*محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ ما هو الوطن؟ وكيف يمكن الشعور بمعناه؟ قد يبدو للوهلة الأولى أنه مكان الميلاد، ما بين الأسرة والأصدقاء، والشوارع والمحال، والألوان المألوفة والوجوه الأكثر ألفة. ولكن ماذا عن اختيار الوطن؟ الأمر الذي يحدث مُصادفة في البداية، هل يمكن أن تتوافر الفرصة لاختياره بعد ذلك؟ الأمر بمعنى أدق يبدو مقارنة ما بين التاريخ المفروض والمستقبل المُرتجى. هذه الرحلة تجسدها «إليش» الفتاة الايرلندية، التي تذهب إلى بروكلين، وتبدأ الاختيار عن وعي. لتصبح رحلة بحث لا عن وطن، بل عن معناه.
الفيلم مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه، صدرت في العام 2009 للكاتب الايرلندي «كوليم توبين» وسيناريو «نيك هورنبي» وإخراج «جون كرولي». بطولة كل من سواريس رونان، وإيموري كوهين، وفيونا جلاسكوت، ودومنال جليسون، وجولي والترز. الفيلم إنتاج ايرلندا، المملكة المتحدة وكندا، وتم ترشحه لثلاث جوائز أوسكار، أفضل فيلم، وسيناريو مقتبس عن عمل أدبي، وأفضل ممثلة لسواريس رونان.
عالم إليش
تدور أحداث الفيلم في خمسينيات القرن الفائت، وما بين عالم منعزل وجتمع شبه مغلق (ايرلندا) موسوم بالرتابة تعيش «إليش» وتعمل في محل بقالة، وتحت إمرة امرأة غاية في القسوة، وما بين أمها وشقيقتها روز التي تعمل حسابية بأحد المؤسسات بالمدينة، لا ترى أليش أي مستقبل، فتاة خجولة ومنطوية إلى حدٍ كبير، لا تستطيع حتى الفوز بمن يلتفت إليها. وبمساعدة أحد القساوسة وشقيقتها يتم تدبير طريقة لسفرها إلى الولايات المتحدة، تأمل روز بأن توفر فرصة حياة مختلفة لإليش، لتبدأ الفتاة رحلتها إلى العالم الجديد.
تعيش إليش في بيت للمغتربات الايرلنديات، وفي البيت يبدو المجتمع الايرلندي المغلق، محاولات للحفاظ على العادات والتقاليد، وأساليب المعيشة، من طعام وشراب وملابس إلى حدٍ ما. الأمر أشبه بنزل عسكري، ولكنه لا يخلو من بعض التجاوزات، أو الإفلات من قِبل الفتيات. تبدو إليش مختلفة ولم تزل تحيا حالة الانطواء، بل الخوف والحنين إلى وطنها، حيث الأم والشقيقة والأصدقاء، تعمل بأحد المتاجر الكبيرة، ويساعدها القِس في الالتحاق بدراسة ليلية، فتتقن المحاسبة. إلا أن عالم الاغتراب هذا لا يطول النساء فقط، بل جميع مَن حاولوا البحث عن عالم أفضل.
وفي مشهد دال، تتطوع إليش أن تقوم بخدمة بعض المسنين الايرلنديين في أعياد الميلاد، أن تشاركهم الاحتفال مع أخريات، وهنا تتساءل، ماذا يفعلون هنا، ولما لا يعودون ويموتون في بلدهم؟ ليأتي رد القِس، لقد نسوا الوطن أو هو الذي تناساهم، لأكثر من نصف قرن يعيشون هنا، فإلى أي مكان يذهبون؟! ترتعب الفتاة من الفكرة، تكتشف أنها سقطت في فخ، إلا أن الحب ينقذها، ويخلق لها يقيناً، ربما هو اليقين الوحيد في حياتها.
الرحيل والعودة والاختيار
ترتبط إليش بأحد الشباب المهاجرين أيضاً، إيطالي الجنسية، يشعر بالوحدة، رغم أنه يعمل ويعيش بين أسرته، بما جمعتهما الوحدة وحالة الانطواء، وهي سمة مشتركة بينهما. هنا ترى إليش العالم بنظرة أخرى، تبدو أكثر ثقة ونضجاً، وتنجح في دراستها وعملها ــ تجسد الممثلة سواريس رونان ــ هذا التحول في شخصيتها بأداء راقٍ، دونما افتعال، أن تصبح نظرتها أكثر قوة، ورأسها الذي لم تعد تنكسه من وقت لآخر، وصولاً إلى نبرات الصوت التي تحولت من الاضطراب إلى الثبات الشديد ــ ولكن بموت شقيقتها تضطر إلى العودة مرّة أخرى، وهناك تجتذبها بعض الأشياء في مدينتها، وقد أصبحت أكثر وعياً ونضجاً، فتتوافر فرصة عمل جيدة، ويحبها أحد الموسرين، وتبارك الأم هذه الحياة، وقد أصبحت وحيدة. تميل إليش لوقتٍ ما إلى هذه الحالة، لكنها تستفيق أخيراً، وتقرر العودة ــ لا الرحيل ــ إلى بروكلين. اللحظات العصيبة هنا جسدتها ما بين التمسك بتاريخها وما بين الأمل في المستقبل، خلق حياة جديدة، فقد أصبح لديها الاختيار الآن، ما بين البقاء أو العودة، هذه الحالة هي الأكثر صعوبة عن رحيلها الأول، فلا اختيار لديها كان، ولا أمل ينتظرها هناك، وهو أنها عثرت على مَن تحب.
معنى الوطن
وجدت الفتاة ضالتها في حبها للشاب الإيطالي، وشعرت أن هذا الحب هو الوطن الحقيقي، فلا مكان الميلاد ولا الموت هو ما يشغلها، أو يجعلها تفكر. لحظات التوتر في الاختيار كانت ضرورية، فالأمر أشبه باختبار أخير وصولاً إلى الإحساس بمعنى الوطن، وإتاحة فرصة الحرية دون الجبر أصعب، وقد عبّر السيناريو عن هذه اللحظات في وعي شديد، ومظاهر أغلبها مظاهر فرح، فرح خادع وقتي، لن يدوم. وإن كانت هذه المراوغة تخفي يقيناً بنهاية محتومة هي العودة مرّة أخرى، دون خوف من تقدم العُمر، ومعرفة مصير طابور المسنين في أعياد الميلاد.
حياة إليش
وبمقارنة بسيطة وذكية تحدث دوماً عن طريق الأماكن، ما بين غرف مقبضة وألوان قاتمة في أيرلندا، تتغير عند رحلة إليش الثانية، لتراها وهي الأكثر وعياً، وقد تفتحت الحياة أمامها عما تركتها، فتبدو الألوان أكثر زهواً، ما بين العشب الأخضر، وزرقة مياة البحر. ولكن في مشهد لافت على الشاطئ، يبدو الخواء والفراغ، لا الهدوء أو السكينة كما كانت تظن، بخلاف الرحلة البحرية التي خاضتها وحبيبها بأحد شواطئ بروكلين، حيث الصخب والرواد، لكنها كانت تشعر بألفة شديدة وتأقلم تام مع هذا العالم، وهذه الحياة، طالما وجدت مَن يحبها ويتفهمها، ويعيش من أجلها. وهناك خرجت من أسر بعض العادات والتقاليد، سواء على مستوى الشكل والملابس وكيفية التعامل مع الآخرين، هناك تجربة وثقة متزايدة ــ يذكر لها أحد شباب بلدتها أنهم لم يعرفوا شيئاً خارج أيرلندا، وفي لهجة ساخرة من وضعهم هذا يصف الأمر بالتخلف ــ ويحاول مجاراتها بأنه لا يتخيل الموت دون أن يغادر إلى أوروبا، وربما إلى نيويورك نفسها.
لتكن قصة حب
ورغم الرومانسية التي تغلف الأحداث، بغض النظر عن الكثير من المآسي، كموت شقيقتها، وترك أمها الوحيدة، إلا أن حالة الوعي والنضج، وبالتالي حرية الاختيار هي ما يُشير إليها الفيلم، فتغلب الفتاة على صعوبات الحياة ونضالها في سبيل ذلك، جعلها تستحق ان تحياها وفق هواها، وأن تتخلص من إرث تاريخها الثقيل، ومن إحساسات تعيق حياتها، وسيصبح انتظار الأمل ما هو إلا انتظار النهاية.
إعادة التفكير في هذه العلاقات هو أهم سمة من سمات حكاية الفيلم، التي جعلت من قصة الحب إطاراً لها، الأمر يتعلق بالشخصية وكيفية معاناتها حتى تصل إلى ما تريده في النهاية، وما الضياع إلا في توهم الاستقرار وأن تستسلم لما تعرفه، أو تعرف نهايته، وهو لم يكن أكثر يقيناً من بدايات جديدة، في ظِل قصة حب، إذاً فلتكن قصة حب.