود..
قالت: هذا كثير، قلت: إنني مستعد أن أستقيل لأجل عيونها من كل أنواع العمل وأتفرغ… وقالت: لا، لا تفعل، لكن تعال، لنتجول قليلاً على البحر… اتفقت أن أراها في أيام الإجازة، لنتسكع، ونأكل أبو فروة، أو جيلاتي، وندخـل السينما، وذهبنا معاً إلى الملاهي، قالت: إنها وحيـدة، وبلا أسرة، تعيش مع جدتها وأنها سعيدة لأنني أخـوها…
وكانت تسألني: هل ذهبت لبيوت الدعارة؟ وماذا فعلت هناك، هل يمكن أن أذهب معك مرة لأرى ما تقول؟ وقلت مستحيل…..
إيقاعات النهاية
وتأتي إيقاعات النهاية، لتعلن الخاتمة لتلك الرواية الجميلة، حيث يرحل الراوي، وسط موسيقى هادئة، ويـذهب البطل بغير وداع، إلا من صديقتيه الحميمتين الخالة تـولا والصغيرة سولا « وضعت حقائبي في التاكسي، ونزلت سولا، واحتضنتني باكية، ورفعت عيني ورأيتها هنـاك تولا واقفة عند الشرفة، هرولت على السلم صاعدا، لفت حول عنقي كوفية صوف، كانت تصنعـها، وقالت مختنقة: اعتن بنفسك….»
ويغادر الراوي أثينا، بعد أيام اختلط فيها العذاب بالهوى، وتفتحت الدنيا على شباب وفتيان جاءوا ليعملوا، ويصيروا بوسط الحياة الشاقة والرائعة كبارا، والعمل يصبح عبارة عن بانوراما كبيرة، أو سـيمفونية واسعة، تتردد فيها الأصوات والنغمات، ليصبح عملا متكاملا، صحيحا، ليغرب عالما بأكمله، وسـط انشودة كبيرة من العذاب والمشقة، ليذهب الراوي بعيدا، بعد 25 عاماً، عاد ليجد أن المشاهد القديمة لم تعد كما كانت، « كنت أعرفك من 25 عاما، قال: ياااااااه، انتهى من الزبائن والميدان ما زال ممتدا أمامنا، وجلس إلى جواري، قلت أحدث نفسى: جرى بنا العمر يا كرياكوس….»
الراوي بعد 25 عاماً، يجد المكان غير المكان، والناس غير الناس، ليبحث دائما عن علاقاته القديمة، لكن دون جدوى، فيذهب إلى «ليلى» بائعة الفول والطعمية، لعله يجد لديها السلوى «مطعم ليلى خمسون طاولة في الشارع، بخلاف طاولات بصالات المطعم المكيف، عند مدخل المطعم رأيتها، وسط الزحام ليلى البورسعيدية، السمراء، تشخط وتنطر، والبعض يعاكسها، وجاء دوري، ما زالت جميلة برغم أنها تعدت الخامسة والأربعين، وقد عقصت شعرها ذيل حصان….»
قلت لها: إنني من مصر، فرفعت حاجبيها الجميلين، في مشاكسة، قائلة: يا مرحـب ما كل دول مصريين.. وكان الزبائن من حولنا يهتفون صارخين، ليلى، لولا، استعجالا للطلبات.. قلت لها: إنني قادم حالاً، وصحفي بإحدى المجلات، فانتبهت، وقالت: أي خدمة؟ قلت لها: أريد أن آكل، قالت: حاضر قلت: كمـا أنني أحبك من 25 سنة، تنمرت كأنثى، وقالت: نعـم؟؟
قلت: وتركت عندك أمانة وردة برية من جبل بلاكـا».
حدقت طويلاً وصرخت، قالت: لا تتحرك وسأعود بعد دقائق، عادت في قمة الأناقة، وصارت منضدتنا أهم طـاولة، كانت ترتدي صديرياً معقوداً برباط، يكشف عن بطنهـا الأسمر العاري وبنطلوناً أبيض وصففت شعرها بعناية، ووضعت قليلاً من المكيـاج…..
واستمرت ليلى معهم في رحلة البحث عن الأخ الغـائب حتى تمكنوا من العثور عليه….. بعد ثلاثة أيام، اتصـل أحدهم، وقال إنه جالس أمـامه الآن على المقهى، رأيته، ولم أتمالك نفسي، وبكيت منهاراً…. كان كأحد المتشردين في الشوارع، يطلق شعره، حتى ركبتيه، ويرتدي بنطلوناً ممزقاً وحذاءً من نوعين مختلفين، بكل قدم……..
ونعيش لحظات الشقاء والألم بعدما وجد أخاه مشـرداً، مهاناً، ذلك الذي رفض العودة إلى مصر، بعد أن باع المصنع والشقة، كما لم يتزوج، وبدأ ينقطع عن العمل، وعجز عن سداد إيجار المسكن، ونام في الشارع…….
ويخفت الإيقاع، لينتهي على لحن حزين، تزينه خيوط المأساة، ليصبح الراوي وحيداً، عاجزاً عن الفعـل، وتستمر المأساة، ليزور الراوي أثينا، للمرة الثانية، هذه المرة قد صار صحفياً، ورئيس جماعة الشـطرنج، يصبح في أثينا بعد أن غيرتها السنون تماماً، حتى أنه لم يتعرف على الأماكن القديمة، فقد تغيرت الأماكن، ومات من مات، لقد أصبحت أثينا أخرى… لم يكن يألفها في سوق مونستراكي، كانت الشـوارع خالية، ولم تكن هناك، لم تعد هناك دراخم، وسألت عن تي شيرت، وكان سعره لا يقل عن أربعين يورو، وشبشـب، وكان سعره ثمانين يورو، وانصرفت حزيناً، كانت الأسعار في اليونان ثلاثة أضعاف ألمانيا، والمدينة تئن تحـت وطأة اليورو….
وتنتهي السيمفونية بإيقاع ملائم، فنرى الراوي وقد عاد إلى مصر نهائياً….
وفي نهاية الرواية، يستمر الإيقاع في الخفوت إلى درجة الانتهاء، وتصبح، أثينا ذكريات جميلة، لا يمكن أن تنسى، لكن تبقى دائماً تلك الذكريات التي تقودنا إلى كل هذا الجمال، حيث تنعدم الأماكن وتغيب المدن وتذهب الأبدان، وفى الساعات الأخيرة تذكرت خالتي تولا، نزلت كاليثيا، وتجولت وحيداً، بالقـرب من السينما والشارع التجاري، وكانت تزيز يفير على بعـد محطتين، وتذكرت ملامحها جيداً..
كانت لا تبكي أبداً
لكنها احتضنتني باكية..
وقلت لها: إنني سأرجع، لأسأل عنها وكنت أعرف، وأنني لا أكذب وها أنا ذا أفعل وأسأل عنها، كنت خائفاً أن أعرف أنها ماتت.. تركتها وعمرها سبعون عاماً، ومضت ثلاثون سنة، وكنت أراها من بعيد، في ذلك المكان، ما زلت هناك……
وينتهي الإيقاع في حزن بالغ الدلالة، إنها قصة الحياة والمـوت، في سيمفونية رائعة من تأليف عادل سعد….
ــــــــــــ
* القاهرة.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *