*د. هــدى المجـاطي
خاص ( ثقافات )
صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع (القدس) كتاب “الحملات الاستعمارية الأوربية على الشرق العربي الإسلامي في العصور الوسطى، للمؤلف د. أشرف صالح محمد، من الحجم المتوسط في (177) صفحة، ويتناول الكتاب عددًا من الدراسات المتخصصة في تاريخ الحملات الاستعمارية الأوربية على الشرق العربي الإسلامي.
الدراسة الأولى حول “الشرق العربي في فكر الغرب الأوربي”، ركز فيها على ّإرهاصات الحروب الصليبية مؤكدًا في مقدمة هذه الدراسة على أن العلاقات بين الشرق الإسلامي والغرب الأوربي تشكل جانبًا هامًا في دراسات العصور الوسطى سواء في الشرق أو الغرب، فهي تلقي الضوء على طبيعة ونوعية الصراعات بين قوتين لكل منهما تكوينها السياسي والإنساني والحضاري المختلف.
ومن روافد الحركة الصليبية الحج إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، فهو الدي هيأ الحروب الصليبية فكريًا وعمليًا؛ فقد أسهم في تعاظم الأمزجة والميول الدينية الزهدية، وعَرّف الأوربيون على الطرق إلى الشرق وعلى الوضع في البلدان الشرقية.
تطرق المؤلف في هذا الصدد إلى المقدسات المكانية المسيحية في القدس، والتي تعود إلى عهد قسطنطين، مشيرًا إلى أن توالي بناء الكنائس عبر العصور هو الذي جعل القدس هي المدينة المقدسة بامتياز، ومركز الحج الأهم في العالم المسيحي كلـه.
انتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الأوضاع السياسية المرتبكة التي ميزت الشرق العربي الإسلامي قبيل الحروب الصليبية، وعن بيت المقدس عشية هذه الحروب، فمدينة القدس لعبت دورًا هامًا غير مسبوق في التاريخ، رغم ما تعرضت له من حصار وهدم وهجر، حتى أنها أعيد بناؤها ثماني عشرة مرة في التاريخ.
الدراسة الثانية خصصها المؤلف “للكنيسة في بيت المقدس”، مركزًا في البداية على تنظيم الكنيسة الذي بدأ مع بداية اختيار البطريرك، وكان ذلك العمل منطقيًا، فقد كانت بطريركية بيت المقدس خالية من بطريريكها الأرثوذكسي الذي ترك المدينة قبل فترة قصيرة من قدوم الصليبيين، كذلك فإن اللاتين كانوا الغالبية المسيطرة على المدينة المقدسة حينذاك.
وفي السياق نفسه، وافق التنظيم الكنيسي في مراحله المختلفة اهتمامًا كبيرًا بتشييد الكنائس أو إعادة بناء وترميم القائم منها من قبل. ولم يكن غريبًا أن يلجأ الصليبيون إلى تشييد الكنائس بالأراضي المقدسة رغم وجود العديد منها، ومرد ذلك ما كان يجتاح أوربا في تلك الفترة من حماس ديني جارف. وعن ثروات الكنيسة ومصادر الدخل، كانت الهبات التي تتلقاها الكنائس هي أفضل مصادر توفير المال، لأن بعض الكنائس والأديرة لها نصيب كبير من الشهرة، فإن نصيبها كان أكثر من الباقيات. وتبعًا لذلك، كانت الكنيسة تشارك فعلاً في حروب المملكة، بتوفير خدمة احتياطية طارئة بعدد معقول، ولم تتوقف مشاركتها عند هذا الحد، بل ساهم البطاركة أنفسهم وبصورة فعالة في حروب المملكة. ومع اهتمام الكنيسة بالجانب الحربي، فإنها لم تهمل واجباتها الروحية، وقد كانت الكنائس –إلى جانب أعمال العبادة- تؤدي واجبها نحو الحجاج باعتبارها مزارات مهمة في موسم الحج.
أما موضوع الدراسة الثالثة، فقد انصب حول “الدور المجتمعي للعلماء المسلمين في جهاد العدوان الصليبي”، فقد برز دور العلماء والمفكرين في المشاركة العسكرية والسياسية إلى جانب دورهم الرئيس في العطاء الديني والفكر الثقافي. فرسموا الطريق لتجاوز وتخطي التحديات، ووضعوا برامج العمل وجددوا الإحياء والإصلاح، فبرز جهدهم الكبير أمام تحدي الفكر الإسماعيلي والباطني يعظوا الناس ويرشدونهم في أمور دينهم.
الدراسة الرابعة والأخيرة خصصت “لفن التفاوض الأيوبي الصليبي”، بدءًا من وضع الجانب الصليبي والمفاوضات مع المسلمين، إلى فكرة المصاهرة السياسية وظهور عسقلان على طاولة المفاوضات، ثم الديبلوماسية الأيوبية الصليبية، واختتم الكتاب بملحق تضمن شكلاً تخطيطيًا للقدس في زمن المسيح، وأربعة خرائط مرتبطة بالموضوع.
الكتاب يتميز بأسلوب علمي دقيق ولغة سليمة، ويعجب القارئ بغنى وتنوع المادة المصدرية (كتب عربية وأجنبية ومقالات ودراسات ذات صلة)، ولا يكتفي المؤلف بما هو وارد في تلك المصادر، بل يدخل في نقاش مع تلك المادة بالانتقاء السليم، مما ينم على سعة اطلاعه وجديته في البحث وبذله لجهد متواصل لإخراج هذا العمل الذي يُعَدّ بحق قيمة مضافة للمكتبة العربية عمومًا ولتاريخ الحملات الاستعمارية الأوربية على الشرق العربي الإسلامي على وجه الخصوص.
________
* كاتبة وأكاديمية من طنجة – المغرب