رحلة البحث عني .. رواية حياة


*سالي شعراوي

( ثقافات )

ما بين الذكريات المفعمه بالزمن الجميل والقمم الشامخة ، إرادة التحدى وإثبات الذات رغم صعوبات الحياة الشخصية والنشأة ، تنتقل بنا الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم في كتابها الجديد ” رحلة البحث عني .. رواية حياة ” والذي جاء في 700 صفحة من القطع الكبير عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة إلى أجواء شديدة التميز مغايرة لواقعنا الحالي. 
مؤثرات الطفولة 
تتناول في مذكراتها تأثيرات الطفولة الجميلة التى انعكست عليها بعد ذلك فى حبها للأدب والموسيقى والفن التشكيلي ، فكل الاهتمامات لديها نابعة من الطفولة حيث كانت والدتها عاشقة للبيانو تعزف أنغام عبد الوهاب، وكانت تشاهد مسرحيات يوسف وهبي وهي صغيرة وتنبهر بالأجواء الساحرة للمسرح ، وتحدثت عن إعجابها وهي طفلة بالموكب الملكي، ومشاهدتها لوالدتها وهى ترسم .
بالتالى خلقت هذه الأجواء شخصية ميالة للإبداع بطبيعتها ما دفعها بعد ذلك للكتابة عن المبدعين بروح محبه فاقت انبهارها برؤوساء الدول والشخصيات السياسية التي عاصرتها فى فترة العمل الدبلوماسي ، لأن سحر الإبداع يفوق المناصب مهما كانت .
تحدي الظروف 
نتعلم من الكاتبة مبدأ إثبات الذات وتحدى الظروف على الرغم من النشأة التى شهدت توترات أسرية مثل وفاة الأم المبكر. زواج الأب بعد وفاة الأم. زوجة الأب ذات الطباع المغايرة للنشأة الراقية التى تمتعت بها الكاتبة، فكل ذلك لم يدفعها للاضطراب وإهمال الدراسة ( كما يحدث لبعض الشباب حديثي النشأة الذين يتذرعون باضطراب أوضاعهم المعنوية وعدم استقرار الأسرة كمبرر للفشل ) فهي سعت إلى إثبات ذاتها في وقت كانت فيه الطالبة الوحيدة التى تدرس الفلسفة بين الطلاب إلى أن ثابرت للحصول على الماجستير من لندن على الرغم من عدم مثالية ظروف زواجها الأول والتي لم يلعب الحب ( من طرفها ) الدور الأكبر فيه .
التأثر بالرموز الأدبية والتاريخية 
كان ارتباط الكاتبة بالشخصيات الكبيرة فى الفن والأدب عاملاً إيجابياً فى صقل اهتماماتها وشخصيتها ، ولم يقتصر فقط على مجرد الانبهار بشخصيات شهيرة والعمل على البقاء بقربها، فإحسان عبد القدوس ، محمد عبد الوهاب ، أحمد بهاء الدين لعبوا دوراً فى تأسيس ” مجلة الشموع ” التي أسستها لوتس عيد الكريم ورأس تحريرها أحمد بهاء الدين، كذلك دعمت علاقتها بالملكة فريدة حبها للفن التشكيلي. 
الوفاء فى شخصية الكاتبة 
ظهرت قيمة الوفاء لدى الكاتبة فى علاقتها بالمشاهير حتى بعد وصولهم إلى مرحلة الشيخوخة ( صلاح طاهر ، مصطفى محمود ) واهتمامها بالتواصل مع بنات وأحفاد الملكة فريدة بعد وفاتها مما يعبر عن إعلاء الجانب الإنساني فى علاقتها بمن حولها وليس فقط التركيز على المشاهير وهم في دائرة الضوء. 
تلقائية وصراحة 
دوما حرص كبار الكتاب على الحديث على سجيتهم عند سرد حياتهم استناداً إلى مبدأ الصراحة التى لن تضر مكانتهم بحال من الأحوال بعد ما حققوه من نجاحات ومكانة فى قلوب الناس وسعياً إلى تعميق الرابطة الروحية بينهم وبين القراء، حيث اتسمت الكاتبة بالتلقائية والصراحة فى الحديث عن مشاعرها ونشأتها فى الطفولة والشباب ، مما يضفى عنصر التشويق المشجع على القراءة مما لا يتوفر فى حالة المذكرات التى تسعى إلى إبراز اصحابها وكأنهم فوق البشر نشأوا فى أوضاع مثالية وأسرية تعبر عن نماذج لا توجد بطبيعتها فى الواقع المعيش ، حيث كانت الكاتبة تلقائية فى التعبير عن شعورها تجاه أفراد أسرتها ، رأيها فى زوجها الأول ، موقف المجتمع الكويتي من زواجها الثاني . تفاصيل عن المشاهير مثل علاقة الموسيقار عبد الوهاب بزوجته الثالثة نهلة القدسي ( والتى تبدو مغايرة للانطباع الإيجابى السائد عن زيجة الموسيقار الأخيرة ) بالإضافة إلى تلقائيتها في الحديث عن ذاتها في مرحلة المراهقة ولقائها الأول بالكاتب يوسف السباعي ، وتجاربها العاطفية الأولى ( وإن كانت تبدو وكأنها لم تشارك فيها من طرفها ) حيث سردت قصة حب رجل لها من طرف واحد تبدو أقرب إلى الأفلام السينمائية القديمة فى عذوبتها وتعبر عن رومانسية الزمن الجميل من خلال شخص أحبها واستمر في التعلق بها رغم مرور السنوات وكيف أنه كتب عنها فى مجموعة رسائل يحلل شخصيتها ونزاعاتها النفسية .
وهذا نموذج للكاتب الذى يقدم نفسه للقارئ على أن صديقا يبوح بذات نفسه وينقل تجربته بكل أبعادها الإنسانية العميقة والبسيطة في آن .
وهذه التلقائية تذكرنا ببساطة كتاب كبار فى الحديث عن حياتهم مثل توفيق الحكيم ( سجن العمر ) الذي تضمن ذكرياته عن والده ووالدته ، وكيف أن من أهم النماذج فى حياته التي ربطته بالفن كانت ” عالمة من شارع محمد علي عرفها فى طفولته ” الأسطى حميدة ” ، رغم مما فى هذا النموذج من تنافر مع الانطباع الذي يأخذه القارئ من كتابات الحكيم على أنه نموذج للرقي الفلسفى والروحي بالإضافة إلى ارتباطه بباريس والأوبرا …إلى آخره .
نموذج آخر هو عبد الحميد جودة السحار ( هذه حياتي ) الذى كان على سجيته تماما فى سرد طفولته التي كان من أبرز أبطالها شخصيات أقرب ما تكون إلى الفكاهة كالندابة التى عرفها فى طفولته وكيف أن الموت سيطر عليه كفكرة فى طفولته إلى درجة أنه لم يفكر في الاهتمام بالدراسة لأنه لا فائدة من كفاح الإنسان طالما أن الموت هو المصير ” .
جلال أمين نجل أحمد أمين فى مذكراته ( رحيق العمر – ماذا علمتني الحياة ) الذي تحدث بصراحة شديدة عن علاقة والده بوالدته ، وكيف أن والده أحمد أمين كان يتمنى الزواج بامرأة جميلة وكتب ذلك في دفتر يومياته بالإنجليزية حتى لا تقرؤها زوجته التى لا تتقن اللغات فى حال وقوع المذكرات يوما في يدها .
كذلك من ضمن المذكرات التى اتسمت بالصراحة نوع آخر من السيرة الذاتية كتبته النبيلة نيفين عباس حليم ابنة النبيل عباس حليم ذي الميول المناصرة للفقراء ومؤسس حزب للعمال قبل ثورة يوليو 1952، حيث سردت بصراحة مقتطفات من حياة والدها ووالدتها وموقفها منهم بالإضافة إلى تطرقها إلى حياتها العاطفية والزوجية فى شبابها بأسلوب بسيط وغير متزمت ( آخذا في الاعتبار مكانة أسرتها التاريخية العريقة ). 
لذا يعد كتاب الدكتورة لوتس عبد الكريم استمرارية لهذا النهج الصادق فى التعبير عن خلجات النفس ، فالكتابة الصادقة هي التى تكون قريبة من نفس القارئ وهو ما يظهر بوضوح لدى الكاتبة .
ملكة تبكي فوق العرش 
دوما يغبط المجتمع من يتمتعون بالأضواء والحياة الاجتماعية الصاخبة ظناً منهم أن النجاح المادي والاجتماعي فى الحياة يصنع سعادة الإنسان ولكن غالباً ما يسيطر على روح الإنسان الوحدة حتى فى ظل كل ذلك البريق ، وكان ذلك حال الكاتبة حينما نبذت مزايا الحياة الدبلوماسية بكل ما بها من متع وفرص وطلبت الانفصال من زوجها الأول حيث لم تستطع كل الميزات الاجتماعية أن تنتشل ذاتها من وحدة القلب على حد تعبيرها ، وفى شكواها إلى الكاتب الكبير يوسف السباعي استنكر كل ما تعانيه وقال لها ” أنت ملكة تبكى فوق العرش ” ، كذلك عندما سألت الكاتبة الملكة فريدة عن سبب غضبها من الملك فاروق ونفاد صبرها رغم أنه من المفترض أن تتغاضى عن كل هذه الأمور لأنها ملكة ، استغربت منها الملكة فريدة هذا التعليق على أساس أن لوتس عبد الكريم ذاتها تمردت على عرش الدبلوماسية ولم تصبر على المعاناة لمجرد التمسك بالمظاهر .
مدن العالم بعيون لوتس عبد الكريم 
خصصت الكاتبة قسماً كبيراً من ذكرياتها لفترة الدراسة فى لندن ، اليابان ، تنقلها بين العديد من المدن الأوروبية ، وانطباعاتها عنها حيث لفت نظرها ما لحق بلندن ( على سبيل المثال ) من تدهور عبر السنوات وما لحق بها من مظاهر سلبية لا تتشابه مع لندن السبعينيات الراقية والتي ارتبطت فى ذكرياتها بالنبل والرقي ورؤيتها للعديد من أفراد الأسرة المالكة البريطانية ، ويذكرنا ذلك بمقالة للكاتب مصطفى محمود يقارن فيها بين الزمن الماضي والحالي ويقول إن العزاء لنا هو عموم التدهور الثقافى والاخلاقي فى كافة بلاد العالم المتقدمة والنامية على السواء ، وتساءل ” هل لندن وباريس الاربعينيات مثل لندن وباريس الثمانينيات والتسعينيات ، فالمنحنى الهابط فى القيم والسلوك العام ينعكس على كل الدول .
كذلك سردت الكاتبة انطباعها الذى شابه النفور تجاه الولايات المتحدة الأمريكية التى يسيطر عليها الطابع المادي ، وكيف أن نفس الكاتبة تعكس ما ترى طبقاً لحالتها النفسية ، فالمدينة الجميلة التى تعجب بها فى إحدى الزيارات تراها قاتمة فى مرة أخرى طبقاً لحالتها النفسية ، وفى ذلك تأكيد على أن الجمال فى الأماكن وشعور النفس به ينبع من داخلها ، فالنفس التى يشوبها الراحة ترى الوجود جميلاً بعكس النفس القلقة التى لن تشعر بالجمال وإن كانت فى أروع مدن العالم ،وبالتالي سرد الكاتبة لانطباعاتها حول المدن ليس تقليديا فهو لا يقتصر على الانطباعات الخارجية كما تراها العين ولكن أيضا كما تراها الروح والنفس فى تقلباتها المختلفة .
فاتورة الحياة والآلام 
ترى الكاتبة أن كل ما منحته لها الحياة من متع وبريق مادى واجتماعى صاخب كان من منطلق أن هذه الحياة تسترد باليد اليمنى ما أعطته باليسرى أضعافا مضاعفة ، ففي ختام الكتاب روت الكاتبة نموذج معبر عن أرقى العلاقات الإنسانية بين الأم والابن الذي فقدته فى ريعان الشباب ، وكيف أن الفقدان يزلزل روح الإنسان ويجعله يعيد نظرته إلى الحياة حيث يصهر الألم النفس ويذيب الكثير من المتع ومسببات السعادة ، وفي الواقع فإن تجربة حياة الكاتبة تمثل الصراع بين الإنسان والحياة في أوضح صورة بين ما تعطيه الحياة وما تأخذه ، ويتذكر المرء فور انتهائه من مذكراتها مقالة توفيق الحكيم ” الكرات الثلاث” وهى الصحة ، المال ، السعادة ( راحة البال) وكيف أن لا أحد يستطيع الاحتفاظ بالثلاث كرات فى الوقت ذاته ، فكثيراً ما يصاحب التفوق المادي روحا معذبة قلقة ، وكثيراً ما يتمتع من يفتقر إلى الكثير من مباهج الحياة بروح باسمة رغم كل الظروف .
وفى هذا السياق استشهدت الكاتبة الدكتورة لوتس عبد الكريم برأي لأحد الكتاب وهو أن السعادة هي محاولة التركيز على الحاضر ونسيان الماضي ، إلا أن مشكلة الإنسان الرئيسية تكمن في كيفية تطبيق ذلك بخاصة وأن روح الإنسان مرآة تتجلى فيها أبعاد الزمن الثلاث في الوقت ذاته ( الماضى – الحاضر – المستقبل ) والماضي يؤثر على قرارات الحاضر ونظرة الإنسان إلى المستقبل ، وعلى سبيل المثال سبق أن تحدث مصطفى المنفلوطي في كتاب” النظرات “عن ما يشابه هذه القضية حينما قال إن الإنسان فى العادة يرفض الحاضر ويفكر دوما فى المستقبل وهو بذلك لا يعيش الحاضر ولا يضمن أن يأتى المستقبل كما يشتهي ، ولكن هكذا الإنسان يصعب إخضاع نفسه للقواعد والمقاييس التقليدية ، فمثلا رفض مصطفى محمود نصائح الثراء والسعادة وكسب محبة الناس الموجودة في الكتب انطلاقا من أن فطرة الإنسان هى التى تساعد على ذلك بالأساس ولكن تبقى الكتب دوماً خير مصدر للدعم النفسى والروحى بجانب متعتها العقلية والذهنية .
إذن فالتجربة الثرية للكاتبة حافلة بالخبرات والذكريات مع القمم الذين تحدثت عنهم بصفاء روحى بعيداً عن طابع التحيز ( سلبا – ايجابا) أو الإثارة الصحفية التى تنتشر بوضوح عند الكتابة عن المشاهير فى الفن والسياسة ، بالإضافة إلى عمق التجربة الإنسانية بكافة جوانبها المشرقة والمؤلمة .

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *